سور بغداد... جدار فصل بين العراقيين برعاية إيرانية

سور بغداد... جدار فصل بين العراقيين برعاية إيرانية

08 فبراير 2016
جمّد العبادي عمل السور (أحمد الربيعي/فرانس برس)
+ الخط -
لم يدم قرار رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، بتجميد مشروع سور بغداد المثير للجدل، الذي أطلقته قوات الجيش ومليشيا "الحشد الشعبي"، الاثنين الماضي، طويلاً. وبعدما كان قد قرر تجميد مشروع سور بغداد المثير للجدل، عاد أمس الأحد ليبرره، إذ أكد المتحدث باسم المكتب، سعد الحديثي، في حديث لوسائل إعلام محلية مقربة من الحكومة أن "سور بغداد هو إجراء أمني وفني خالص، ولا توجد أية دوافع سياسية وراء ذلك"، مشيراً إلى أن "السور يهدف إلى تحديد مداخل ومخارج بغداد، وقطع الطريق أمام أية خروق قد تهدد العاصمة". وأضاف الحديثي، أن "العاصمة بغداد تشهد خروقا أمنية بين الحين والآخر، وهناك ضرورة لتأمينها"، معتبراً أن "المخاوف والهواجس بشأن إنشاء هذا السور غير مبررة".
وكان القرار الصادر عن قيادة عمليات بغداد قد أثار مخاوف كبيرة، وتساؤلات حول الجدوى من السور والخندق، خصوصاً أنه يأتي في وقت أعلن فيه قادة عسكريون في الجيشين العراقي والأميركي، عن تأمين محيط العاصمة، أو ما يُعرف بـ"حزام بغداد"، ونجاحهم في دفع خطر تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) عنها لأكثر من 40 كيلومتراً، بعدما كان يرابط على بعد بضعة كيلومترات منها في مثل هذا الشهر، من العام الماضي.

اقرأ أيضاً الكنيسة الكلدانية: مصادرة حريات وأملاك مسيحيي العراق إبادة جماعية

ومن المقرر أن يحيط السور بالعاصمة بغداد من اتجاهاتها الأربعة، ويشمل خندقاً وجداراً إسمنتياً مرتفعاً يمنع دخول العاصمة أو الخروج منها إلا من خلال منافذ تشرف عليها قوات تابعة لقيادة عمليات بغداد.
في هذا السياق، يقول قائد عمليات بغداد، الفريق الركن عبد الأمير الشمري، في مؤتمر صحافي، إن "قوات الجيش باشرت بتنفيذ مشروع سور بغداد، الذي يتضمن حفر خندق بعرض ثلاثة أمتار وعمق مترين، وإنشاء سور إسمنتي عالٍ حولها، يطوّق العاصمة من كل الجهات". ويضيف أن "قيادة عمليات بغداد سترفع جميع الكتل الكونكريتية الموجودة في العاصمة، لوضعها ضمن السور، مع إقامة أبراج مراقبة مزودة بكاميرات". ويوضح أن "مهندسي بعض الوزارات والحشد الشعبي، سيشاركون في تنفيذ المشروع، بإيعاز من القائد العام للقوات المسلحة، حيدر العبادي".

ويرى سياسيون ومراقبون، أن "السور والخندق يحملان نوايا طائفية وسياسية في الوقت نفسه، بعيداً عن أهداف حماية بغداد وتحصينها من المخاطر الإرهابية، خصوصاً أن المشروع طُرح بداية من قبل مليشيات الحشد وأحزاب موالية لإيران، أبرزها حزب الدعوة برئاسة نوري المالكي". ويعتبرون أن "البدء بالمشروع في هذا الوقت، في ظلّ حمّى الدعوات الانفصالية للقادة السياسيين، يُرسّخ هذا القلق أكثر فأكثر".
ويذهب برلمانيون إلى القول إن "الحكومة لم تُقدم على الخطوة عندما كانت داعش على بعد بضعة كيلومترات من العاصمة، وهاجمت مطار بغداد الدولي أكثر من مرة. كما أن ما يزيد الشكوك هو تكلفة السور والخندق الباهظة، كونه من المقدّر أن يتجاوز كلفة المشروع أكثر من 30 مليون دولار، في وقت يمر فيه العراق بأزمة مالية قاسية، اضطرته إلى عرض بيع أملاك عامة للدولة كالقصور الرئاسية والمباني التجارية المملوكة له ومنتجعات سياحية عامة".
واتسمت أغلب ردود الفعل الصادرة برفض المشروع والدعوة إلى إيقافه وإطلاق عبارة "جدار العزل الطائفي" عليه. ووفقاً لوزير عراقي بارز في حكومة العبادي، فإن رئيس الوزراء كان قد تعرّض لضغوط أميركية كبيرة خلال الأيام الماضية، فضلاً عن اعتراضات سياسية وشعبية من الداخل، دفعته إلى إصدار بيان عند منتصف ليل السبت الأحد، حول السور، ليؤكد أن "بغداد للجميع، ولا يمكن لسور أن يغلقها، ويجب أن يتم تعزيز الأمن ونقاط التفتيش وسدّ الثغرات، بدلاً عن السور"، قبل أن يعود ليتراجع عن تصريحاته أمس الأحد.
ويشير الوزير إلى أن "مخططات السور كما وصلت لرئيس الوزراء مرعبة، وتحمل بصمات طائفية". ويكشف أنه "تمّت المباشرة بإنشائه واقتطاع جزء من محافظة الأنبار غرباً، وجزء من صلاح الدين شمالاً، وضمّها لحدود بغداد الإدارية".
ويردف أن "السور يرتفع 3 أمتار، تعلوه أسلاك شائكة، وتحته خندق بعرض 3 أمتار وعمق مترين، وفي مناطق يصل إلى عرض 4 أمتار. ويبدأ غرباً من منطقة الخمس بيوت عند سيطرة الصقور، وهي مناطق تابعة لمحافظة الأنبار، ويلتف شمالاً إلى عقرقوف ثم التاجي والطارمية. وقد تمّ ابتلاع منطقة السدة التابعة لمحافظة صلاح الدين، وفق المخطط، الذي يلتفّ جنوباً إلى الرضوانية، وتمّ اقتطاع جزء من الزيدان والسعدان التابعة للأنبار أيضاً، مروراً بصدر اليوسفية ثم المحمودية واللطيفة. في غضون ذلك، يبدو المشروع في المحور الشرقي رمزياً، لاقتصاره على السور الإسمنتي فقط، من منطقة الحسينة، كما تمّ اقتطاع جزء من مدينة خان بني سعد التابعة لمحافظة ديالى".
ويوضح الوزير أن "الأراضي المقتطعة من المحافظات جميعها ذات مكوّن طائفي واحد. وهناك مخاوف من تهجير أهلها إلى خارج الحدود الجديدة بدوافع طائفية معروفة". ويضيف أن "حجم المشروع يبلغ نحو 287 كيلومتراً يلفّ بغداد، ومن المقدّر أن يُكلّف أكثر من 30 مليون دولار. وهناك شركات إيرانية وعراقية دخلت على الخط في التنفيذ مع الوحدات الهندسية التابعة لوزارة الدفاع العراقية، أبرزها شركة مسارات الإنشائية الإيرانية، صاحبة اليد الطولى في أغلب المشاريع المنفّذة في العراق حالياً". وينوّه الوزير إلى أن "المشروع لا يتضمن أي تعويض للسكان من أصحاب المنازل أو الحقول الزراعية التي سيتم حفر الخندق ونصب السور في أراضيهم، إذ تمّ وضع المشروع ضمن خانة الطوارئ، غير أنه قد يتم منحهم أراضي في المحافظات المجاورة". ويختم قائلاً إن "المشروع يضرّ، بشكل مباشر، العراقيين من مكون مذهبي معين، وهذا سبب رفض أطراف دولية ومحلية له". يتزامن سور بغداد مع خطوة مماثلة تقوم بها القيادة الكردية لحفر خندق حول حدود كردستان، يبتلع معها المئات من البلدات والقرى العربية والتركمانية، رغم الرفض الواسع من قيادات عراقية عدة.


اقرأ أيضاً: عشائر العراق... الانتصارات ضد "داعش" تُكافأ بالإهمال من بغداد

من جهته، يرفض "تحالف القوى العراقية"، في بيان رسمي، السور. ويعتبره "بداية لمخطط طائفي خطير". ويضيف البيان أنه "في الوقت الذي نعرب فيه عن قلقنا الشديد وتخوّفنا المشروع من الأهداف المشبوهة التي تقف وراء تنفيذ ما يسمى بسور بغداد الأمني، فإننا نعدّه بداية لمخطط خطير يرمي إلى اقتطاع أجزاء من محافظة الأنبار وضمها إلى بغداد أو بابل". يعتبر التحالف أن "ذلك مقدمة لإعادة رسم خارطة العراق وفق أسس طائفية وعنصرية، بما يمهّد الطريق لتقسيم البلد وتحويله إلى دويلات صغيرة خدمة ﻷجندات خارجية معروفة".
يتابع البيان، أن "المبررات التي ساقتها الحكومة لإنشاء هذا السور تعبر عن عجز كامل للأجهزة الأمنية في فرض سلطتها لتحقيق الأمن"، معتبراً أن "ذلك يعني غيابا كليا ﻷي رؤية أو خطة أمنية أو جهد استخباري للتصدي للإرهاب والعصابات الإجرامية، التي تعيث في أرض العراق فساداً من دون رادع أو حساب".
أما في ما يتعلق بفعالية هذا السور والخندق، يقول الخبير الأمني، عضو جمعية المحاربين العراقيين، اللواء المتقاعد محمد القيسي، لـ"العربي الجديد"، إن "فعاليته تصل إلى 60 في المائة فقط، وقد يكون سلاحا ذا حدين". يضيف القيسي أنه "يُمكن للسور والخندق، بمرور الزمن اختراقهما، في ظلّ تفشّي الفساد والرشوة في صفوف الجيش والشرطة وإتقان داعش حفر الأنفاق لمسافات طويلة، فضلاً عن أن مساحة السور الشاسعة، كفيلة بإحداث ثغرات فيه، ولا يُمكن منطقياً تأمينه على امتداد عشرات الكيلومترات". يتابع أن "هناك مناطق زراعية ترابية رخوة، لا ينفع معها السور، ومن المؤكد أن الخندق سيفشل معها، فنسبة المياه الجوفية في حزام بغداد الجنوبي والغربي والشمالي، تصل إلى 90 سنتيمتراً فقط في حال الحفر في الأرض". يلفت القيسي إلى أن "وضع السور وحدوده، تشير إلى أن نواياه سياسية أكثر مما هي أمنية، وغطاء داعش الذي بات تمرر من خلاله كل الأجندات كان مناسباً لهذا السور". يشير إلى أن "الخلايا الإرهابية موجودة في بغداد، وحديث الجيش عن أن السيارات تُفخّخ خارج بغداد غير صحيح، فعلمياً لا يُمكن أن تسير أي سيارة مفخخة أكثر من 10 أو 15 كيلومتراً بسبب الحرارة والاحتكاك، بل ستنفجر جرّاء ذلك. كما أن أجهزة الكشف عن المتفجرات التي وضعها الأميركيون حديثاً، يُمكن لها معالجة المشكلة عند مداخل العاصمة ومخارجها". يصف القيسي تهجير سكان المناطق التي سيمرّ بها السور، بـ"البشعة، وتذكر بما فعله الصهاينة مع أهل الأرض"، في إشارة إلى الفلسطينيين.

اقرأ أيضاً: اجتماعات عمّان... واشنطن تضغط لإلغاء "أحكام المالكي الإقصائية"

من جهته، يرى النائب عن "تحالف القوى العراقية"، عبد القهار السامرائي، أنّ "حفر الخنادق في هذه الفترة يثير الريبة والشك من الجدوى منه". ويضيف، في حديثٍ لـ"العربي الجديد" "الخندق المقرر سيكون سجناً كبيراً وقد يؤدي ربما إلى حصر فئة كبيرة من أبناء الشعب في منطقة محددة وعزلهم عن المناطق الأخرى، وقد يؤدي إلى تقسيم تقوم به الحكومة. الأمر الذي سيدفع باتجاه تصاعد الأصوات المطالبة بفدراليات وبتقسيم وانفصال".
من جهتها، عدّت لجنة الأمن البرلمانية حفر الخندق أو السور حول بغداد، "ذريعة لإعادة ترسيم حدود المحافظات". وفي السياق، يقول عضو لجنة اﻷمن والدفاع النيابية، محمد الكربولي، في تصريحاتٍ لـ"العربي الجديد"، إنّنا "مع تعزيز أمن العاصمة بغداد، لكن تعزيز هذا الأمن لا يكون على حساب المحافظات الأخرى، من خلال إعادة ترسيم الحدود من جديد". ويؤكد أنّ "هذه الاستراتيجيّة تؤشّر إلى وجود خلل في الأداء المهني، وتجهض العمل الاستخباري، وتؤسس لدويلات أمنيّة، وتفتح الباب أمام الصراع الديموغرافي".
بالنسبة للمحلل السياسي العراقي أحمد المحمود، فإن "السور سيكون أداة لترسيخ الوضع الحالي في العاصمة والإبقاء على المكاسب التي حققتها المليشيات في مجال التغيير الديموغرافي داخل العاصمة وخارجها". ويضيف المحمود، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "أطرافاً عدة ستستغلّ السور، لكن من المؤكد أنه لن يكون لحماية بغداد من داعش، بل لحماية مصالح وأجندات معروفة، فداعش بات أضعف من أن يهاجم بغداد الآن".
أما الشيخ أحمد الشمري، أحد زعماء عشائر "حزام بغداد"، القيادي في مجلس العشائر المنتفضة ضد "داعش"، فيشير إلى أن "بإمكان الحكومة أن تعطي نصف المبلغ المخصص لهذا السور والخندق للعشائر، حتى تشتري السلاح وتُطهّر محيط بغداد، وما هو أبعد من محيطها". ويضيف، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "الموضوع عبارة عن مخطط طائفي كبير".
تاريخياً، تعود فكرة أول سور ضرب حول بغداد، إلى عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، بعد بناء المدينة عام 762، لحمايتها من غزوات الفرس التي كانت تنفذها على العراق بين الحين والآخر. وعُرف السور تاريخيا بأربعة أبواب: باب الشام وباب البصرة وباب الكوفة وباب خراسان، الذي عُرف بشدّة تحصينه، وما زالت آثاره قائمة حتى اليوم شرقي العاصمة. ولم تفلح أي من أسوار العاصمة التي ضربت حولها منذ عهد العباسيين ومن تلاهم في حمايتها، بفعل التصاق الخيانة بكل احتلال تتعرض له بغداد. حتى تحوّل الأمر إلى مثل بغدادي شائع يتداوله البغداديون حتى اليوم، وهو "كسور بغداد"، في إشارة إلى خيانة ابن العلقمي وزير الخليفة العباسي، الذي سلم مفاتيح بوابات السور للقائد المغولي هولاكو في عام 1258.