هل تخرج تونس من سجن "الفرنسية"؟

هل تخرج تونس من سجن "الفرنسية"؟

09 نوفمبر 2016
وزير التربية التونسي ناجي جلول (ياسين قائدي/الأناضول)
+ الخط -
في غفلة من الأحزاب تقريباً، ومن دون أن يثير الأمر أي ردة فعل، عدا بعض الشخصيات الثقافية والسياسية، شهدت تونس، الأسبوع الماضي، جدلاً عن بُعد بين وزير التربية، ناجي جلول، والسفير الفرنسي في العاصمة التونسية، أوليفييه بوافر دارفور، حول مكانة اللغة الفرنسية في تونس. قال جلول، في تصريح صحافي لمناسبة النقاش حول إصلاح التعليم في تونس، إن هناك نية لتحويل اللغة الإنكليزية إلى اللغة الثانية، بعد العربية، أي عوضاً عن الفرنسية، بالإضافة إلى تخصيص معاهد تدرّس كل المواد باللغة الإنكليزية. ولم يتأخر رد بوافر دارفور، مشيراً، في تصريح لإذاعة محلية في صفاقس، إلى أن جلول أكد له، في اللقاء الذي جمعهما، أن اللغة الفرنسية ستحافظ على مكانتها كلغة أجنبية أولى في تونس، مؤكداً أنه تم تأويل تصريحات الوزير المتعلقة باعتماد الإنكليزية كلغة أجنبية أولى في تونس عوضاً عن الفرنسية. ولم يكتف السفير بالرد نيابة عن جلول، بل أضاف بـ"شجاعة" سياسية غريبة ولافتة، أن الوزير تلقى تعليماً في فرنسا وزوجته أستاذة في مدرسة فرنسية. وأعرب السفير عن إعجابه بما لمحه من حرص وزاري على اعتماد اللغة الفرنسية في مناهج التدريس التونسية، باعتبارها اللغة الأجنبية الأولى في تونس، إلى جانب تدعيمها بلغات أجنبية أخرى.

ولا تخفي نبرة السفير ملمحاً كولونيالياً، حين يتحدث نيابة عن وزير في دولة ذات سيادة، وينفي تصريحاً له، مؤكداً أنه تم تأويله، وأنه وزوجته درسا في فرنسا، ليختم بالتأكيد القاطع على أن اللغة الفرنسية ستبقى اللغة الأجنبية الأولى في تونس. والغريب أن الوزير التونسي، صاحب الشعبية الكبيرة في تونس، لم يرد على هذا التصريح الغريب للسفير الفرنسي، والأغرب أن أي حزب تونسي لم يعلق على ما حدث، في حين يدرك الجميع في تونس أن هذا الجدل ليس مجرد نقاش ثقافي أو فكري خالص، وإنما هو موضوع سياسي بامتياز، يتعلق بصراع نفوذ دولي حول المستعمرات القديمة، يتناسى أنها تحررت وثارت على نظمها لتعيد تشكيل هويتها السياسية ومؤسساتها الدستورية وصياغة وضع جديد، يقوم على استقلالية القرار الوطني بما يخدم مصلحتها أولاً.

ربما يكون مفهوماً في الصراع الدائر حالياً في منطقة المغرب العربي وشمال أفريقيا، أن أغلب المستعمرين القدامى، أو كلهم تقريباً، يتنافسون لإبقاء نفوذهم الاقتصادي والسياسي وحتى العسكري في هذه الدول، مثلما يحدث مع إيطاليا في ليبيا، أو فرنسا في تشاد والنيجر، ودعم نفوذهم المعنوي والاقتصادي في بقية الدول. غير أن هذه القوى التقليدية تنظر بعين الريبة إلى اللاعب الأميركي الجديد واللاعب البريطاني الذي يتزايد نفوذه باستمرار في هذه المنطقة، خصوصاً بعد تراجع الدعم الفرنسي خلال سنوات الثورة التونسية والليبية، ودخول الأميركيين بقوة لمساندة تونس بالذات. غير أن فرنسا التي تعيش أزمات اقتصادية كبيرة منذ سنوات، تعوّل على عامل اللغة وتغلغله في المجتمعات الجزائرية والمغربية والتونسية، حيث أظهر تقرير للمنظمة الدولية للفرنكوفونية، أن تونس احتلت المرتبة الأولى من حيث استخدام اللغة الفرنسية في الدول المغاربية بنسبة 54 في المائة (نحو 6 ملايين شخص من أصل نحو 10 ملايين)، تليها الجزائر بواقع 33 في المائة (نحو 11 مليون شخص من أصل 40 مليوناً)، ثم المغرب بنسبة 31 في المائة (نحو 10 ملايين من أصل 30 مليوناً). وأشار التقرير أيضاً إلى أن نسبة المتحدثين بالفرنسية هي الأعلى في أفريقيا، بنسبة 54.7 في المائة، متقدمة على أوروبا التي وصلت فيها النسبة إلى 36.4 في المائة، ما يعني أن نفوذها الثقافي واللغوي كمدخل للنفوذ العلمي والاقتصادي، هو في أفريقيا قبل أي منطقة اخرى.

لكن الدول المغاربية بدأت تعي أنها قابعة في سجن "الفرنسية"، وأنها لتطوير تعليمها، واقتصادها بالتالي، لا بد أن تتأقلم مع اللغة التي يتحدثها معظم سكان العالم، حيث تنتشر الإنكليزية لدى 25 في المائة من سكان العالم، بعدد 1.8 مليار ناطق باللغة الإنكليزية كلغة أولى، بالإضافة إلى أن مختلف دول العالم تتخذها كلغة ثانية أو ثالثة، بينما تحتل اللغة الفرنسية المرتبة التاسعة في العالم، بنسبة 3.05 في المائة فقط. هذه المعطيات بدأت تقود إلى ما يشبه التمرد المغاربي على السيطرة الفرنسية. وأوردت مواقع مغربية أن رئيس الحكومة المغربية عبد الإله بنكيران، عبّر عن الرغبة في تحويل السياسة التعليمية نحو اللغة الإنكليزية، قائلاً إنّ "الفرنسية ليست قدرنا إلى يوم القيامة، وإذا كنا سنختار، فإننا يجب أن نختار الإنكليزية، لأنها لغة العصر والعلم والتجارة، ولا أندم على شيء أكثر من ندمي على عدم تعلم الإنكليزية جيداً".

ولعل الوعي الفرنسي بأن اللغة تبقى دائماً مفتاحاً للدخول إلى المستعمرات القديمة، هو الذي دفعها أصلاً إلى تعيين هذا السفير في تونس، حيث لم يعرف له ماض دبلوماسي كبير، باستثناء عمله في وزارة الخارجية الفرنسية منذ العام 2007 كسفير للجاذبية الثقافية باعتباره كاتباً فرنسياً ومقرباً من مقدم الأخبار الفرنسي التاريخي باتريك بوافر دارفور، وشغل منصب مدير إذاعة فرنسا الثقافية. لكن هذا السفير فشل في هذه "الجاذبية" منذ اختباره الأول، حيث أثارت تصريحاته قبل وصوله إلى تونس موجة من ردود الفعل، حين قال، لإحدى الإذاعات الفرنسية عقب تعيينه مباشرة، إن "مهمته الرئيسية تتمثل في حماية الجالية الفرنسية المقيمة في تونس وتوفير الأمن إلى 30 ألف فرنسي، بينهم 15 ألف تلميذ، على أرض تونس، لأن الجالية الفرنسية عُرضة للاستهداف في بلد مثل تونس عُرف بتصدير الإرهاب والجهاديين المتطرفين"، لتتولى السفارة في تونس مهمة تليين الموقف، واعتبار أن التصريح أُوِّلَ أيضاً. ويدرك التونسيون أنه من الصعب، أو من غير المجدي، إثارة مشاكل في الوضع الحالي الصعب لتونس مع الشريك الاقتصادي الأول لها، إذ يبلغ عدد المؤسسات الفرنسية في تونس نحو 1300 مؤسسة تشغل نحو 125 ألف موظف، لكنهم لا يخفون انزعاجهم من هذا البخل الفرنسي والأوروبي، حيث سبق للرئيس التونسي الباجي قائد السبسي أن أشار صراحة في باريس إلى أن "تونس ليست اليونان ولا تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي، لكن المشاكل الأمنية في البحر الأبيض المتوسط تخص أوروبا أيضاً... وأن أوروبا لم تساعد تونس بما يكفي".

لكن فرنسا تبقى رغم كل هذه المعطيات والخيبات وجهة التونسيين الأولى، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وللدلالة على ذلك يتوجه رئيس الحكومة التونسية، يوسف الشاهد، في زيارة رسمية إلى فرنسا، اليوم، بعد زيارته الجزائر مباشرة، في إشارة واضحة إلى الأهمية التي توليها تونس لشريكها التاريخي، فيما يتوقع أن يزور رئيس الحكومة الفرنسية، مانويل فالس، تونس أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي أيضاً. وأكد أوليفييه بوافر دارفور، في تصريح إذاعي، أمس الثلاثاء، أن هذه الزيارة ستكون سياسية واقتصادية بالدرجة الأولى، وتتمحور حول الرهانات التي تواجهها تونس في مختلف المجالات، وأن أهم الأجندات ستكون جيوسياسة حول تعامل تونس مع الأوضاع المثيرة للقلق في ليبيا. وأضاف أن الشاهد سيلتقي الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، وفالس وعدداً كبيراً من المسؤولين الفرنسيين، وتوقيع مذكرات تفاهم بين البلدين، والإعداد للمنتدى العالمي للاستثمار الذي ستحتضنه تونس أواخر الشهر الحالي.

المساهمون