من "درونز" إلى "سيكادا"... الجراد الإلكتروني نجم الحروب المقبلة

من "درونز" إلى "سيكادا"... الجراد الإلكتروني نجم الحروب المقبلة

23 فبراير 2016
يجري تطوير طائرات حربية صغيرة منذ سنوات(توشيفومي كيتامورا/فرانس برس)
+ الخط -
يجري في الخفاء سباق للتسلّح من نمط جديد بين عمليات الطائرات من دون طيار "درونز"، روّاد القتل عن بعد، وبين الانتحاريين، رواد القتل عن قرب، بحيث يسعى كلٌّ منهما إلى تحقيق اختراق لخطوط دفاع الطرف الآخر ليسهل ضربه في عقر داره.

اقرأ أيضاً: "الدرونز"... سلاح (غير) شرعي لـ"الدفاع عن النفس"

مما لا شك فيه أن فكرة التفجيرات الانتحارية الالتحامية، بقيت السلاح الفتاك بلا منازع، الذي أرعبت "التنظيمات الجهادية" به دول العالم. وعملت هذه التنظيمات على تطوير سلاحها هذا طوال عقد التسعينيات من القرن الماضي، وتحديث أساليبه، من الأحزمة الناسفة إلى الزوارق المفخخة، وصولاً إلى استخدام "الطائرات الانتحارية" في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.

في المقابل، وجد الطرف الآخر نفسه غير قادر على تقليد التنظيمات الجهادية في تصنيع محركات الانتحار الإيديولوجية، فلجأ إلى وسيلة أخرى أشد فتكاً هي"التفجيرات الموجهة"، السلاح الذي أصبحت طائرات "درونز" (بلا طيار) عموده الفقري، تقطف به الولايات المتحدة رؤوس القيادات المعادية لها عن بعد، من دون أن تعرض جنودها لخطر الالتحام.

وتعمل وزارة الدفاع الأميركية حالياً على تطوير تقنيات القتل الموجه، بدرجة عالية من السرّية، لأنها تخشى أن تنتقل القدرة على تقليده أو تصنيعه إلى خصومها، فتصبح خطوطها الخلفية معرضة للاختراق بالسلاح نفسه.

لهذا، تمنع الشرطة السرّية الأميركية وحراس البيت الأبيض، هواة الألعاب والتصوير من إطلاق طائراتهم الصغيرة جداً للتحليق في الأجواء المحيطة بالمباني الفدرالية في العاصمة واشنطن، إدراكاً من السلطات أن تقنيات التحليق متشابهة، ولا فرق بين طائرات الهواة وبين ما يملكه "البنتاغون" سوى البعد الحربي للأخيرة. وتعمل وزارة الدفاع الأميركية على أن تكون الطائرات المصغرة التي يمكنها الإقلاع من كف اليد والهبوط عمودياً إلى كف اليد، البديل الأمثل في المستقبل لأسطولها الحالي من طائرات "درونز" الأكبر حجماً، والأكثر تكلفة.

ولم يعد سرّاً أن "البنتاغون" خصص في موازنته لعام 2017 ما يقارب الأربعة مليارات دولار أميركي لتطوير طائرات "درونز"، وتوسيع برامج استخدامها، وفقاً للبيانات العلنية المقدّمة رسمياً للكونغرس، لتحويل المحلقات الصغيرة رخيصة الثمن إلى أسراب من "الجراد الإلكتروني" لتكون بديلاً للجنود البشر، تطلق من على متن طائرات حربية  في سماء العدو لإلحاق الأذى به في أرضه.

فكرة "درونز" إسرائيلية

يبرر الأميركيون لجوءهم إلى طائرات "درونز" لتنفيذ عمليات القتل عن بعد، بأنه جاء نتيجة للحاجة إلى مواجهة سلاح العمليات الانتحارية، الذي لا مجال لاستنساخه أميركياً. وفيما تعدّ الولايات المتحدة أول من صنع طائرات "درونز"، فإن أساس الفكرة يأتي من الحاجة الإسرائيلية لهذا النوع من الطائرات بسبب حاجة الاحتلال لاختراق خطوط "الأعداء العرب" وجمع المعلومات عنهم قبل اجتياح أراضيهم. وأصل الفكرة مهندس طيران في الجيش الإسرائيلي اسمه كريم إبراهيم ولد في بغداد، وهاجر مع والده التاجر إلى فلسطين المحتلة عام 1951.

وفي عام 1980، هاجر كريم إبراهيم إلى الولايات المتحدة، غير أن طلبات جيش الاحتلال لم تهاجر مخيلته، فحول قبو منزله في ولاية كاليفورنيا إلى معمل للتجارب ونجح في تصنيع أول طائرة "درونز" صغيرة سماها "القطرس". وتميزت طائرة كريم بقدرتها على التحليق على مدى 48 ساعة متواصلة، في حين كانت تجارب أميركية سابقة لطائرات أخرى ذات أغراض تجسسية، لا تتجاوز قدرتها على البقاء في الجو أكثر من ساعتين. وإثر ذلك، نجح كريم إبراهيم في تسويق اختراعه لوكالة تطوير الأبحاث العسكرية في البنتاغون المعروفة  باسم "دربا".

وحصل المهندس العراقي الإسرائيلي على تمويل من وزارة الدفاع مكنه من تأسيس شركة كانت باكورة إنتاجها عام 1988 طائرة صغيرة سميت "أمبر". لكن تطوير الطائرة واجه صعوبات مالية، لأن الكونغرس اشترط إبلاغه بكل جوانب الإنفاق على المشروع، وهو ما ولّد مخاوفاً لدى متبنيه من تسريب أسرار المشروع، فجرى بعدها نقل المشروع من وزارة الدفاع إلى وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي)، كون أعمالها تتمتع بالسرية.

وعمد كريم إبراهيم إلى تصفية شركته الخاصة تحت مبرر المصاعب المالية، وجاءت الوثبة الكبرى لمشروعه عام 1993، بعد الهجوم الأول على مركز التجارة العالمي، بحيث أصبحت الحاجة لاختراق خطوط "الأعداء الصغار" أميركية ولم تعد اسرائيلية فقط. ومن العوامل التي ساعدت مشروع كريم لاحقاً، مساندة مدير "سي آي أي" في ذلك الوقت جيمس وولسي، لمشروعه واهتمامه به، فضلاً عن ظهور حاجة ميدانية لمنتجه في سنوات حرب البوسنة أثناء رئاسة بيل كلينتون.

وأشرفت وكالة الاستخبارات المركزية على مشروع تطوير الطائرات بدون طيار بعيداً عن "البنتاغون" ونجحت الوكالة عام 1995 في إطلاق أول طراز محدث من مخترع كريم إبراهيم "آمبر"، واختير لهذا الطراز اسم "بريدييتور". ويبدو أن دوافع السرية، لها علاقة بمحاولات تحميل الطائرة بصواريخ هجومية وتعديل مهامها من الأغراض التجسسية البحتة إلى الأغراض الهجومية البحتة.

سباق "سي آي إيه" وبن لادن

وقبل أن يغادر كلينتون البيت الأبيض، طلبت منه وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية الموافقة على قتل أسامة بن لادن ردّاً على تدمير المدمرة الأميركية، لكن كلينتون طلب من الوكالة التوقيع على إقرار بأن بن لادن مسؤول عن هجوم كول بنسبة 100 في المائة. وجادلت الوكالة الرئيس بأن العمل الاستخباري لا يوجد في أبجدياته معلومات مضمونة صحتها بنسبة 100 في المائة، وأن بإمكان الوكالة استخدام تعبير بنسبة عالية أو بنسبة معقولة.

لكن الرئيس الأسبق لم يكن متحمساً للقتل الموجه من الأساس سواء بطائرات يقودها طيارون أو طائرات بلا طيار. وعرف عن كلينتون التزامه بقانون رئاسي صدر في عهد الرئيس الأسبق جيرالد فورد يمنع توريط الجنود الأميركيين في أعمال الاغتيال أو القتل غدراً؛ فما كان من وكالة "سي آي أي" إلا أن انتظرت بضعة شهور، حتى جاء الجمهوري جورج بوش رئيساً جديداً للولايات المتحدة خلفاً لكلينتون.

وتزامن قدوم بوش إلى الرئاسة مع وجود معركة خفية حامية الوطيس بين وكالة الاستخبارات المركزية وأسامة بن لادن، بحيث كان كل طرف يخطط بهمة عالية للانتقام من الطرف الآخر. وكان السلاح السري الذي طورته الوكالة وتريد تجريبه مع بن لادن هو طائرات بدون طيار تم نقلها في سرية تامة إلى أوزبكستان، تمهيداً للاقتراب من بن لادن واستخدامها في مراقبته، وبعد ذلك إطلاق صاروخ متفجر من على متنها لإنهاء حياته. وفي الوقت نفسه، كان بن لادن يخطط لاستخدام طائرات من نوع آخر واختراق خطوط دفاع أعدائه بأسلوب مبتكر، عن طريق تحويل الطائرات المدنية إلى صواريخ مدمرة بتكلفة زهيدة، وتكليف انتحاريين لمهاجمة الأهداف المنتقاة داخل خطوط العدو البعيد.

وقبل أن ينفذ بن لادن خطته، كانت "سي آي أي" تسابقه في تنفيذ خطتها، بحيث التقطت طائراتها صوراً من الجو لشخص طويل القامة في مدينة قندهار الأفغانية محاط بحراس ذوي قامات أقصر من قامته، واستمرت في فرض الرقابة عليه منذ السابع من سبتمبر/أيلول 2000، أي قبل عام من هجمات "القاعدة" على نيويورك وواشنطن. وبعد رفض كلينتون التوقيع على قرار قتله، كان أول طلب تقدمت به الوكالة للرئيس الجديد بوش بعد أسبوعين فقط من تنصيبه، هو الموافقة على تصفية بن لادن، وكان لها ذلك على الفور.

لم يحالف الحظ الوكالة في الإسراع بخطتها، إذ إن سوء الأحوال الجوية في فصل الشتاء أجبرها على إعادة الطائرات إلى قواعدها في أوزبكستان، في حين بدأت تجارب تحميل صواريخ "هيلفاير" على طائرات كريم إبراهيم المسماة "بريدييتور".

وفي الرابع من سبتمبر/أيلول 2001، تم إبلاغ بوش خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، أن الوكالة نجحت في تحويل الطائرات التجسسية إلى طائرات مقاتلة، ونقلت مستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس للوكالة موافقة الرئيس على استمرارها في تطوير مشروعها الطموح، على أن يقتصر العمل الفعلي لهذا النوع من الطائرات على جمع المعلومات فقط في الوقت الراهن، وهو ما أتاح لبن لادن أن يحقق السبق في توجيه ضربته في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.

وفي الرابع من فبراير/شباط عام 2002، نفذت وكالة الاستخبارات الأميركية أول ضربة لها بطائرة بدون طيار مستهدفة ذلك الرجل الطويل الذي انتقل من قندهار إلى خوست، فإذا بالنتيجة مخيبة للآمال إذا اتضح بعد مقتله أنه افغاني بريء لا علاقة له بتنظيم "القاعدة" من قريب أو بعيد.

أول ضربة ناجحة لـ"درونز"

في نوفمبر/تشرين الثاني 2002، تمكنت وكالة الاستخبارات المركزية من إثبات نجاح طائرات "درونز" (بدون طيار) بالتجربة العملية للمرّة الأولى في منطقة صحراوية بمحافظة مأرب اليمنية عام 2002، وذلك في عهد الرئيس اليمني المخلوع علي عبدالله صالح. وكان الهدف هو أول قائد لتنظيم "القاعدة" في اليمن أبو علي الحارثي، الذي اعتبرته الاستخبارات المركزية المسؤول الأول عن تفجير المدمرة الأميركية "يو إس إس كول" لدى رسوها في ميناء عدن جنوبي اليمن، باعتبار أن الزورق المفخخ قاده انتحاريان من أعضاء التنظيم الذي يقوده الحارثي.

ولم يكن الحارثي وحيداً لحظة استهدافه بصاروخي "هيلفاير"، بل كان معه خمسة أشخاص آخرين متجهين معه من محافظة شبوة الجنوبية إلى محافظة مأرب اليمنية الشمالية في موكب مؤلف من سيارتين. أحرق لهيب الصاروخ أجساد خمسة رجال آخرين بينهم مواطن أميركي من رفاق الحارثي.

هذا الهجوم الأول بطائرة "درونز"، والوحيد الذي ينفذ في اليمن في عهد إدارة بوش، إذ إن العدد الهائل من الهجمات تم في عهد باراك أوباما، بحيث إن إدارة الأخير استخدمت سلاح الطائرات بدون طيار بمعدل يفوق ما استخدمته إدارة بوش بخمسة أضعاف، حسب الوثائق التي كشف عنها موقع "إنترسبت" الإلكتروني .

ولم تستخدم إدارة بوش هذه الطائرات سوى 52 مرة، سقط فيها 416 قتيلاً، فيما تم تنفيذ مئات الغارات في عهد أوباما سقط نتيجتها آلاف القتلى. وبحسب المصدر نفسه، فإن 90 في المائة ممن قتلوا في غارات الطائرات بدون طيار لم يكونوا الأشخاص المستهدفين.

وشملت الغارات في عهد بوش خمس دول باكستان وأفغانستان واليمن والصومال والعراق، ووسعها أوباما لتشمل ليبيا وسورية، وقتل في هذه الغارات عدد كبير من القادة المعروفين لتنظيم "القاعدة"، أبرزهم ناصر الوحيشي ويوسف الشهري وأنور العولقي وجلال بلعيدي. وشهد عاما 2011 و 2012 أعلى نسبة من ضربات الطائرات بدون طيار.

ومن أبرز ضحايا الطائرات بدون طيار كذلك مواطن لبناني، يدعى بلال شرم برجاوي، الذي جرد من جنسيته البريطانية قبل أن يتم قتله في غارة أميركية بدون طيار في عام 2012. وتعاونت الاستخبارات البريطانية والأميركية من أجل وضع برجاوي تحت المراقبة لعدة سنوات، كان يسافر خلالها ذهاباً وإياباً بين المملكة المتحدة وشرق أفريقيا، ولكن لم يتم القبض عليه، وفضلت الولايات المتحدة استهدافه في الصومال بدون محاكمة.

جيل "سيكادا" الجديد

يحاول البنتاغون حالياً أن يسحب البساط من وكالة الاستخبارات المركزية، وأن يتولى كل ما يتعلق بطائرات "درونز" بحيث يعمل على تطوير طائرات يصل حجمها إلى أقل من حجم كف ليس لاستخدامها في التجسس فقط، ولكن لتحويلها إلى سلاح حربي قد تستعيض عن طريقه الدول الكبرى عن إرسال الجنود بإرسال أسراب من "الجراد الإلكتروني" الذكي.

ويتم توجيه هذا السرب من "الجراد" عبر نظام "جي بي إس" للملاحة المتصل بالأقمار الصناعية وقد أطلق عليه اسم "سيكادا". وصمم هذ النوع من الطائرات ليتم إسقاطها من الجو من على متن طائرات كبيرة.

وتعمل الأبحاث حالياً على تزويد هذه الطائرات بقدرات على ملاحقة الأشخاص اعتماداً على  بصمات أصواتهم أو وسائل تعرف دقيقة لا يمكن أن تخطئ. وتشكل "سيكادا" تطوراً كبيراً في مجال التجسس، وتمتاز بكلفتها الرخيصة التي لا تتعدى ألف دولار. وإذا ما تم تجهيز جيش كامل من هذه الطائرات، فإن إشراكها في المعارك لا يتطلب تحمل التكاليف التي تتطلبها الموارد البشرية.

يتم إجراء تجارب على طائرات "سيكادا" في ولاية أريزونا منذ عام 2011، وتطير بسرعة 75 كيلومترا في الساعة الواحدة، ويمكن إسقاطها من على ارتفاع يتجاوز الخمسين ألف قدم، وهي مجهزة بأجهزة استشعار تمنع ارتطامها بأي جسم صلب مهما كان. وتتلقى التعليمات عن طريق الريموت كونترول، وبإمكان مالكها الاستعاضة عن ذلك بتخزين التعليمات مسبقاً بما في ذلك إحداثيات المكان المحدد الذي ستذهب إليه، والمهمة التي ستقوم بها أو الشخص الذي سوف تستهدفه.

ورغم هذه المواصفات، إلا أن الخلاصة التي خرج بها السيناتور الأميركي البارز جون ماكين رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي، هي أن على الأميركيين ألا ينخدعوا بالتقنيات بصورة مبالغ فيها ولا بقدرات استخباراتهم "رغم أنها الأفضل في العالم، ولكن مهما وصلت قدراتها فإنها لن تتمكن من اعتراض كل مكالمة هاتفية ورصد كل الأنشطة المعادية جنباً إلى جنب مع متابعة الأنشطة العسكرية الروسية على الحدود لحلف شمال الأطلسي، أو تحركات الجماعات الإرهابية في جميع أنحاء العالم". وقال ماكين في إحدى جلسات لجنته هذا الشهر "نحن لا نعرف دائماً ماذا يدبر لنا الخصوم ولا ما ستكون عليه قراراتهم ناهيك عن فهم الآثار المترتبة على تلك القرارات".

اقرأ أيضاً: العراق وسورية في مرمى الـ"درونز" الأميركي