دروس تظاهرات بيروت: إدارة الاحتجاجات حاجة ملحّة

دروس تظاهرات بيروت: إدارة الاحتجاجات حاجة ملحّة

25 اغسطس 2015
وسط بيروت ليلة المواجهات (حسين بيضون)
+ الخط -
بيروت اليوم لا تُشبه بيروت التي راقبت النواب يُمدّدون لأنفسهم ولاية جديدة قبل أربع سنوات. الآلاف الذين خرجوا إلى شوارع المدينة، في اليومين الماضيين، أعلنوا أن اليأس والإحباط ليسا قدراً نهائياً للبنانيّين. من دون رفع مستوى الأمل إلى درجة غير منطقية، يُمكن القول براحة ضمير إن نبض بيروت لم يمت، وإن كان يُعاني من تشوهات وأمراض.

في الأيام الماضية، نزل الآلاف إلى شوارع بيروت وقرروا استعادة قلب المدينة الذي تحوّل إلى جزيرة أمنية مفرغة من الناس. واجهت السلطة هؤلاء المتظاهرين بوسائل مختلفة. استخدمت الأجهزة الأمنية للبطش بالمتظاهرين، وحركّت الغرائز المذهبيّة. فليل الأحد ــ الإثنين شهد مواجهات بين مجموعات مارست عنفاً ظاهراً بحق القوى الأمنيّة، ورددت شعارات مذهبية في محيط السراي الحكومي. وقال عدد كبير من المتظاهرين إن هذه المجموعات تتبع سياسياً لحركة أمل، وهو الأمر الذي نفته الحركة في بيان لها. وفي عز احتدام هذه الاشتباكات، قام مناصرون لتيار المستقبل بقطع عدد من الطرقات في المناطق "دفاعاً عن رئاسة الحكومة" (اقرأ الشعار المذهبي المبطّن)، ودعا النائب معين المرعبي إلى التأهب "للدفاع عن السراي الحكومي". وقد عبر وزير الداخلية، نهاد المشنوق، عن هذا الأمر بالقول يوم أمس إن هناك "حملة مدنية سلمية لها الحق بالتظاهر ومجموعة تابعة لأحزاب سياسية لديها أجندة". وفي دلالة على توافق فريقي 8 و14 آذار على مواجهة هذا التحرك، اتهام 14 آذار له بأن حزب الله يحركه، فيما يتهم 8 آذار بأن السفارة الأميركية تقف خلف المنظمين.

أسباب التحرك؟

منذ عام 2013 بدأ عدد من المشاركين في مجموعة "طلعت ريحكتم" التحرك تحت اسم "من أجل الجمهورية"، رفضاً للتمديد لمجلس النواب. تحرك هؤلاء مراراً وتكراراً، من دون أن يستطيعوا حشد أكثر من عشرات المعتصمين، رغم رفض الكثير من اللبنانيين للتمديد. لكن الإحباط كان مسيطراً. مرّ التمديد بسهولة. لكن السلطة السياسية التي مددت لنفسها فشلت في إدارة البلد وفي تأمين الحدّ الأدنى من الخدمات للبنانيين. فإلى جانب التعطيل وعدم انتخاب رئيس للجمهوريّة، واجه لبنان أزمة كهرباء حادة، ومشكلة في توفير المياه. أما المشكلة الأكبر فكانت أزمة النفايات. ففي 17 يوليو/تموز الماضي، انتهى عقد شركة "سوكلين" وأقفل مطمر منطقة الناعمة للنفايات. بدأت النفايات تتراكم في شوارع بيروت. فاحت رائحة الصفقات في ملف النفايات. تم تأجيل فض العروض لأربع مرات. بدأت البلديات برفع النفايات وتهريبها من منطقة إلى أخرى، ورميها في مكبات عشوائية. راقب أعضاء حملة "طلعت ريحتكم" عمليّة "تهريب" النفايات ووثقوا الأمر بالصور والفيديوهات.

وعند التأجيل الرابع لفض العروض، توجه عشرات الناشطين إلى السراي الحكومي ليعترضوا، وواجهتهم القوى الأمنية بعنف، وهو ما أدى إلى حشد الآلاف لتظاهرة يوم السبت، التي تعرضت بدورها إلى محاولة فضها بالعنف وإطلاق النار بكثافة في الهواء، وتراشق المسؤولون الرسميون المسؤولية حول ما جرى. لكن هذا العنف نتجت عنه مشاركة أكبر يوم الأحد، وانتهى الأمر بصدامات واسعة في الشارع.

أظهرت هذه التحركات استمرار وجود جزء مدني، بين اللبنانيين، يرفض المساومات التي تقوم بها السلطة على أسس طائفية. المشاركون بمعظمهم من أبناء الطبقة الوسطى، وغلب عليهم العنصر الشاب. وهذا التحرك دفع السلطة إلى محاولة ضربه، لما يُشكّل هذا النوع من التراكم من خطر عليها.

اقرأ أيضاً: الحكومة اللبنانية تواجه الشارع: محاولات لتخريب التحرك والاستثمار السياسي

أخطاء المنظمين

نجح منظمو التحرك في شد عصب المعترضين على السلطة السياسيّة ودفعهم لترك منازلهم والنزول إلى الشارع. لكنهم فشلوا في إدارة هذه التحركات وحمايتها. فيوم الأحد، لم يكن واضحاً وجود منظمين للتحرك، يسيطرون على مفاصله، وشعاراته. فمشاركة الناس ارتبطت بوجود مجموعة طرحت شعاراً مطلبياً واضحاً، وهو ملف النفايات، وتابعت تفاصيله. لكن رفع مستوى الخطاب السياسي إلى مستوى المطالبة بإسقاط الحكومة ومجلس النواب شكّل مطبّاً أساسياً. فإسقاط الحكومة هو مطلب فريق سياسي مشارك بالسلطة، وعلى رأسه النائب، ميشال عون. كما أن إسقاط الحكومة في ظلّ غياب رئيس الجمهوريّة يُعدّ ضرباً من الجنون. فالحكومة أصلاً، تُمارس دور حكومة تصريف الأعمال، واستقالتها تعني بقاءها كحكومة تصريف أعمال، بسبب عدم القدرة على تشكيل حكومة جديدة.

الخطأ الثاني البارز، الذي وقع فيه المنظمون، هو رفض الحوار مع رئيس الحكومة تمام سلام. فسلام، الذي يُمكن وصفه بالحلقة الأضعف في التركيبة الحكوميّة، كان يُمكن للحوار معه أن يؤدي إلى تحقيق مكتسبات ولو صغيرة في ملف النفايات. وهذا من شأنه، تعزيز ثقة الشارع بنفسه وبقدرته على إنجاز تغيير ما. وهو ما يؤدي حكماً إلى المراكمة حول قضايا مطلبية واضحة في هذا الخصوص، والكهرباء مثال حيّ في هذا الخصوص.

تعترف المجموعة المنظمة بأن التحرك بات أكبر منها. وخطأها الأساسي كان عدم الانتباه لهذا الأمر باكراً، والشروع في توسيع دائرة المشاركة في القرار. وهذا الأمر يدلّ بوضوح، على مدى الأزمة التي يعيشها الشارع المدني (غير الطائفي) في لبنان بسبب غياب الأحزاب المدنية، التي يثق بها الجمهور، ولو كانت أحزاباً صغيرة. فوجود الأحزاب، والنقابات العمالية، كان سيساهم حكماً في تنظيم التظاهرات والتحكم بمسارها وبالمشاركين فيها، وضبط أي خطاب أو شعار أو تصرّف يخرج عن السياق المرسوم.

في الشكل، يعيش هذا الحراك اليوم، مرحلة مفصليّة، وفي الأغلب فإنه يتجه إلى الضعف التدريجي، بعدما نجحت السلطة في توجيه ضربة قاسية له، مستغلة قلة الحنكة السياسيّة والقدرة التنظيميّة عند المنظمين. وهو ما يفتح الباب أمام ملاحظات أساسيّة:
ــ كرر اللبنانيّون تجربة تظاهرات إسقاط النظام الطائفي التي شارك فيها الآلاف عام 2011، وانتهت بتفجرها من الداخل، بسبب الخلاف على الاستراتيجية والتكتيك والأهم، الخلاف على الموقف من الثورة السورية في حينها. لا يبدو أن هناك من خرج بخلاصات من هذه التجربة. فالحراك حينها، كما اليوم، انطلق من رفض لواقع سائد، ومن تشبّه بما يجري في الدول المحيطة، من دون الفهم الواضح والدقيق لتركيبة المجتمع اللبناني وقدرات السلطة وأحزابها. كما لم يُستفد منه في بلورة أطر، تستطيع قيادة وتنظيم هذه التحركات.
 ــ طرحت التحركات الحاجة إلى إنشاء أحزاب مدنية جديدة في لبنان، تستوعب الكم الأكبر من الحالة المدنية، وتضع لنفسها سقفاً سياسياً واضحاً ومنطقياً. فالتجربة تُثبت مجدداً، أن الأحزاب هي الأقدر على إدارة وتنظيم التظاهرات، بحيث تصل إلى مبتغاها.

ــ يعيش النظام اللبناني في مرحلة حرجة، وتتعرض تركيبته لاهتزازات كبيرة، لكن من الواضح، أن الخلافات بين هذه المكونات، لم تصل لمستوى تخلي أي فريق منها عن بنية النظام. فسارعت هذه القوى خلال أيام قليلة إلى استنفار كل قدراتها بهدف ضرب التحرك، الذي يُمكن وصفه بأنه "تفكير خارج الصحن". الأولويّة تكمن في تفكيك ملفات الفساد واحداً تلو الآخر، والحدّ منها، وهذا بحد ذاته كفيل بضرب النظام. 

اقرأ أيضاً: ثورة النفايات تقمعها قنابل الغاز المسيّلة للدموع