الصادق الغرياني... الإفتاء على خط مسار الثورة الليبية

الصادق الغرياني... الإفتاء على خط مسار الثورة الليبية

02 يوليو 2016
أصبح الغرياني المفتي في عام 2012 (محمود تركية/فرانس برس)
+ الخط -
يُعتبر المفتي الصادق بن عبد الرحمن الغرياني (74 عاماً) من أبرز علماء ليبيا، وقد لقيت مؤلفاته التي زادت عن الأربعين كتاباً، قبولاً في الأوساط الإسلامية، لا سيما مدوّنة "الفقه المالكي"، التي تُعدّ أبرز مراجع المذهب المالكي في العصر الحديث. تحصّل الغرياني على درجات علمية رفيعة من عدد من الجامعات المحلية والعربية والأجنبية، قبل أن يتولّى التدريس بالجامعات الليبية طيلة ثلاثين عاماً. وهو الرجل الذي يدور الجدال حوله ليبياً.

عُرف الغرياني ببرامج الفتاوى، التي لقيت قبولاً في الأوساط الليبية، التي كانت تبثها قنوات محلية مقرّبة من سيف الإسلام، نجل العقيد الراحل معمّر القذافي، في العام 2007. ولكن شخصية الغرياني لا تزال محل جدل واسع، إذ يتهمه البعض بالولاء لما جرى الحديث عنه تحت عنوان "مشروع سيف الإسلام القذافي الإصلاحي"، إبان العقد الماضي من القرن العشرين، بينما ينسبه مراقبون إلى جماعة الاخوان المسلمين بعد اندلاع ثورة فبراير/شباط 2011. وقد برز الغرياني كشخصية إسلامية مؤثرة في الأوساط الليبية بعد خروجه في كلمة مسجلة بعيد انطلاق ثورة فبراير، مطالباً الليبيين بالوقوف ضد القذافي، وأفتى بـ"وجوب الجهاد ضد طغيان كتائبه".

وإثر انتصار ثورة فبراير وسقوط نظام القذافي، أعلن المجلس الوطني الانتقالي في فبراير 2012، عن تأسيس دار الإفتاء الليبية وتولية الغرياني مفتياً عاماً للبلاد. خلال هذه المرحلة عُرف الغرياني بالانحياز لــ"الثوار" والوقوف ضد أي محاولة لإجهاض الثورة، تحديداً من قبل اللواء المتقاعد خليفة حفتر في بنغازي قبل عامين.

ومع أن الغرياني يحظى باحترام وولاء الكثير من الثوار حتى الآن، إلا أنه تعرض لحملة انتقادات واسعة، من بينها استمراره في تولّي دار الإفتاء وفتاواه التي اعتبرها الكثيرون خروجاً عن تخصصه الفقهي، وتدخّلاً في الشؤون السياسية. بل مضى معارضوه أكثر من ذلك، إذ اعتبروا فتاواه "محرّضة على إراقة الدماء وعرقلة جهود السلام".




وكانت أولى محطات الغرياني المثيرة للجدل، مطالبته إبّان إجراء أول انتخابات برلمانية في العام 2012، الليبيين بعدم التصويت لحزب "تحالف القوى الوطنية" بقيادة محمود جبريل، باعتباره "حليفاً لليبرالية". وفي مارس/آذار 2013 أفتى بحرمة الخروج للتظاهر ضد عزم "المؤتمر الوطني" (برلمان طرابلس) إصدار "قانون العزل السياسي"، معتبراً أن "إصدار القانون واجب شرعي لإبعاد من عمل في منظومة نظام القذافي من الحياة السياسية".

وبرز الغرياني بشكل أكبر خلال إطلاق عملية "فجر ليبيا"، معتبراً أن "القتال ضمن صفوف العملية، جهاد ضد كتائب الزنتان بطرابلس، الموالين للانقلابي حفتر". كما برز مجدداً أثناء معارضته بشدة انضمام "المؤتمر الوطني" والمجلس البلدي لمصراته، إلى عمليات الحوار السياسي في الصخيرات المغربية، قبل أن يعدل عن رأيه، مشترطاً قبوله بالاتفاق السياسي على إبعاد البرلمان وحفتر من المفاوضات السياسية.

وفي مارس/آذار الماضي، طالب الغرياني المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، بالخروج من طرابلس و"تجنيب البلاد إراقة الدماء"، لا بل توعّد في ظهور تلفزيوني له أخيراً، داعمي حكومة الوفاق بـ"عذاب من الله".

وعلى الرغم من كثرة التصريحات طيلة السنتين الماضيتين، التي اعتبرته عضواً بارزاً في جماعة الاخوان المسلمين، التي تتهمها أطراف عدة بدعم مقاتلي "فجر ليبيا" و"مجلس شورى بنغازي" ودرنة، إلا أن حزب "العدالة والبناء" المحسوب على الإخوان المسلمين، ردّ على ما اعتبره "ادعاءات الغرياني" في وصفه لحكومة الوفاق بـ"حكومة الوصاية الدولية". وطالبه الحزب بـ"العودة إلى رشده"، ودعاه نهاية مارس الماضي إلى "مراجعة موقفه حيال الاتفاق السياسي وحكومة الوفاق"، على اعتبار أن الغرياني وصف الاتفاق السياسي بأنه "استهداف للثوار، وحيلة دولية لتمكين مشروع حفتر الانقلابي من البقاء في البلاد، تحت رعاية حكومة الوفاق". 

كما أنه على الرغم من تعاقبات المشهد السياسي الليبي وخلفياته العسكرية، إلا أن تصريحات الغرياني وفتاواه، كوّنت على طول خط مسار الثورة طيلة خمس سنوات، ما يُمكن وصفه بـ"ثنائية دار الإفتاء والثوار". وأظهرت مواقفه انحيازاً للثوار ومعارضة كل ما من شأنه تهديد الثورة، فقد شرعن قتال المجموعات المسلحة التابعة للزنتان والموالية لحفتر، من قبل مقاتلي عملية "فجر ليبيا" نهاية عام 2014. كما أفتى بوجوب مشاركة الثوار في "عملية الشروق"، التي أطلقها "المؤتمر الوطني" مطلع العام الماضي ضد مقاتلي "حرس المنشآت النفطية" لتحرير مواقع النفط في الهلال النفطي. واعتبر أن القتال في صفوف مجالس شورى بنغازي ودرنة ضد قوات حفتر "واجب شرعي".

وشكّل الغرياني دعماً كبيراً للمعارضة التي واجهت مشروع حفتر، منذ إعلانه عن "انقلاب تلفزيوني" في فبراير عام 2014، ثم تصاعدت فتاواه بشكل أكبر بعيد إطلاق حفتر عمليته العسكرية "الكرامة" في مايو/أيار من العام عينه في بنغازي.




كذلك اعتبر الغرياني مسميات "فجر ليبيا " و"مجالس الشورى" غير صحيحة، وطالب في منشور على موقعه الرسمي "بالتوقف عن استعمال هذا المفهوم الخاطئ للحياد، فليس هناك إلا حق وباطل، لأنه لا يمكن التسوية بين كتائب القذافي ومن يقاتلون معهم، وبين الثوار الذين يقاتلونهم".

وفي الآونة الأخيرة، ورغم تغيّر المواقف السياسية وربما توازنات القوى العسكرية على الأرض في البلاد، بعيد توقيع الاتفاق السياسي من قبل أغلب الأطراف الليبية، وتمكن المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق من الدخول لطرابلس، إلا أن الغرياني لا يزال يعتبر "المؤتمر الوطني العام" صاحب الشرعية.

في هذا السياق، يرفض أن تكون معركة سرت برعاية المجلس الرئاسي، الذي وصفه بـ"الساعي لاستغلال جهود الثوار في سرت لمصلحته وهو لا يقدم لهم شيئاً". وطالب المقاتلين  بـ"المضي في معركة سرت ثم الانتقال إلى بنغازي، كون إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وحفتر وجهان لعملة واحدة"، بحسب وصفه في بعض دروسه. وفي موقف أكثر عداء، طالب الغرياني الحقوقيين برفع دعاوى قضائية ضد حفتر في المحاكم الأميركية، لكونه حاملاً لجنسيتها، معتبراً أن "المجلس الرئاسي يحاول استغلال جهود الثوار لمصلحته، وهو لا يقدم لهم شيئاً".

وفي آخر تطور لتصريحات وفتاوى الشيخ الغرياني، أعلنت مجموعة من قادة الثوار السابقين في الثاني من يونيو/حزيران الماضي تأسيس "سرايا الدفاع عن بنغازي". وفي بيانهم التلفزيوني، الذي ظهرت خلاله قيادات من الثوار في بنغازي ومصراته، من بينهم العميد مصطفى الشركسي وإسماعيل الصلابي، أعلنت سرايا الدفاع عن دعمها ومساندتها لمجلس شورى الثوار في بنغازي وإمدادهم في قتالهم ضد قوات حفتر. وأكدوا أيضاً أن مرجعيتهم هي "دار الإفتاء برئاسة الصادق الغرياني"، نافين انتماءهم "لأي حزب أو تنظيم داخل أو خارج ليبيا". وهو الإعلان الذي باركه الغرياني في اليوم التالي، حاثاً الثوار على إنقاذ البلاد من "طغيان الانقلابي حفتر وأعوانه في شرق البلاد".

وعلى غير المتوقع، كان الظهور العسكري الأول لسرايا الدفاع في جنوب أجدابيا، حيث أعلن الشركسي عن سيطرة مجموعة مسلحة بقيادته تحت مسمى "غرفة تحرير أجدابيا"، أخيراً على مواقع عسكرية جنوب المدينة كانت في قبضة موالية لحفتر، لتتضارب الأنباء من وقتها حول من يسيطر بشكل فعلي على جنوب المدينة.

وفي مشهد يعكس ضبابية أكثر حول ولاءات المجموعات المسلحة وطبيعة المعارك في البلاد، اعتبر المجلس الرئاسي في بيانٍ منذ أكثر من أسبوع، أن "هذه المجموعة المسلحة مليشيات مارقة عن شرعية الدولة"، مطالباً "قوات الجيش بالتصدي لها في أجدابيا"، قبل أن يعلن وزير الدفاع المفوض في حكومة الوفاق المهدي البرغثي، تكليفه "حرس المنشآت النفطية" باخراج هذه المجموعة المسلحة من جنوب أجدابيا. وتكشف التصريحات الأخيرة للشركسي، الذي تولّى منصب رئيس أركان القوات الجوية في حكومة المؤتمر، مزيداً من التعقيد عندما أعلن عن امتلاك قواته لـ"أربعة أسراب من المقاتلات الجوية". وتحت إمرته، نُفّذت طلعات جوية على مواقع "داعش"، في بوقرين الشهر الماضي. ولا تزال تلك القوات تقاتل في سرت، وفقاً له. ونفى الشركسي أن "يكون مقاتلو الثوار وسلاح الجو في سماء سرت تابعين للمجلس الرئاسي"، بل يؤكد أن "سلاح الجو التابع له شارك في عملية السيطرة على مواقع عسكرية جنوب سرت". وينوّه إلى أن "سرايا الدفاع عن بنغازي ستتوجه قريباً إلى بنغازي، بعد أن حررت جزءاً من أجدابيا".

وفي حين لم يفصح الشركسي عن مكوّنات قوته العسكرية بوضوح، مكتفياً بالقول إنها "تضمّ الثوار والعسكريين"، قال المتحدث باسم قوات حفتر، أحمد المسماري، أخيراً، إن "القوة المسلحة التي هاجمت جنوب أجدابيا، مؤلفة من خمسين سيارة حديثة مسلحة، وعدد من الآليات الثقيلة". وأضاف أن "إمدادات عسكرية تصلها من قاعدة الجفرة، جنوب غرب البلاد، عابرة في عدد من الحقول النفطية لضمان عدم قصفها جواً".

وإذا ما كانت قوات حفتر، الموالية لبرلمان طبرق (المطعون في شرعيته من المحكمة الدستورية) قد اتضحت مكوناتها على مدار العامين الماضيين، فإن تحركات أنصار دار الإفتاء في أجدابيا أخيراً، أثارت أسئلة حول مكوّنات الجيش الذي يقاتل "داعش" في سرت، ما إذا كانت تبعيته بشكل كامل للمجلس الرئاسي. كما يطرح سؤال آخر نفسه حول ماهية نية قادة "سرايا الدفاع" من خلال إعلانهم عن حصر تبعيتهم لدار الإفتاء، وارتباطها بإعلان براءتهم من عناصر مقاتلة من تنظيمات مثل "أنصار الشريعة"، تدّعي تبعيتها لمجالس شورى بنغازي ودرنة.