وثائق "أبوت آباد"... مراجعات "القاعدة" في أوراق بن لادن

وثائق "أبوت آباد"... مراجعات "القاعدة" في أوراق بن لادن

18 مارس 2016
طغى التفكير الديني على السياسي داخل "القاعدة"(بناراس خان/فرانس برس)
+ الخط -

يجدد نشر دفعة أخرى احتوت على 113 وثيقة من الملفات التي وجدتها القوة الأميركية التي اغتالت زعيم تنظيم "القاعدة"، أسامة بن لادن، والتي تعرف بـ"وثائق أبوت آباد"، الجدل حول وضع التنظيم الداخلي، وعلاقته مع الحالة "الجهادية" بصورة عامة، ونشاطات التنظيم، وتفاصيل حول زعيمه. الوثائق الجديدة التي أفرجت عنها الاستخبارات الأميركية في 1 مارس/آذار الحالي، تستكمل النقاش حول "القاعدة"، وزعيمها، والذي انطلق بعد نشر الدفعة الأولى من الوثائق في الذكرى الأولى لمقتل بن لادن في مايو/أيار 2011، ثم دفعة لاحقة نُشرت في مايو/أيار 2015.

الوثائق عبارة عن خليط من مراسلات قادة التنظيم، ورسائل المتعاطفين معه، ونقاشات داخلية حول أوضاع "الأمة الإسلامية"، والحالة "الجهادية". وتتسم بعض الوثائق، كسابقاتها، بغموض المرسل والمتلقّي، وغياب بعض التفاصيل، كالتواريخ والتسلسل الزمني، كون بعض الرسائل تأتي في سياق إجابات عن رسائل أخرى غير منشورة. كما تحوي الرسائل ردوداً قصيرة، ونقاشات مبتورة، لكن مجمل الوثائق المنشورة، مقارنة بسابقتها، تسير في اتجاه واحد، وإن توسعت في التفاصيل، أو سلّطت الضوء على قضايا محدّدة بصورة أكبر. أمّا الوثائق الحالية فتحوي تفاصيل كثيرة حول علاقة "القاعدة" مع إيران، واليمن، وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في العراق.

المهم في هذا السياق، الإشارة باختصار إلى النقاش حول "صحة" الوثائق المفرج عنها أميركياً، الذي تداوله عدد من الباحثين قاطعين بصحتها، مشككين بانتقائيّتها التي لا تخطئها العين. في المقابل، فإنّ الموالين لـ"القاعدة" انقسموا حولها. والحديث هنا عن الوثائق عموماً، لا الدفعة الأحدث. فالمناوئون لتنظيم "داعش" هم من الموالين لـ"القاعدة"، يستخدمون الوثائق لانتقاد "داعش"، خصوصاً في مسألة "التوسع بالدماء"، واستهداف المدنيين. بينما الموالون لـ"داعش" يشككون فيها، باعتبارها صنيعة مخابراتية بحتة، تهدف إلى "شقّ الصف الجهادي".

وهناك آخرون ينفونها من دون أن يكونوا موالين لـ"داعش". ربما كان أوسع حديث "جهادي" حول وثائق "أبوت آباد"، ما كتبه أبو عمر الحنبلي، أو عبد العزيز الشمري، والذي حمل عنوان "تحذير العباد مما جاء في وثائق أبوت آباد". ويبدو أن أهم دوافع الحنبلي، هو نفي وجود مراجعات داخل "القاعدة"، وهو الأمر الذي تثبته كل الوثائق المفرج عنها حتى اللحظة. بل يؤكد سياقها، إن لم يجزم بصحة الوثائق، الخلاف الحالي بين تنظيمَي "القاعدة" و"داعش"، إذ يظهر أنّ جذور هذا الخلاف، تعود إلى مبايعة أبو مصعب الزرقاوي تنظيم "القاعدة"، وإعلانه عن تنظيم "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين".
 
تأتي وثائق "أبوت آباد" الأخيرة، لترسّخ ما طرحته النسختان الأولى والثانية حول المراجعات داخل تنظيم "القاعدة"، والتي تصب في مجملها بتحسين الصورة المشوّهة للتنظيم في العالم الإسلامي. واحتوت، كما في النسخة السابقة من الوثائق، على تفاصيل حول "التوسع بالدماء" أو استهداف المدنيين بتعبير آخر، إضافة إلى هواجس التنظيم حول حضوره الإعلامي، والذي شمل "مراجعات" إعلامية دقيقة، وتركيز على اللغة الأردية في الدعاية بأفغانستان وباكستان. تظهر الوثائق أن التنظيم عانى كثيراً، خصوصاً في منطقة القبائل الباكستانية، وزيرستان. وأكثر معاناته تأتي من ضربات الطائرات الأميركية من دون طيار "الدرونز"، في ظل وجود أدلة على أن التكهنات التي كانت تؤكد تعاون أجهزة أمنية ومخابراتية باكستانية مع "القاعدة"، غير دقيقة. فالتنظيم كان يعاني في باكستان كما أفغانستان، والانتقادات توجه للحكومة الباكستانية كما الأفغانية.

الصورة التي ترسخها الوثائق أنّ قادة "القاعدة" متدينون. بمعنى أن الجانب السياسي تابع للديني، لا مهيمن عليه، وإن كانوا يأخذون الجانب السياسي بعين الاعتبار في نقاشاتهم. وهي الصورة التي لا تعكسها التقارير حول تنظيم "داعش" والتي تطرح العكس، أنّ الجانب الديني غطاء للمشروع السياسي المهيمن على التنظيم، ضمن الحديث عن دور القيادات البعثية في "داعش". وثائق "أبوت آباد" تحوي الكثير من النقاشات الدينية في قضايا تفصيلية، من مسائل "الحضانة"، و"الشورى"، وحتى "التترس" وهو المصطلح الفقهي الذي يعني، بصورة ما، حكم استهداف مقاتلين يتحصنون في أماكن يقطنها مدنيون. ما يعني أن القتال، أو التفجير يقتل أبرياء، هم في سياق تنظيم "القاعدة"، عامة المسلمين، كما تظهر الوثائق.

اقرأ أيضاً وثائق بن لادن: هواجس وملايين مفقودة وشؤون عائلية
 
وتبرز هذه الوثائق التناقض بين ما يدور داخل "القاعدة" من مراجعات في مسائل الدماء، وما تقوم به من دعوات لدعم وتأييد "داعش" عام 2006، والتي جاءت كامتداد لـ"جماعة التوحيد والجهاد" التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي، ثم غيّر اسمها بعد مبايعة "القاعدة" إلى "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين". المثير الذي يجعل جدية "القاعدة" في المراجعات على المحك من خلال الوثائق، أن تأييد "داعش"، والدعوة إلى دعمها إعلامياً، يأتي في ظل انتقادات "القاعدة" لـ"داعش" داخلياً، خصوصاً في مسائل "التوسع في الدماء".

وتطرح واحدة من الوثائق، لم تؤرَّخ ولم تُوقَّع باسم كاتبها، أهمية دعم "داعش" إعلامياً، بشكل صريح وواضح، من خلال العبارة الواردة في الوثائق، أنّ "المحور الرئيسي لخطة عملكم في الفترة المقبلة هو مواصلة دعم المجاهدين في العراق، وفي مقدمتهم إخواننا في دولة العراق الإسلامية". والوثيقة تستحضر الانتقادات الموجهة إلى "الدولة الإسلامية" في مسائل الدماء. وفي الوقت ذاته، تظهر الوثائق المراجعات في مسائل "قتل المسلمين"، ومنها، أنّ "البيان الذي طلبت منك إصداره بخصوص حفظ الدماء، له أولوية لعل الله أن يجعله من أسباب حفظ بعض دماء المسلمين المعصومة. فلتحرص على إصدار البيان خلال أيام". وتحتوي هذه الوثيقة أيضاً، والمؤرخة بتاريخ 27- 12- 1431، أي 4 ديسمبر/كانون الأول 2010، نصاً آخر أكثر وضوحاً، جاء فيه، "وحبذا أن تُضمن بيانك بهذا الخصوص، أن قادة القاعدة قد نصحوا سراً، وجهراً، ونبّهوا مراراً على خطورة التوسع في مسألة التترس أو إدخال أعمال لا صلة لها بمسألة التترس".
 
التناقض في هذه المراجعات، أنّ القاعدة، والتي استمرت في دعم تنظيم "داعش"، كانت على علم بجرائم الأخير. بل كانت تدرك بعداء التنظيم للجماعات المقاتلة الأخرى، حتى الموالية لـ"القاعدة"، كجماعة "أنصار الإسلامي" السلفية الكردية. والكثير من الوثائق تظهر مراسلات من العراق، وأخرى داخل "القاعدة"، حول تساهل تنظيم "الدولة" في القتل، وأهمية تبرئة "القاعدة" نفسها من هذه الجرائم. في المقابل، إنّ التوجه العام داخل "القاعدة"، كان داعماً لتنظيم "الدولة" إعلامياً، باعتباره أهم الفصائل المقاتلة في العراق.

هذا التناقض، هو جذور الخلاف بين فرع "القاعدة" في سورية لاحقاً، بعد مقتل بن لادن، والمتمثل بالخلاف بين "جبهة النصرة"، المبايعة لـ"القاعدة"، وتنظيم "داعش"، إذ رفض زعيم "النصرة"، أبو محمد الجولاني، مبايعة زعيم "داعش" أبو بكر البغدادي. وسارع الجولاني إلى مبايعة زعيم "القاعدة"، أيمن الظواهري، ليترسخ لاحقاً الانقسام بين التنظيمَين، والذي تُرجم على الأرض بشكل قتال وانشقاقات بينهما. كما تُرجم خطابياً بصيغة عداء بين القريبين والموالين لـ"القاعدة"، وأنصار "داعش"، حتى على مستوى المنظّرين.

واللافت هنا، أنّ أبرز المآخذ التي يطرحها أتباع تنظيم "داعش" على "جبهة النصرة" اليوم، أنها "تراعي حواضنها الشعبية"، الأمر المرتبط بسلوك هذه التنظيمات مع الواقعين تحت سيطرتها. ويشمل بطبيعة الحال، مسائل تتعلق بالتكفير، والقتال، وهذا ما يفسر العدائية التي يظهرها "داعش" في المناطق التي يسيطر عليها، مقارنة بـ"النصرة" التي ترتكب أعمال "أقل عدوانية"، إنْ صحّ الوصف، تجاه "حواضنها الشعبية".

اقر أيضاً: من "درونز" إلى "سيكادا"... الجراد الإلكتروني نجم الحروب المقبلة