عامان تونسيان من "المرحلة الدائمة": التقلّبات الحزبية سيدة الموقف

عامان تونسيان من "المرحلة الدائمة": التقلّبات الحزبية سيدة الموقف

26 أكتوبر 2016
انشق "نداء تونس" إلى حزبين (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
شهدت الأحزاب التونسية خلال سنتين بعد انتخابات 2014 النيابية، تقلّبات متسارعة ومتضاربة، من إحساسها بالانتصار أو الهزيمة بعد الانتخابات، إلى صراعاتها الداخلية وتفتت بعضها وإعادة تشكيل البعض الآخر، بالإضافة إلى تلاشي مكوّنات سياسية كانت تشكّل رقماً صعباً في المشهد التونسي، ولكنها تكاد تغيب عنه تماماً، عدا بعض التصريحات أو البيانات من مكاتب بلا أنصار ولا قواعد. وبين 26 أكتوبر/تشرين الأول 2014 واليوم، مر المشهد السياسي التونسي بجملة من التقلبات والتطورات السريعة التي قد لا تحدث في بلدان أخرى إلا في عقود من الزمن. وانطلق المشهد الذي كان يُفترض أن ينهي وضع المؤقت إلى الدائم بُعيْد الانتخابات بمفاجأة من العيار الثقيل، عندما قرر رئيس حزب "نداء تونس" ورئيس البلاد، الباجي قائد السبسي، أن يتحالف مع حركة "النهضة" الإسلامية، بعدما قامت كل حملته الانتخابية على مواجهتها، ليشهد حزبه بداية تصدّع قد تنتهي بتلاشيه وقيام حزب جديد على أنقاضه.

نداء تونس: من الانتصار إلى التلاشي؟
وُلد "نداء تونس" من حيث لم ينتظره أحد، واستطاع أن يكتسح المشهد بسرعة ويقلب التوازن الذي سيطر على مشهد ما بعد الثورة، ويفرض تفاهمات جديدة انتهت بالحوار الوطني الذي أخرج الترويكا من الحكم وقاد إلى انتخابات 2014. ولم تنته قراءات هذا التغير إلى فهم أسباب هذا التحوّل بصيغة قطعية، والذي تم ردّه لأسباب متداخلة عديدة، إقليمية بعد ما حدث في مصر والانقلاب على شرعية الانتخابات، ودولية بسبب المخاوف من تنامي صعود التيارات الإسلامية في عدد من دول الربيع العربي، وداخلية بين أخطاء ارتكبتها أحزاب الترويكا وأخرى ارتكبتها أحزاب الثورة عموماً، وتنامي رد فعل قواعد النظام السابق أو ما يسمى بالثورة المضادة والدولة العميقة.

وأياً تكن أسباب هذا التحوّل، فقد نجح السبسي في جمع ائتلاف واسع، بدأ من العائلة الدستورية والتجمعية (نسبة إلى حزب التجمع المنحل) وانتهى إلى اليساريين والنقابيين، ومئات آلاف التونسيين الذين أقنعهم خطاب الاستقطاب الأيديولوجي وتهديدات الدولة الحديثة ونمط عيش التونسيين. ودون الغوص أكثر في تحليل ما حدث في تلك المرحلة، ألقى السبسي بكل ما قام عليه حزبه في سلة المهملات، وتحالف مباشرة بعد الانتخابات مع منافسه، حركة "النهضة"، ليبدأ "نداء تونس" رحلة التفتت والتشظي، مع خروج النقابيين واليساريين والمستقلين، وانتهاء بالمعركة المنتظرة على المواقع بين نجل الرئيس حافظ وبقية قيادات الحزب ومؤسسيه، الذين أقيلوا واحداً تلو الآخر من محيط الرئيس، وسط اتهامات بالتوريث ومحاولة السيطرة على الحزب.
وانشق الحزب إلى حزبين، وكتلته النيابية إلى كتلتين، ويشهد هذه الأيام بوادر انشقاق جديدة، قد تنهي قصة هذا الحزب، في فترة عامين من الزمن، لعلها أسرع فترة صعود وسقوط يشهدها حزب في العالم، مع أحاديث مؤكدة عن عزم السبسي تأسيس حزب جديد استعداداً للمنافسة المقبلة مع "النهضة"، أي العودة إلى ما قبل انتخابات 2014.

المرزوقي: محاولة تحويل الهزيمة إلى انتصار
غادر الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي كرسي الرئاسة بفارق ضئيل مع منافسه الباجي قائد السبسي، متهماً الثورة المضادة أو ما يسميها غرفة العمليات الدولية بالسعي إلى إسقاط الثورات العربية، وإبعاده عن قصر قرطاج. وبقطع النظر عن هذا الأمر، وعن أخطاء المرزوقي نفسه في إدارة المعركة عموماً والمنافسة الانتخابية خصوصاً، التي يعترف ببعضها اليوم، فإنه يمكن اعتبار أن المرزوقي خرج رابحاً من هذه الهزيمة، إذ كان يعتمد على حزب لم يكن حزباً جماهيرياً كبيراً يمكن الاعتماد عليه في مسيرة سياسية طويلة ومنافسات متتالية أمام أحزاب كبيرة مثل "النهضة" أو "نداء تونس". غير أن نتيجة الانتخابات الرئاسية دفعته إلى محاولة الاستفادة من الزخم والحراك الشعبي الكبير الذي سانده أثناءها، والخروج من الجلباب الضيق لحزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" إلى فضاء أرحب يعدّه للمنافسات المقبلة.

لكن حزب المرزوقي، قبيل انتخابات 2014 شهد بدوره حالة انقسام انتهت بخروج قيادات هامة منه وتأسيس أحزاب جديدة، في حين تشبث آخرون ببقاء الحزب بعد تأسيس "حراك تونس الإرادة"، على الرغم من أن حزب "المؤتمر" لم يعد يمثل الكثير في التوازنات السياسية الحالية. ويسعى المرزوقي منذ نهاية الانتخابات الماضية، إلى المحافظة على خطاب ثوري يعتمد من بين نقاطه على كشف ما يسميه مغالطات وغشّ الانتخابات الماضية، وحشد شرائح اجتماعية لم يتحقق لها شيء من الوعود. وعاد المرزوقي إلى أصدقائه القدامى لمحاولة تشكيل قاعدة سياسية واسعة يمكنها أن تواجه "النهضة" و"النداء" أو ما سيقوم على أنقاض الأخير، على أساس الوعي الجماعي بأن التشتت كان سبباً في الخسارة الماضية. وعلى الرغم من أن عمليات سبر الآراء الأخيرة تكشف عن تقدّم للمرزوقي وحزبه في نوايا التصويت، إلا أن حقيقة الموقف الشعبي ستظهر خلال استحقاق الانتخابات المحلية المقبلة.

النهضة: محاولات للتماسك والتوسع
مرت حركة "النهضة" خلال العامين الأخيرين بجملة من التطورات المتسارعة والعميقة، وتعرضت لاختبارات في مشاركتها في إدارة الحكم وفي تجديد خلفيتها السياسية وعلاقتها بمحيطها السياسي والاجتماعي. وشكّل المؤتمر العاشر خلال الصيف الماضي لحظة فارقة في مسيرة هذا الحزب، أعلن خلاله نهائياً عن الفصل بين الشقين الدعوي والسياسي. وأكد زعيم "النهضة" التاريخي راشد الغنوشي رفض توصيف حزبه بالإسلام السياسي، لقطع الخطوة الأخيرة نحو الانفصال النهائي عن تهم "الأخونة"، والسعي لتحديث الحزب فكرياً وهيكلياً، وتحديد مهامه بتخفيف أعباء الدعوة، ومنحه سمات الحزب المدني الصرف، القادر على المنافسة على الحكم.

ولكن المؤتمر العاشر نفسه، كشف عن وجود خلافات حقيقية داخل الحزب مع تيار الغنوشي، وقدّم بشكل علني معارضة لبعض خياراته خصوصاً على المستوى السياسي. هذه المعارضة الصاعدة لم تقبل فكرة التحالف مع السبسي أو "نداء تونس" في الأصل، وهي شككت في كيفية إدارة هذا التحالف ودفعت في اتجاه محاولة فرض بعض شروطها، خصوصاً أن "النهضة" هي الحزب الأكثري في البرلمان الآن. وشهدت الأيام الأخيرة انضمام شخصيات مستقلة من خارج الحركة إلى مكتبها السياسي، وسط دعوات لتوسيع هذا التوجه، في محاولة لاستقطاب شرائح أخرى من الكفاءات السياسية أو الإدارية أو العلمية، والاستعداد للمنافسات المقبلة. ويبقى السؤال حول مدى قدرة الحركة على المحافظة على تماسكها، ولكن العودة إلى خطاب ما قبل انتخابات 2014 والعمل على خلق تكتلات ضد "النهضة"، قد تقدّم لها خدمة كبيرة برص صفوفها من جديد وتأجيل خلافاتها.


الجبهة الشعبية: سقوط حلم اليسار الكبير؟

استطاعت "الجبهة الشعبية" اليسارية أن تحافظ على تماسكها رغم بعض الهزات، وحافظت على كل الشخصيات والأحزاب التي انتمت إليها منذ البداية، ولكنها بدأت تشهد في الآونة الأخيرة تململ بعض قياداتها وخروج بعض خلافاتها إلى العلن، بسبب الموقف السياسي من المشاركة في إدارة الأزمات التي تمر بها البلاد. ويذهب بعض المنتمين إلى الجبهة، إلى اعتبار ذلك محاولة لضرب وحدتها من الخارج، خصوصا أنها بقيت متماسكة في موقفها الرافض للمشاركة في الائتلافات المقترحة، ومحاولة إغراء بعض قياداتها لدق إسفين بين أبرز مكوّناتها، حزب "العمال" وحزب "الوطنيون الديمقراطيون الموحّد".
لكنّ ما يمكن أن يكون ثابتاً داخل العائلة اليسارية هو فشلها في جمع كل القوى اليسارية في جبهة موحدة تكون قادرة على المنافسة. والتأم منذ أيام مؤتمر لتوحيد بعض الأحزاب اليسارية، بعيداً عن الجبهة، وسط تلميحات وانتقادات لرفضها المتواصل المشاركة في إدارة الحكم بالشكل المطروح حالياً. وعلى الرغم من أن الجبهة حققت تقدّماً نسبياً في انتخابات 2014، فإن السؤال يبقى مطروحاً حول قدرتها على إحداث فارق حقيقي في المشهد السياسي التونسي، خصوصاً أنها تنجح في انتخابات الهيئات والجمعيات والنقابات، وتحظى بحضور واسع في المشهد الإعلامي، وقد تشكّل الانتخابات المحلية اختباراً حقيقياً لمدى انتشارها في المناطق، وربما امتحاناً فارقاً في مسارها السياسي.

مشروع تونس: بديل للنداء أم نسخة عنه؟
خرج حزب "حركة مشروع تونس" من رحم "نداء تونس"، بعد سلسلة استقالات من الأخير. واعتمد على انشقاق عدد كبير من النواب ما أدى إلى تأسيس كتلة جديدة أعطت زخماً سياسياً واضحاً لـ"مشروع تونس"، وورقة مكّنته من لعب دور مهم في المفاوضات الأخيرة حول حكومة الوحدة. ولكن هذه الكتلة نفسها شهدت في الأيام الأخيرة تصدّعاً قادته بعض العناصر التي انتقدت ما سمته دكتاتورية الأمين العام، محسن مرزوق، وعودة الأسباب نفسها التي قادت إلى أزمة "نداء تونس". وعلى الرغم من أن هذا الحزب الجديد يملك حضوراً سياسياً بارزاً نابعاً من كتلته النيابية، إلا أن حجمه الشعبي الحقيقي لم يتضح بعد، بالإضافة إلى أنه يلعب على وتر المعارضة أحياناً ويساند الحكومة أحياناً أخرى. ويضم هذا الحزب عدداً من الوجوه اليسارية والنقابية والدستورية التي كانت وراء تأسيس "النداء"، وشهد في الفترة الأخيرة موجة من انضمام وزراء ومسؤولين سابقين قبل الثورة.

آفاق تونس في معزل عن الأزمات
نجح حزب "آفاق تونس" الليبيرالي في المحافظة على تماسكه، والنأي بنفسه عن الأزمات التي شهدتها أحزاب "خرى، واستطاع المحافظة على خط سيره الذي رسمه منذ البداية، وهو المشاركة في الائتلاف الحكومي من دون التورط في أخطائه. ولعب الحزب دور المعارضة مرات عديدة، على الرغم من أنه كان في قلب الائتلاف الحكومي، ما قاد إلى محاولة عزله جزئياً بالتقليص من حضوره في الحكومة الجديدة. وبدأ "آفاق تونس" يستعد للانتخابات المقبلة بضم عدد من الوجوه الرياضية البارزة إلى صفوفه، وستكون الانتخابات البلدية امتحاناً حقيقياً لشعبية هذا الحزب، وخياراته الاقتصادية بالذات.

التيار الوطني الحر: رحلة التشتت
خرج "التيار الوطني الحر" من تشكيلة حكومة الوحدة، وبدأت كتلته النيابية في التقلص، بعد انضمام بعض أعضائها إلى كتلة "النداء". ويبدو التيار في رحلة الباحث عن هويّة، بحكم غياب أطروحات فكرية تسند توجهاته. ويعيش هذا الحزب حالة اضطراب حقيقية بسبب عدم وضوح خياراته، وتذبذب قراراته، بين محاولة الانضمام والتوحّد مع أحزاب أخرى أو البقاء مستقلاً، وبين مساندة الحكومة والمعارضة.

أحزاب تلاشت
لم تكن انتخابات 2014 مجرد محطة انتخابية تشهد نجاح أحزاب وفشل أخرى، وإنما كان وقعها شديداً على مكوّنات سياسية كانت تشكّل رقماً صعباً قبل الثورة، وبعدها. ولكن صدمة النتائج دفعت أحزاباً مثل "الجمهوري" و"التكتل" إلى بداية رحلة تلاشٍ وانحلالٍ تامٍ، ولم تتمكن من صياغة خطاب جديد يمكّنها من العودة إلى الحياة السياسية ولو تدريجياً.

وتُلخّص استقالة محمد بنور أحد مؤسسي حزب "التكتل"، أحد أحزاب الترويكا بعد الثورة، حالة هذا الحزب. وكشف بنور في تصريح لوكالة الأنباء التونسية أخيراً، أن "التكتل بقيادته المهترئة ووضعه الحالي ليس في مستوى المرحلة، وأن الأمين العام، مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي، لم يستخلص العبرة من فشل الحزب في الانتخابات التشريعية والرئاسية ولم تكن له الشجاعة الكافية للاستقالة وتحمّل مسؤولية الفشل"، مشيراً إلى أن العديد ممن استقالوا من الحزب منذ الانتخابات الماضية لم يجدوا الأرضية لإعادة تجديد الحزب ووضعه في المقدمة. وأكد أن "التكتل ليس في مستوى الوضع الخطير الذي تمر به البلاد وهو غائب عن الفعل السياسي".
ويبدو تلخيص الفشل في بن جعفر أمراً مبالغاً فيه، إذ استقال أحمد نجيب الشابي من الحزب الجمهوري، ولكن ذلك لم يغيّر كثيراً من وضع هذا الحزب العريق، الذي تراجع من الصفوف الأولى ولكنه بقي موجوداً من خلال بعض المواقف، وقد تسنح له الفرصة للعودة من جديد، إذا تمكن من تفادي تذبذبه، فهو يشارك في حكومة الوحدة ولكنه ينتقد أداءها في الوقت نفسه، بما يزيد من ضبابية تموضعه لدى الناخبين.

المساهمون