الإفلات من العدالة... صبرا وشاتيلا عيّنة لما تلاها عربيّاً

الإفلات من العدالة... صبرا وشاتيلا عيّنة لما تلاها عربيّاً

16 سبتمبر 2015
الذكرى حاضرة يومياً في مخيم صبرا (حسين بيضون)
+ الخط -
في يوم مشابهٍ لهذا اليوم، كان فلسطينيون ولبنانيون يتلمّسون ما اقترفته أيادي القتلة في مخيم صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في بيروت. بعد مرور 33 عاماً على هذا اليوم، لا تزال رائحة الدم والجثث المنتهكة، تخرج من روايات الناجين منها. تبدو المجزرة اليوم حيّة أكثر من أي يوم مضى. حيّة، من خلال مجازر نعيشها كلّ يوم. تماماً، كما أننا نعيش جريمة مشابهة للجريمة بحق الشعب الفلسطيني، المستمرة منذ عام 1948. من سخرية القدر، أن يكون الشعب السوري ضحية هذه الجريمة، وهو الذي ساند فلسطين دوماً.

لم تكن مجزرة صبرا وشاتيلا مشابهة لما سبقها من جرائم، لكنها كانت عيّنة لما تلاها. الحديث ليس عن شكل الإجرام ونوعه، وخصوصاً أن عقل القتلة لا يخلو من أفكار أكثر إجراماً كلّ يوم. جوهر الاختلاف، هو هوية المنفذ. فمعظم الروايات، تتفق على مسؤوليّة اسرائيليّة مباشرة، وأيادٍ لبنانيّة منفّذة. هنا أصل القصة. استخدام العرب في قتل العرب، خدمة لمشروع إسرائيلي.

لكن القصة لا تقف هنا. لا تزال صبرا وشاتيلا واحدة من المجازر التي بقيت من دون حساب. عندما توفي رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون، (وزير الدفاع وقت حصول المجزرة) عام 2014، قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" إنه "من المؤسف أن يذهب شارون إلى قبره دون أن يواجه العدالة على دوره في صبرا وشاتيلا وغيرهما من الانتهاكات".

بقيت هذه المجزرة من دون عقاب. فقد وجدت لجنة "كاهان"، وهي لجنة تقصي الحقائق الإسرائيلية الرسمية المكلفة بالتحقيق في الأحداث، أن ثمة "استحالة في تبرير استهانة شارون بخطر المذبحة" وطالبت بإقالته من منصبه الوزاري، لكنه صار لاحقاً رئيساً للحكومة الاسرائيليّة. لم تجرِ إسرائيل بحسب، "هيومن رايتس ووتش"، تحقيقاً جنائياً في المجزرة لتبيان مسؤولية شارون وغيره من الإسرائيليين. تشير المنظمة إلى أنه في العام 2001، رفع الناجون دعوى في بلجيكا تطالب بملاحقة شارون بموجب قانون "الاختصاص الشامل" البلجيكي. إلا أن الضغوط السياسية دفعت البرلمان البلجيكي لتعديل القانون في أبريل/نيسان 2003، وإلغائه كلياً في أغسطس/آب، مما حدا بأعلى المحاكم البلجيكية إلى إسقاط القضية ضد شارون في سبتمبر/أيلول من ذلك العام.

لا يغيب عن أذهان المتابعين للمسار القانوني في هذه القضية اغتيال الوزير اللبناني إيلي حبيقة عام 2002، في ضاحية بيروت الشرقية، وهو الذي كان مستعداً لتقديم شهادته أمام القضاء البلجيكي، إذ يُتهم حبيقة وعناصر مسلّحة من مليشيا "القوات اللبنانية" التابعة له بتنفيذ المجزرة بالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي. جاء اغتياله، ليُنهي أي احتمال لتبيان حقيقة الأدوار والمسؤوليات، أمام القضاء البلجيكي، الذي كاد يقوم بدور القضاء الدولي في محاسبة القتلة.

اقرأ أيضاً: حكواتي: روايات لم تُحكَ عن مجزرة صبرا وشاتيلا

كثيرة هي الأسباب التي يُمكن أن تبرر إحالة هذه المجزرة إلى القضاء الدولي، بأشكاله المختلفة. فهي مجزرة بحق لاجئين، يؤمن لهم القانون الدولي الحماية، ونُفذت على يد جيش احتلال في عاصمة بلد محتل، وسبق أن عاش حرباً أهليّة على مدى سنوات. كما تنطبق على هذه المجزرة توصيفات الإبادة الجماعيّة.

كل هذه الأسباب، لم تكن كافية لإحالة المجرمين إلى العدالة الدولية. وهو ما توّج مبدأ الإفلات الإسرائيلي من الجرائم بحق العرب، وليس الفلسطينيين فحسب. فالجرائم الإسرائيليّة ممتدة من عام 1948 إلى يومنا هذا، وهي لا تزال بلا أي محاسبة. الأهم أن مبدأ الإفلات من العقاب هذا، تحوّل بعد المجزرة إلى مبدأ يطاول كل المجرمين في المنطقة، من الجيوش والأنظمة إلى المليشيات. وافتتح رسمياً، زمن قتل العرب بيدٍ عربيّة خدمة للمشروع الإسرائيلي.

تكررت الجريمة لاحقاً، في سورية عام 1983، وفي العراق عام 1990 وما تلاه. وصلت إلى مداها الأوسع في سورية عبر المجزرة المفتوحة على يد نظام الأسد منذ قمع الثورة السورية عام 2011. ثم استنسخ النظام المصري المبدأ عينه في المجازر التي تلت الانقلاب الذي قاده الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي عام 2013.

لا تزال مجزرة صبرا وشاتيلا الشاهد الأبرز على الاستقالة الدوليّة من محاسبة القتلة في الشرق العربي. فالإفلات الإسرائيلي من جريمة تهجير الفلسطينيين من أرضهم، وإحلال مستوطنين مكانهم، مهّد لجريمة تهجير السوريين التي نعيشها اليوم. فسورية لا تعيش حالة لجوء فحسب، بل تحوّل الأمر إلى تهجير جزء كبير من ضحاياها، لن يعودوا إلى أرضهم. تهجير وترانسفير سكاني، حاول القيمون عليه، إدراجه في بنود التفاوض على إنهاء معركة الزبداني غربي دمشق الشهر الماضي، وهو 
يترافق مع عملية استيلاء على الأراضي والعقارات لإحلال مجموعات سكانية من مذاهب معينة مكان الذين يُرحّلون، إن عبر الشراء أو حرق السجلات العقارية كما حصل في حمص عام 2013، ويترافق هذا الأمر مع مجازر مذهبية وإفراغ مناطق من سكانها تمهيداً لاستيطان آخرين.

يُراقب المجتمع الدولي ما يحصل، ويُدين ويقلق ويستنكر. يُرسل بعض المساعدات عبر منظمات دوليّة. ومع الوقت، يُصبح هاجس تأمين التمويل لهذه المنظمات، لاستمرار المساعدات هو الأولويّة. يُهجّر الملايين من أرضهم. تستوعب دول "العالم الأول" عشرات الآلاف للاستفادة منهم كيدٍ عاملةٍ رخيصة. وما تلبث، أن تنقض القوانين والمواثيق التي سبق ووضعتها لحماية حق اللجوء وحقوق اللاجئين والأفراد. يتحوّل الأمر إلى كوميديا سوداء، يوم يُبلغ رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون نظيره اللبناني تمام سلام، أن "بريطانيا العظمى" ستستقبل 1500 لاجئ سوري من لبنان. هكذا، تتحوّل المجزرة من جريمة تحتاج لمحاسبة، إلى مجموعة قضايا فرعية، يُحسن فيها البعض إلى العرب. التحقيق الجدي والشفاف بمجزرة صبرا وشاتيلا، أكثر من ضروري. بات حاجة، ليكون منطلقاً لإحقاق بعض العدالة في هذه المنطقة، وإيقاف دورة العنف القائمة على مبدأ الإفلات من العدالة.

اقرأ أيضاً: صبرا وشاتيلا حيّة

المساهمون