انقلاب في أميركا: فاز التمرّد... خسرت كلينتون... وربح بوتين

انقلاب في أميركا: فاز التمرّد... خسرت كلينتون... وربح بوتين

09 نوفمبر 2016
فوز ترامب مفاجأة لها وقع الصاعقة (مارك ويلسون/ Getty)
+ الخط -



بقياس التوقعات والاستطلاعات الانتخابية، جاء فوز دونالد ترامب، برئاسة الولايات المتحدة، مفاجأة لها وقع الصاعقة. حتى على الحزب الجمهوري الذي سبق وتنصّل بعض أعضائه من مرشحه. كل الحسابات قرأت النبض الشعبي بشكل خاطئ. بدت نسخة تقريباً عن "بريكست" وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. صدمت سائر الأطراف بمن فيهم الحزب الجمهوري الذي صار ما تبقى منه تابعاً لترامب.

زلزال دشّن مرحلة أميركية مفتوحة على المزيد من التخبّط  في الداخل، ومن القلق في الخارج، ما عدا موسكو التي خرج رئيسها فلاديمير بوتين الرابح الأول من هذا التغيير. مدّ الجسور مع ترامب خلال الحملة الانتخابية، وخصّه بالثناء لأنّ مقارباته الخارجية "الساذجة" يسهل على الكرملين تطويعها.

لا شك أنّ قنبلة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي" جيمس كومي، قبل أكثر من أسبوع حول الرسائل الإلكترونية لكلينتون، قد ساهمت في تأجيج النفور من كلينتون، غير المرغوب فيها أصلاً، إلا أنّ الفوز الكاسح لترامب الذي كسر كل الحواجز، وتجاوز كل القواعد المعتمدة في احتساب وتقدير النتائج، يعكس حالة نفور شعبي أوسع وأعمق من تأثير فعلة كومي، ويمثّل ثورة سياسية، سبق وتحدّث عنها المرشح الديمقراطي بيرني ساندرز، وكاد أن يفوز بالترشيح على أساسها.

تعيش أميركا حالة احتقان داخلي مزمن، فاقمته الأزمة المالية عام 2008. قبلها، وعلى إثرها توسّعت الفجوة على حساب  الطبقة الوسطى التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد الأميركي. تأزّمُ وضع النظام الذي يعكس عجز وترهل الحزبين الجمهوري والديمقراطي عن تسيير عجلة الإصلاحات، زاد من حدة النقمة في صفوف الرأي العام على النخبة السياسية التي بدت مشلولة وغير مبالية بتحريك الأمور، وتفعيل آليات الحكم. الأمر الذي جعل من مطلب "التغيير" أولوية ضاغطة وأساسية، في حسابات الناخبين.

التقط  ترامب اللحظة، ونزل إلى حلبة الترشّح للرئاسة، طارحاً نفسه كعميل للتغيير من خارج الطاقم السياسي. تبنّى قضايا حساسة مثل الهجرة، والتجارة الخارجية، والالتزامات العسكرية في الخارج، والتي تعهّد بالتصدي لها ومعالجتها، بصورة عزفت على الوتر الشعبي. تمسّك بخطابه هذا طوال الحملة الانتخابية، بصرف النظر عن هشاشة  طروحاته، والتي بدا معظمها لا أكثر من مجرد هوبرة  ووعود فارغة. خصومه الجمهوريون تساقطوا الواحد بعد الآخر. قواعدهم الرافضة، التفّت حول الصوت الجديد.

ارتفعت حظوظ ترامب أكثر، بفعل تعثّر كلينتون التي عانت من ضعف الشفافية، والمحسوبة على نفس النخبة المرفوضة، لا سيما وأنّها عاجزة عن تبنّي برنامج خارج المألوف المرفوض. باعت كلاماً أكثر مما كانت جديدة في طروحاتها وجدّية. اطمأنت كغيرها، إلى أنّ ترامب غير مقبول؛ لا تجربته تسوّغ انتخابه، ولا يملك حسّ التقدير السليم للأمور، حتى في مجال أعماله التي منيت بعدة إفلاسات، ولا مزاجه ولسانه الذي لم يسلم أحد من تطاولاته. ثم إنّ تنصيب ترامب نفسه كرائد للتغيير، لا يستقيم لأنّه هو نفسه جزء من النظام الذي بنى ثروته من خلال الاستفادة من فجواته. كل هذا صحيح.

لكن ما غاب عن الحسبان أنّ نقمة الناخب شفعت له، وتخطّت كل نواقصه، وبالتالي أطاحت بكل خصومه، وحملته بالنهاية إلى البيت الأبيض. لم ينفع التمويل، حيث أنفقت حملة كلينتون ثلاثة أضعاف ما أنفقه ترامب. ولا الماكينة الانتخابية المتفوّقة التي أدارت حملة كلينتون. ولا نفع أيضاً وقوف النخب السياسية والفكرية والإعلامية ضدّه. ناهيك عن الصوت اليهودي وأمواله التي انهمرت على كلينتون، بلا حساب. كله ذهب سدى. فوز ترامب تحوّل حاد في الحياة السياسية الأميركية. انقلاب سلمي صاعق.

لكنّ أميركا تتجّه نحو أزمة ترئيس فائز لا يملك من عدة الحكم إلا الصوت وصداه. والأخطر أنّه يزمع كما تردّد، تركيب إدارة من الديناصورات المنسية والخطيرة، مثل جون بولتون وزيراً للخارجية؟ ورودي جولياني وزيراً للعدل؟ وكريس كريستي وأمثالهم من عتاة اليمين الشوفيني القومي الفجّ، والذي لا يعمل بأنصاف الحلول ويتعامل بروح انتقامية.

اختار الأميركيون رئيسهم. كتبوا فصلاً من التاريخ بانتخاب ثري من عالم النجومية والأعمال. تحدّث ترامب في خطاب القبول، قبل فجر الأربعاء، بلغة الوحدة والمصالحة والوعود في الداخل وبلغة التسويات مع الخارج. تماماً عكس خطابه الانتخابي. مثل هذا الخطاب تقتضيه لحظة "النصر". تبقى العبرة في العمل، ولو أنّ تغيير الجلد لا يحصل بين ليلة وضحاها، خاصة في أميركا المنقسمة على نفسها حتى العظم.