بشارة يطرح الإشكاليات النظرية للجيش والسياسة عربياً

بشارة يطرح الإشكاليات النظرية للجيش والسياسة عربياً

الدوحة

العربي الجديد

العربي الجديد
01 أكتوبر 2016
+ الخط -
افتتح المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدكتور عزمي بشارة، مؤتمر "الجيش والسياسة في مرحلة التحول الديمقراطي في الوطن العربي" الذي ينظمه المركز في الدوحة، صباح اليوم السبت، بمحاضرة طرح خلالها الإشكاليات النظرية للجيش والسياسة في الدول العربية.


تاريخ تطور الجيش النظامي

استهلّ بشارة محاضرته بالتعريف بالجيوش الوطنية الحديثة "أي القوات المسلحة المنظمة في فرق وأسلحة وفيالق وكتائب أو غيرها من التشكيلات المدربة على الطاعة"، و"تقوم لغرض الدفاع عن دولة، وقد تتدخَّل أيضاً للحفاظ على استقرارها الداخلي". والجيش هنا لا يعني "القوى غير النظامية المسلحة في خدمة عقيدة أو طبقة أو قضية أو حزب، أو "فيالق فرسان يلبون الدعوة للخدمة العسكرية". إذ إنّ المقصود في هذه الدراسة هو "الجيش النظامي التابع لدولة، والذي غالباً ما يرتبط به في عصرنا جيش احتياط".

وأعاد بشارة النظر إلى تاريخ تشكيل "الجيش النظامي الأول"، والذي كان "الجيش الإنكشاري العثماني"، مشيراً إلى أنه "بُنِيَ من أسرى وصبية مخطوفين، منتزعين من قراهم وعائلاتهم". وقال إن هؤلاء "أسكنوا في معسكرات خاصة خضعوا فيها لتدريب رياضي وعسكري، وتثقيف على الولاء للسلطان"، وكانت هذه الأساليب "هي ما يلزم فعله لتجاوز العلاقات الاجتماعية والولاءات والعصبيات التي تفصل الأفراد (الرعية) عن الحكام، وذلك لبناء ولاء مباشر للسلطان. فلم تقم دولة بعد، ولم يقم لها جيش يجمعه الولاء للوطن". واعتبر أن "الطريق الوحيد لإنتاج مثل هذا الولاء المباشر في ذلك العصر هو التبعية الشخصية للسلطان، أي ملكية السلطان لهم"، مشيراً إلى أن "تدريبهم وعيشهم المشترك في القرون الأولى للسلطنة" كان "الأقرب إلى تصور أفلاطون لطبقة حراس المدينة في كتابه الجمهورية".

وقال إن "جذور تدخل الجيش، بمعنى القوة النظامية المحترفة في السياسة، تضرب بعيدًا في التاريخ العثماني، إذ أنشأت السلطنة جيشًا محترفًا مرتبطًا بالسلطان يمكن اعتباره أول جيش مدرب محترف ومنظم في أوروبا".

وانتقل بشارة إلى استعراض مراحل "تجذر الإنكشارية في حياة المدينة العثمانية، حتى أصبح هذا الجيش عبئاً على الباب العالي"؛ إذ إنه "أجج تذمر السكان في الأزمات، وقاد تحركات احتجاحية.. أو شارك فيها، وتدخل بشكل مباشر في عزل الصدور العظام، وقتل السلاطين أو خلعهم"، وصولًا إلى رفضه "عملية تحديثه".

واستعرض المفكّر العربي تاريخ تحوّل الإنكشارية إلى جيش نظامي، إذ أقدم السلطان محمود الثاني (1808-1839) على تصفية قادته، وأعاد بناء "الجيش على أساس عصري حديث، غربي في الواقع، على النموذج الفرنسي ولاحقاً الألماني البروسي"، وبات "الجيش يتبع له بموجب نظام طاعة حديث، ولا يتدخل في قراراته"، و"ليس بوصفه فئة اجتماعية تابعة له، بل جيشاً حديثاً".

وأشار إلى أنه "مع تغريب الجيش، وتعرضه لقيم ثقافية جديدة، ازداد تسييسُه وتطلّعُه لدور إصلاحي في الدولة"، إلى أن برز "دوره الأكبر في الانقلاب الدستوري العثماني في العام 1908-1909، بإرغام السلطان عبد الحميد الثاني على إعادة العمل بدستور 1876، ومن ثم خلعه في العام 1909".

وفي "مرحلة التنظيمات العثمانية"، تطوّرت بنية المؤسسة العسكرية العثمانية الجديدة، "ووجهت عملية إعادة هيكلة المدارس على أساس حديث لمقتضيات بناء هذا الجيش، كما بدأ التعليم الحديث عملياً في الكليات الحربية"، قبل أن "تتبلور التنظيمات السياسية الحزبية السرية في الجيش العثماني"، وأهمها "جمعية الاتحاد والترقي" التي "ستدشن مرحلة سيطرة الضباط العثمانيين "التنظيماتيين" على السياسة والدولة، حتى انهيار الدولة العثمانية بنتيجة الحرب العالمية الأولى".




ورأى أن العسكريات الجديدة التركية والعربية الأولى في المشرق، خرجت "من رحم هذه المؤسسة العسكرية التنظيماتية". إذ اعتبر أن دور العسكرية العربية برز بدايةً بالارتباط مع الحركة العربية، "وبرز هذا الدور في تجربة المملكة السورية العربية (1918-1920) ببناء جيش وطني سوري ـ شامي حطمه الفرنسيون بعد احتلال دمشق (1920). وأشار إلى أن "جيش المملكة العربية السورية بدمشق كان جيشاً شامياً بكل معنى الكلمة، إذ لم يبق فيه من القادة الحجازيين إلا النزر اليسير. فكان أول جيش شامي على الطريقة النظامية الحديثة، وكان كثير من ضباطه ينحدرون من أصول تركمانية وكردية، لكنهم كانوا متعربين حضاريًا ولغويًا ويرون في العروبة هوية جامعة".

وفي إطار تطور بناء الجيوش العربية، أشار إلى مسار بناء الجيش المصري، الذي جاء مشابها لمسار الجيش التركي. لكنه أوضح أن الجيش المصري تأثر بالتقنية العسكرية الفرنسية قبل الجيش العثماني".

وبعد استعراض مراحل تطور الجيش النظامي، ينتقل بشارة إلى تعريف العلاقة بين الجيش والسياسة، ويقول بداية إنه "لا يوجد جيش بعيد عن السياسة بحكم تعريفه. فالجيش يتعامل يوميًا مع شؤون الحرب والدفاع، وقضايا أخرى يطلق عليها تسمية "الأمن" و"الأمن القومي". ولكنه يشير إلى أن الحالة المقصودة هنا "هي تطلع الجيش إلى السياسة بمعناها الضيق، أي ممارسة الحكم، والاستيلاء عليه، أو المشاركة فيه، أو اتخاذ القرار بشأنه".

وقال بشارة إن القرن العشرين عرف "جيوشاً مسيّسة للغاية، بل مؤدلجة، في دول غير ديمقراطية، من دون أن تكون تلك الجيوش حاكمةً؛ إذ كانت منقادة في خدمة حزب حاكم تعتنق عقيدته تحديداً، كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي ودول المعسكر الاشتراكي". وأشار إلى حالات عربية "نجح فيها النظام في العقود الأخيرة بتسييس الجيش"، شأن "الحالة السورية (منذ صلاح جديد)، والعراقية (في مرحلة حكم صدام حسين)".

واعتبر أنه في "بلاد الانقلابات العسكرية النموذجية، كالعراق وسورية، لم يحكم الجيش الدولة في العقود الأخيرة. والضباط الذين قاموا بالانقلاب الأخير (1968 في العراق، 1970 في سورية)، جعلوا نصب أعينهم أن يكون آخر الانقلابات، وذلك ببناء جيش مستقر ذي تراتبية هرمية واضحة وموالٍ للنظام، ويخضع لرقابة أجهزة مخابرات حديثة ومتطورة، وتتغلغل فيه منظمات الحزب الحاكم".

واستعرض الحالة المصرية، وقال إن ضباط الجيش حكموا مباشرة بعد ثورة يوليو. ومع محاولة صياغة مؤسسة الرئاسة فوق بقية مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش، وقع صراع مع قيادة الجيش من الضباط الأحرار، ولم يُحسم لصالح الرئاسة ومعها الضباط بالثياب المدنية، إلا بعد هزيمة عام 1967. وبعد وفاة عبد الناصر، قام أنور السادات بمتابعة تعزيز مكانة مؤسسة الرئاسة وصلاحياتها على حساب الجيش. ولكن النظام عاد واحتاج إلى الجيش في ضبط المعارضة بعد اتفاقيات كامب ديفيد، أو ما سُمِّي ناصريا "بالجبهة الداخلية". وقال إن الجيش حصل "منذ تولي المشير عبدالحليم أبو غزالة وزارة الدفاع (في نهاية عهد السادات وخلال عهد مبارك) على امتيازات كثيرة، ما رفعه فوق المجتمع المصري وقضاياه؛ وتضاعفت هذه الامتيازات في مرحلة مبارك ووزير دفاعه طنطاوي، حتى تحولت إلى نوع من إدارة ذاتية اقتصادية وعسكرية للقوات المسلحة، بحيث تأسس مجتمع عسكري أو جمهورية ضباط ذات اقتصاد مواز، وشبكة خدمات خاصة، وهي ظاهرة مصرية بالغة الخصوصية".

وقال بشارة إن النظام في العراق وسورية ومصر، لم يكن نظامًا عسكريًا، بل كان "نظام طغمة يقف على رأسها حاكم فرد، ديكتاتور، مطلق الصلاحيات عملياً، وتنصاع لأوامرِه مؤسسات الدولة كلها". وقال إن الطغمة تتألف "من المقربين والموالين له من الحزب وقادة أجهزة الأمن والجيش، ويتقاطع القرب والولاء في حالات كثيرة مع القرابة العائلية والانتماء العشائري والجهوي. وفي الحلقة الأوسع نجد رجال أعمال، وكبار بيروقراطيي الدولة والحزب، ومحاسيب مستفيدين (ومفيدين ربما!) من أصناف مختلفة".

وأشار بشارة إلى "سؤال كبير حول توقّف الانقلابات في العقود الأخيرة، في دول اعتبرت بلدان الانقلابات، أي سورية والعراق. ثم، وحين تفجرت ثورة شعبية تحديدًا في سورية، لم يقع انقلاب وبقي الجيش مواليًا للنظام، مستنزفًا بانشقاقات فردية كثيرة، ولكن بدون شرخ عمودي من أي نوع في الجيش نفسه". وأضاف "خرج المواطنون السوريون بعد أن استجمعوا شجاعتهم على إثر نافذة الأمل التي فتحت في تونس ومصر وبداية الثورة في ليبيا، وفتحوا صدورهم للجيش، فأطلق حماة الديار النار عليهم. وثبت أن "الجبهة الداخلية" بلغة هذه الأنظمة هي الجبهة الوحيدة التي استعدوا لها. لقد دخل الجيش في حالة حرب مع قسم كبير من الشعب، فتحول بذلك إلى ما يشبه المليشيا في حرب أهلية، وظل مواليا للنظام. ولا بد أن يُسأل هنا السؤال البسيط: لماذا؟".

وقال إن الأنظمة العربية استقرت، حتى بدا منذ سبعينيات القرن الماضي، كأن السودان هي الدولة العربية الوحيدة، التي بقيت قابلة للانقلاب العسكري البسيط (انقلاب البشير)، وكذلك موريتانيا، غير أنه طرح تساؤلاً كيف لم يصدق هذا الأمر على مصر؟ "فبالذات في البلد الذي شهد في عصري حسني مبارك والسادات إقصاءً للجيش عن السياسة والحكم، وقع انقلاب عسكري. ولذلك يُسأل مرة أخرى السؤال البسيط: لماذا؟ وهذا هو السؤال الثاني".

وفي هذا الإطار، رأى أن هذا الأمر يصدق على مصر أيضاً، "فانقلاب المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بقيادة عبد الفتاح السيسي، مختلف عمّا عرفناه سابقا من عبد الكريم قاسم، وحتى معمر القذافي وجعفر النميري، مروراً بانقلابات سورية. إنه ليس انقلاب ضباط من داخل الجيش على النظام الحاكم، أو على زملائهم في حالات أخرى، بل انقلاب الجيش نفسه، أي قياداته العليا على العملية الديمقراطية، لتمسك الحكم بنفسها، وذلك في إطار النظام القائم".

سمات مشتركة تضبط علاقة الجيش بالحكم

وانتقل المفكر العربي إلى البحث في 5 سمات أساسية مشتركة بين الجيوش، غير أنها لا تصل إلى درجة القانون أو النظرية الكاملة باعتقاده، إذ "يصعب التوصل إلى نظرية وقانون يضبط علاقة الجيش بالحكم وتصرفه فيه. فالجيوش تختلف باختلاف المراحل التاريخية، ودرجة تطور المجتمعات، والعقائد السائدة، وبنية الجيش الاجتماعية وغيرها".

1) الجيش بوصفه وسيلة للترقي الاجتماعي الاقتصادي في مجتمعات فلاحية

وفي هذا الإطار، يعتبر بشارة أنه في ظروف دول العالم الثالث، يبرز الجيش "بصفته جهاز الدولة الأكبر والأقوى والأكثر انضباطا من بين جميع مؤسسات الدولة والمجتمع، وهو أيضا الأحدث لناحية علاقته بمفهومي الوطن والدولة"، ولذلك "أصبحت العسكرية في الدول النامية والمستقلة حديثا المسار الرئيسي لتقدم أبناء الفلاحين وأصحاب المهن صعودًا على السلم الاجتماعي، وذلك بعد أن كانت البنى التقليدية وثقافتها تحدد مسار حياتهم، وتقرر مصائرهم سلفا، وتمنعهم من تغيير مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية".



ويضيف أنه "ربما ما زال العديد من الشباب، حتى زمننا هذا، يدخلون الجيوش العربية لأغراض الترقي الاجتماعي الاقتصادي، ولكن عدد المجالات غير العسكرية المفتوحة ازداد. أما الدوافع الأيديولوجية فخفتت إلى حد بعيد، إضافة إلى أن الدول كافة أصبحت تحرص على انتقاء عناصر منحازة للنظام، أو على الأقل غير مسيسة، لسلك الضباط".

ويشير إلى أن "الوعي السياسي للضباط الذين قاموا بالانقلابات العسكرية الأولى هو نتاج سنوات الغليان السياسي والفكري والوطني تلك، في مرحلة سادت فيها تعددية نسبية في ظل الانتداب، وتصدّر نخب ليبرالية محافظة أو محافظة من أبناء الأعيان للمشهد السياسي؛ وكذلك التعرض لتأثير هزيمة الدول العربية في الحرب عام 1948 في مثل هذه الأجواء". ويقول إن التطور اللاحق "ارتبط بعوامل كثيرة منها قدرات من برز من هذا الجيل وانعقدت له الرئاسة أو الزعامة، على طرح مشروع سياسي حقيقي، وتمكِنِّه من حسم الصراع على النفوذ من زملائه من الضباط، فالذي سيطر وحسم الأمر في النهاية أقام نظامًا معاديًا للتعددية، ومقيّدا لحرية التعبير والتنظيم وغيرها. فخُنِقت الحياة السياسية التي أنتجت جيلهم من السياسيين والمثقفين والعسكريين".

وخلص إلى أن "خنق الحياة السياسية العامة، التي توقفت عن إنجاب الضباط المؤدلجين والمسيسين، هو من أهم أسباب عدم وقوع انقلابات من نوع انقلابات ما قبل السبعينيات. هذا من بين أسباب كثيرة أخرى منها استقرار بنية النظام بعد حسم الصراع على السلطة، وبناء الجيش النظامي الكبير نسبيا، وتأسيس المخابرات العسكرية التي تتجسس على الضباط ووحدات الجيش، وإقامة الجيوش الخاصة، وغيرها من العوامل، ومنها دور ثورة أسعار النفط في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي في تحقيق الاستقرار في الجمهوريات. وهكذا توقفت ظاهرة الانقلابات العسكرية منذ بداية السبعينيات".

2) أخوية رفاق السلاح الرجولية

وتطرق بشارة في هذا الإطار إلى الرابطة التي تنشأ بين الضباط عمومًا، ولا سيما في الوحدات القتالية، وبين خريجي الكليات العسكرية من الدفعة ذاتها، وهي "رابطة رفاقية تشبه أخويات الطلبة في الكليات الجامعية في الماضي أو رابطة الخشداشية في الجيش المملوكي. وتتحول هذه إلى نوع من الولاء الشخصي للجماعة أو رفاق السلاح فيما هو جماعة أبناء الدورة. ويسهل ذلك تجنيدهم في التخطيط لتحرك أو انقلاب".

غير أنه يشير إلى "صراع شخصي على النفوذ" داخل نظام حكم حكمه انقلابيون، ويضيف "غالبا ما فُسِّرَت هذه كصراعات يسار ويمين، وقومي وإسلامي وغيرها. ولم تخلُ الساحة من هذه الأخيرة. ولكن الصراعات دارت في الغالب على السلطة والرئاسة، والنفوذ، والجاه والمنصب، وأحيانا على النهج وأسلوب العمل، وإن غلفت بادعاءات إيديولوجية من أعرضها اليمينية واليسارية. كما غالبًا ما أدت بضباط إلى التحالف مع دول جارة خصم، مثل مصر وليبيا في حالة السودان، والعراق وسورية في حالات صراعات الضباط في البلدين. كان هذا الصراع بين الطموحين من الضباط الانقلابيين شاغلا أساسيا لأنظمة الحكم العسكرية. خذ مثلا صراع عبدالكريم قاسم، وعبدالوهاب الشواف، وعبدالسلام عارف؛ وصراع جمال عبد الناصر وعبدالحكيم عامر وصلاح سالم وأنور السادات وعلي صبري، وحافظ الأسد وصلاح جديد ومحمد عمران. بل وصراعات اللجنة العسكرية البعثية طيلة سنوات 1963-1970".

3) الصراعات الحزبية والإيديولوجية

وقال بشارة إنه "في مراحل تسييس المجتمعات العربية، ولا سيما المرحلة الليبرالية الأولى بعد الاستعمار التي عجّت بالأحزاب الأيديولوجية والتيارات السياسية المحلية وتلك المتأثرة بالأفكار التي راجت عالميًا وصراعاتها: الشيوعية، القومية، الفاشية وغيره، نجد أن الضباط توزعوا بين هذه التيارات، مثلما انقسمت النخب عموما. ولكن انقساماتهم تفاوتت في الدرجة".

غير أنه اعتبر أن "البراغماتية الموجهة للحفاظ على الحكم في ظل التوازنات الاجتماعية الداخلية والإقليمية والدولية هي التي سادت فعلا. وفي حالات نادرة فقط لم يبد الضباط الذين حكموا فترة طويلة مرونة كافية للتكيف مع التغيرات الإقليمية والدولية".

4) الرهانات الدولية على الجيش والسياسة

في هذا السياق، شرح بشارة الرهانات الدولية، خصوصاً الأميركية، على "قوى جدية نشأت في الدول المستقلة حديثاً" منذ تمدد الاتحاد السوفييتي، وبرزت من بين هذه القوى الجيوش.

5) لا يقوم الضباط بانقلاب من أجل أن يحكم الآخرون

السمة الأخيرة التي عرضها بشارة في ورقته البحثية، تقوم على حقيقة أن "الضباط لا يقومون بالتخلي عن الحكم لصالح حزب سياسي إلا نادرًا". وأشار إلى أن "ما يجري غالبًا هو خلع الضباط الزي العسكري وارتداء ثياب مدنية، بحيث يتقلدون مناصب حكومية كمدنيين". وتابع أن الثياب المدنية لا تحول الحكم إلى مدني فعلا "فهو يحكم غالبًا بلغة الأوامر التي تصبح قوانينَ، كما لا يقبل بوجود أي معارضة، إذ يعتبر أي اعتراض عليه موقفًا من الوطن والدولة. وهذا أصل تخوين المعارضات لهذا النوع من الأنظمة".

وأضاف المدير العام للمركز العربي أن هذه الإشكالية تتكرر "في حالة القوى التي لا تحكم بوصفها أحزابًا تملك برامج نابعة عن فكر معين، في مقابل أحزاب أخرى لها برامج أخرى. فمن يحكم باسم حركات التحرر حتى بعد أن انتهى دورها في تحرير البلاد من المستعمر، ومن يحكم باسم الجيش، أو باسم الدين غالبًا ما يميل إلى نشر فهم لأي اختلاف معه كأنه موقف يتجاوز الاختلاف مع سياسته ومواقفه إلى خصومةٍ مع الوطن أو الدين. وفي هذا يلتقي التخوين والتكفير". وقال إن خلع الحكام الثياب العسكرية عند تولي الحكم لا يؤدي إلى تمدين العسكر، "بل إلى عسكرة السياسة".

غير أنه استعرض حالات استثنائية لتخلي الضباط عن السلطة لصالح قوى مدنية بعد انقلاب. ومنها انقلاب البرتغال 25 إبريل/نيسان 1974 ضد نظام استادور نوفو الفاشي وديكتاتورية سيليزار، التي باشرت في عهد كريتنو إصلاحات سياسية منذ العام 1969، وتخلت عنها عام 1973. وأضاف أن العامل الحاسم في هذه الحالة كان "تطلّع المجتمع المدني والسياسي في البرتغال والأحزاب والنقابات، وقسم كبير من الجيش إلى نظام ديمقراطي في بيئة البرتغال الأوروبية".

وبالنسبة للمنطقة العربية، قال إن "انقلاب الفريق عبدالرحمن سوارالذهب (السودان) بعد انتفاضة إبريل 1985" كان حالة استثنائية. إذ تبين أن "انقلابه جرى بالتنسيق مع قادة الانتفاضة والأحزاب".

وفي الأحداث الأخيرة، رأى بشارة أن تحرك وزير الدفاع المشير طنطاوي، ورئيس أركانه عنان، والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وضغطهم على مبارك للاستقالة، في العام 2011، بدا انقلابًا من هذا النوع. فقد مكث المجلس العسكري في الحكم، إلى حين تسليمه لسلطة منتخبة". غير أنه تساءل "هل كان من نفس نمط انقلاب البرتغال؟". وأجاب أنه من الواضح أنه في البرتغال بدأ الجيش الثورة وتبعه الشعب، أما في مصر فقد خرج الشعب إلى الشارع، وتحرك الجيش بأمر من رئيس الجمهورية. وتابع: "حين سنحت الفرصة عاد الجيش، واستغل عدم قدرة القوى السياسية على الاختلاف تحت سقف مؤسسات منتخبة ديمقراطيًا، ومحاولات عدد منها كسبه لصفّها ضد أخرى. وفي الحقيقة استغلّها جميعًا ليغدو المؤسسة المجمَع عليها من القوى السياسية غير المتفقة على أي شيء آخر".

ورأى أن "الانقلاب المصري عام 2013، والذي شكل نقطة تحول في تاريخ الثورة العربية من أجل الديمقراطية، يشبه انقلاب أوغستو بينوشيه، أي انقلاب جيش النظام على العملية السياسية، أكثر مما يشبه الانقلابات الراديكالية". وأضاف أنه "انقلاب النظام القديم على العملية السياسية التي تتجه نحو تغييره، في محاولة للحفاظ على امتيازاته من جهة، وعلى النظام الحاكم الذي صمد بعد أن قُطِعَ رأسُه. ليس هذا تحركَ ضباطٍ صغارٍ يسعون إلى الحكم ويجرون تجارب على نظام الحكم الأفضل، وينتقلون من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار وينفذون إصلاحا زراعيًا ويعممون التعليم، بل هو انقلاب قيادات الجيش العليا ومؤسسة الجيش. إنه انقلاب بالمعنى الضيق، انقلاب من داخل النظام للحفاظ على النظام ممن يعتبره الجيش تهديدا له، وليس من نوع الانقلابات التي تتحول إلى إقامة نظام جديد، فتطلق على نفسها غالبا تسمية ثورة".

وأشار إلى أن هذا "النوع من الانقلابات يتميز بالاستقرار للأسف. فلا مجموعة أو شلة، أو أخوية ضباط هنا، بل الجيش النظامي ذاته؛ ولا تدور بعد الانقلاب صراعات الضباط، فالهرمية التراتبية واضحة تمامًا، وقائد الجيش يصبح رئيسًا". وخلص إلى القول إن "الجيش مؤسسة تعمل وفق مصالحها، وهي تميل إلى تصوير مصالحها في مراحل الانتقال كأنها مصالح وطنية عامة، كما لا تعمل هذه المؤسسة بموجب نظام أفكار. إنها مؤسسة منظمة أعلى من حزب أو حركة أو خزان أفكار، فهل يجب في مرحلة التحول الديمقراطي اعتبارها قوة داخلية أم سيبقى النظر إليها كمؤسسة تدافع عن حدود الوطن؟ على دروس الانتقال الديمقراطي أن تتعظ بالانقلاب العسكري الأخير في مصر".

وفي الأخير، قال بشارة إنه ثبت في تركيا كما في مصر أن "الانقلاب يحتاج إلى التحالف مع قوى مدنية وسياسية لكي يتمكن من فرض نفسه على المجتمع. فهو يفشل من دونها، وهذا ما وقع في تركيا على عكس مصر".

ذات صلة

الصورة
عزمي بشارة (العربي الجديد)

سياسة

قال المفكر العربي عزمي بشارة إن جهات عديدة في أوروبا والولايات المتحدة تعمل منذ عقود بشكل منظم على تحويل التضامن مع الشعب الفلسطيني إلى حالة دفاع عن النفس
الصورة
انطلاق أعمال المنتدى السنوي لفلسطين - حسين بيضون

سياسة

انطلقت في الدوحة، صباح اليوم السبت، أعمال المنتدى السنوي لفلسطين في دورته الثانية، الذي يُنظّمه "المركز العربي للأبحاث" ومؤسسة الدراسات الفلسطينية.
الصورة
عزمي بشارة 2 - القسم الثقافي

ثقافة

ناقشت الندوة، التي أقامها "مركز مدى الكرمل"، في مقرّه بحيفا يوم الخميس الماضي، كتاب المفكّر العربي عزمي بشارة، "فلسطين: مسائل في الحقيقة والعدل"، الصادر بالإنكليزية العام الماضي، بمشاركة كلّ من الأكاديميّين مهنّد مصطفى ونديم روحانا وليلى فرسخ.
الصورة
تخريج الفوج السابع من طلاب معهد الدوحة للدراسات العليا 1 (حسين بيضون)

مجتمع

احتفل معهد الدوحة للدراسات العليا بتخريج الفوج السابع من طلاب الماجستير البالغ عددهم 186 طالباً وطالبة؛ 121 في كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية و65 في كلية الاقتصاد والإدارة والسياسات العامة.

المساهمون