استفتاء بريطانيا بارتدادات عالمية: خوف من تمدد الانسحابات الأوروبية

استفتاء بريطانيا بارتدادات عالمية: خوف من تمدد الانسحابات الأوروبية

12 يونيو 2016
حذّر كاميرون من حرب عالمية بخروج بريطانيا(ديلان مارتينز/فرانس برس)
+ الخط -
نقل رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، استفتاء 23 يونيو/ حزيران الحالي حول مستقبل عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي إلى بُعد عالمي، عندما قال قبل أسابيع إن "السلام في أوروبا قد يكون مهدداً"، وإن "التصويت لصالح خروج المملكة من الاتحاد الأوروبي قد يُؤدي إلى نشوب حرب عالمية ثالثة". وفي إشارة أخرى إلى أهمية بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، قال كاميرون إن من مصلحة المملكة المتحدة البقاء في أوروبا تجنباً لنزاعات بين الدول الأوروبية مستقبلا. وتابع كاميرون: "في ظل الوضع الدولي الحالي الخطير، فإن التعاون ضروري بأوسع شكل ممكن مع جيراننا الأوروبيين"، مشيراً إلى التحديات التي يطرحها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وروسيا، وأزمة اللاجئين.
ولا شك أن توسيع كاميرون لدائرة الجدل حول مستقبل بلاده في الاتحاد الأوروبي، جاء بمثابة دعوة للكثير من المسؤولين الدوليين والأوروبيين إلى التدخّل بشكل مباشر للتأثير في اتجاهات الشعب البريطاني، وتحديداً لجهة بقاء بريطانيا في الاتحاد، وهو الاتجاه الذي يدعمه كاميرون. 
وبالفعل فقد شهدت الأسابيع القليلة الماضية تدخّلات وتصريحات عالمية دعت في معظمها إلى ضرورة بقاء بريطانيا داخل الاتحاد، وجاء آخرها من قادة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى في اليابان، والذين حذروا من مغادرة بريطانيا المحتملة للاتحاد الأوروبي، "مما سيؤثر سلبياً على التجارة العالمية والاستثمارات وفرص العمل، ويشكّل تهديداً خطيراً على الاقتصاد العالمي". في المقابل، علّقت الكاتبة في صحيفة "ذا ميرور"، سوزي بونيفيس، على تحذير كاميرون من أن التصويت لصالح خروج المملكة من الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء قد يتسبب في نشوب حرب عالمية ثالثة، قائلة "إنه لمن الجنون أن تكون الدعوة هي للتصويت على نشوب حرب عالمية ثالثة من عدمه".

مصير أوروبا
تعتبر دوائر سياسية واقتصادية دولية على جانبي الأطلسي، في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، أن الاستفتاء حول مصير عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي لم يعد شأناً بريطانياً داخلياً، بل بات مسألة أوروبية ودولية تهدد بوقوع انقلاب في المشهد الدولي العام. ويرى الكثير من المسؤولين الأوروبيين أن البريطانيين لا يصوّتون فقط على خروج المملكة من الاتحاد، وإنما على مصير الاتحاد الأوروبي برمته، فبريطانيا واحدة من أهم القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية في الاتحاد الأوروبي، وفضلاً عن كونها عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي، هي دولة نووية في حلف شمال الأطلسي، وبالتالي فإن خروجها من الاتحاد الأوروبي قد يُؤثر سلبياً على أوروبا، وقد يؤدي إلى تراجع مكانة الاتحاد الأوروبي على الساحة العالمية ويجعل منه قوة من الدرجة الثانية، وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس حين قال إن خروج بريطانيا سيؤثر على "رؤية العالم لأوروبا".
كما يخشى الأوروبيون أن يُشجع خروج بريطانيا من الاتحاد دولاً أخرى على إجراء استفتاءات جديدة للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، لا سيما أن العديد من استطلاعات الرأي التي أجريت أخيراً أظهرت أن نحو نصف الناخبين في ثماني دول كبيرة في الاتحاد الأوروبي يطالبون بمنحهم الفرصة نفسها التي مُنحت للناخبين البريطانيين. كما أظهرت نتائج تلك الاستطلاعات أن الثلث سيختارون الانسحاب من الاتحاد الأوروبي إذا مُنحوا فرصة الاستفتاء، وأن نسبة التصويت المحتمل بالانسحاب قد تصل في بعض البلدان الأوروبية إلى 48 في المائة، كما في إيطاليا وفرنسا. وجاء في هذا السياق ما كشفه استطلاع للرأي في الدنمارك، نشرته قناة "دي آر" الدنماركية الخميس الماضي، من تزايد أعداد الدنماركيين الذين يرغبون في التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي. وأشار نتائج الاستطلاع إلى أن 42 في المائة من إجمالي 1215 شخصاً شملهم الاستبيان يريدون التصويت على عضوية الدنمارك في الاتحاد الأوروبي.

وتقول التحليلات الخاصة باتجاهات الرأي العام في أوروبا، إن ما يُعزز اتجاه بعض الشعوب الأوروبية للخروج من الاتحاد الأوروبي هو اشتداد الأزمات المالية والاقتصادية المتفاقمة التي تواجهها أوروبا، وتراجع شعبية مشروع الوحدة الأوروبية، وانتشار البطالة في العديد من الدول الأعضاء، وتزايد الغضب الشعبي من سياسات الاتحاد التي أصبحت أكثر تدخّلاً وتقييداً لحياة الأوروبيين، إضافة إلى أزمة المهاجرين واللاجئين.
وينسحب الموقف الرسمي الأوروبي الراغب في بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، إلى المستوى الشعبي، إذ أظهر استطلاع للرأي نظمه معهد "تي إن أس" التابع لمجموعة "كانتار"، في تسع دول أوروبية، ونشرته صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية مطلع الأسبوع الحالي، أن الأوروبيين يؤيدون بشكل متزايد بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. وذكرت الصحيفة أن الاستطلاع الذي شارك فيه ألف أوروبي، أظهر أن هذا الشعور ارتفع بين الألمان إلى 79 في المائة، وفي فرنسا زاد مؤيدو بقاء بريطانيا في الاتحاد من 59 في المائة، مقارنة باستطلاع مماثل أجراه المعهد ذاته في إبريل/ نيسان الماضي، إلى 65 في المائة، وفي بولندا من 54 في المائة إلى 64 في المائة.

مُكابرة برلين
لم تشأ المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل التدخّل بشكل مباشر وشخصي في الاستفتاء البريطاني، على طريقة الرئيس الأميركي باراك أوباما، والذي حضر شخصياً إلى لندن، لحثّ الشعب البريطاني على البقاء في الاتحاد الأوروبي، إذ لطالما رددت ميركل أن "القرار يعود إلى الشعب البريطاني". ومع ذلك لم تُخفِ المستشارة الألمانية أملها في بقاء بريطانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي، لأن بريطانيا ستكون أقوى داخله، و"سنكون أكثر قوة عندما نكون معاً داخل الاتحاد"، كما قالت ميركل في أكثر من مناسبة. ويشارك الكثير من السياسيين الألمان وجهة نظرة ميركل، ويعتبرون فقدان بريطانيا كارثياً لبلادهم ولفكرة أوروبا الموحّدة، والتي تتبناها برلين. ويرى هؤلاء، حسب "واشنطن بوست"، أن فرنسا وألمانيا وبريطانيا بذلت خلال سنوات طويلة جهوداً كبيرة من أجل تحقيق وحدة القارة العجوز، لكن في ظل الأزمتين الاقتصادية والسياسية اللتين تعاني منهما فرنسا، باتت ألمانيا والمملكة المتحدة قوتين وحيدتين في الاتحاد الأوروبي، إذ تملك بريطانيا ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا وأسلحة نووية، فضلاً عن كونها عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي، وقيامها بدور الجسر التقليدي بين أوروبا وواشنطن عبر المحيط الأطلسي. كما ترى برلين أن "فقدان بريطانيا الآن سيكون إشارة للعالم، بما فيه روسيا والصين، إلى تفكك الاتحاد الأوروبي"، كما نقلت "واشنطن بوست" عن آلموت مولير، الخبيرة السياسية الألمانية ورئيسة مكتب المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، مضيفة أن هذا الأمر يُعدّ تهديداً واقعياً، مهما كانت نتائج الاستفتاء.

وعلى الرغم من هذا الموقف الواضح، والمُنحاز لجهة بقاء بريطانيا في الاتحاد، إلا أن المستشارة الألمانية تكابر بعدم الاعتراف بشكل قاطع بأهمية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، إذ لم تقبل طيلة المفاوضات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي بالإصلاحات التي كان يطالب بها الرئيس كاميرون، مُفضلة "انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على التلاعب بمبدأ حرية الحركة والتنقل بين دول الاتحاد"، حسبما أوردت مجلة "دير شبيغل" الألمانية. وفي مقابل الإشادة بأهمية بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، تحذر المستشارة الألمانية "من انعزال بريطانيا وفقدها لنفوذها خارج الاتحاد الأوروبي، إذا ما اختار البريطانيون الخروج من الاتحاد".
ومقابل المخاوف التي يبديها المسؤولون الغربيون من عواقب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يرى نائب رئيس البرلمان الأوروبي، ألكسندر لامبسدورف، أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن ينهي فكرة أوروبا الموحّدة، ويجب ألا يُنظر إليه على أنه سيناريو رعب، لأن التكتل الأوروبي سيستمر بغض النظر عن النتيجة. ويقول لامبسدورف: "لا يمكننا على الإطلاق تخيل الاتحاد الأوروبي من دون ألمانيا أو فرنسا، لكن الاتحاد الأوروبي كان موجوداً قبل انضمام بريطانيا، ولن يكون خروجها نهاية لمشروع أوروبا الموحدة".

تدخّل واشنطن
لم يأبه أوباما بالنصائح أو الاحتجاجات التي كانت تطالبه بعدم التدخّل في الاستفتاء البريطاني، بوصفه شأناً داخلياً، بل أصر على الحضور شخصياً إلى لندن، لدعم كاميرون، وتحذير الرأي العام البريطاني من خسارة بلادهم الرخاء والنفوذ اللذين تنعم بهما إذا اختاروا الخروج من الاتحاد. وانضم أوباما إلى حليفه كاميرون في بث خطاب "التفزيع" من خروج بريطانيا من الاتحاد، عندما قال إن "بريطانيا ستكون في مؤخرة القائمة عند إتمام الصفقات التجارية مع الولايات المتحدة لو اختارت مغادرة الاتحاد الأوروبي". وفي كلماته التي رددها قبيل وصوله إلى بريطانيا في إبريل/ نيسان الماضي، كما أثناء الزيارة، وما كتبه في صحيفة "الديلي تلغراف"، فإن أوباما حدّد أهمية بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي بالنسبة لواشنطن، قائلاً إن "عضويتها في الاتحاد ساعدت في تمتين العلاقات الأميركية البريطانية"، وإن "قدرة بريطانيا على محاربة الإرهاب ستكون أكثر فاعلية إذا بقيت مع حلفائها الأوروبيين"، وإن البقاء داخل الاتحاد الأوروبي يزيد من قدرة بريطانيا في العالم، ويعزز مكانتها في العالم.
وأشار الرئيس الأميركي إلى أن مسألة بقاء المملكة في الاتحاد من عدمه تحتل أهمية كبيرة لدى الولايات المتحدة، مؤكداً أن الاتحاد الأوروبي لا يُنقص من النفوذ البريطاني، بل يعززه، وأوروبا قوية لا تشكّل تهديداً لدور بريطانيا في العالم، بل تزيد من هذا الدور. وانضم وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى حملة دعم بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، قائلاً إن بقاء بريطانيا في الاتحاد يُعظم دورها على الساحة الدولية، وإن بريطانيا والاتحاد أقوى عندما يعملان معاً.

عدم اهتمام موسكو
لم تستطع موسكو البقاء طويلاً في مربع "النأي بالنفس" عن جدل الاستفتاء البريطاني، إذ استدعى كلام رئيس الوزراء البريطاني من أن "خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي قد يفرح أبو بكر البغدادي، وفلاديمير بوتين"، رداً، ولو مختصراً، من المتحدث باسم الرئاسة الروسية، ديميتري بيسكوف، والذي قال إن روسيا اعتادت على استخدام اسمها في الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة الأميركية، ولكنها اندهشت لاستخدام اسم رئيسها، في بريطانيا.
وفي رد على تصريحات لوزير الخارجية البريطاني، فيليب هاموند، قال فيها "إذا أردنا الحقيقة فإن البلد الوحيد الذي يفضل مغادرتنا الاتحاد الأوروبي هو روسيا، وهذا الموقف ربما يخبرنا الكثير مما نريد معرفته"، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إنهم "يلومون روسيا على كل شيء، ليس فقط في بريطانيا ولكن في العالم أجمع". وأضافت: "لسنا معنيين في الأمر ولسنا مهتمين بهذا المجال".

ولا يرى المحاضر في مدرسة موسكو العليا للاقتصاديات، سيرغي مدفيديف، أن روسيا غير معنية فعلاً بنتيجة الاستفتاء البريطاني، بل هي تتابعه بكل اهتمام، وتميل إلى رؤية نتيجة تُخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ويقول مدفيديف: "إذا ما تسبّب خروج بريطانيا في أزمة في الاتحاد الأوروبي، فإن ذلك سيكون دعاية انتصار محلية، كما أن حسابات الكرملين بسيطة، فخروج بريطانيا يساوي اتحاداً أوروبياً أضعف، وبالتالي روسيا أقوى... لذلك فإن ما هو شر للاتحاد الأوروبي يكون خيراً لروسيا". ويضيف الخبير الروسي: "كجزء من اللعبة الجيوسياسية، فإن موسكو ترعى العلاقات الثنائية مع دول الاتحاد الأوروبي التي تراها مقرّبة منها، مثل اليونان والنمسا والمجر وسلوفاكيا"، وذلك بهدف كسر العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا في عام 2014 بعد ضمها شبه جزيرة القرم.
ويُثني رئيس تحرير صحيفة "روسيا للشؤون الدولية"، فيودور لوكيانوف، على وجهة النظر السابقة بالقول: "لن تبكي روسيا كثيراً إذا كان الاتحاد الأوروبي سينحدر إلى تراجع أكبر، وبالنسبة لروسيا سيكون من الأسهل التعامل مع بلدان منفردة، خصوصاً الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي".