مفصل تل أبيض في الحرب السورية: رباعيّة تغيّر الخرائط

مفصل تل أبيض في الحرب السورية: رباعيّة تغيّر الخرائط

24 يونيو 2015
كان دخول "الاتحاد الديمقراطي" تل أبيض أقرب إلى الصدفة(الأناضول)
+ الخط -
ليس مبالغاً فيه القول، إنّ دخول قوات "الاتحاد الديمقراطي" (الجناح السوري للعمال الكردستاني) إلى مدينة تل أبيض، هو مفصل، ليس على صعيد "الحركة القومية" الكردية وعلاقاتها بمحيطها فحسب، بل على مستوى الحرب السورية بأكملها.

فقد أظهرت المعركة الأخيرة لاعباً جديداً مدجَّجاً بغطاء التحالف الدولي ضد (تنظيم الدولة الإسلامية) "داعش"، وبخبرة قيادات "العمال الكردستاني" التي تقارب الأربعين عاماً في العمل العسكري والسياسي. وباتت مناطق "روج أفا" أي "غرب كردستان" أمراً واقعاً، وهو المصطلح الأيديولجي الذي رسّخه "الاتحاد الديمقراطي" بين عامي 2003 و2004، لاستبدال مصطلح "باشوري بجوك" أي "الجنوب الصغير" الذي كان يوحي بأنّ مناطق الأكراد السوريين تشكّل امتداداً لإقليم كردستان العراق، وذلك في مواجهة مصطلح "كردستان سورية" الذي لا تزال أربيل تستخدمه، حتى الآن، مع أنّه لا معطى تاريخي أو جغرافي أو ديمغرافي يسند رواية الحزب الكردي السوري عن أحقيته في منطقة خاصة بالأكراد أو كانتون خاص.

على الرغم من أهمية تل أبيض للربط بين كانتونَي الجزيرة وعين العرب، إلّا أنّ دخول قوات "الاتحاد الديمقراطي" كان أقرب إلى الصدفة. فالمدينة لم تكن بحسابات حزب "الاتحاد الديمقراطي" كأحد كانتوناته على الإطلاق، ولا حتى كانت في حسابات باقي أطراف "الحركة القومية" الكردية في سورية. كان الظهور الأول لتل أبيض في بداية العام الحالي، في خريطة "كردستان سورية" أو خريطة "نوري بريمو" أحد قيادات الحزب "الديمقراطي الكردستاني" الموالي لأربيل والمنضوي في "الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة"، والتي أخذت الشريط الشمالي لسورية، الممتد بمحاذاة الحدود التركية، والتي ضمّت حتى لواء اسكندرون (هاتاي) التابع لتركيا. 

وعلى الرغم من اتهامات التهجير والتهجير المضاد الذي شهدته المدينة على مدى الحرب السورية منذ يوليو/تموز 2013، يؤكد جميع الناشطين الأكراد والعرب، أنّ تل أبيض لم تشهد منذ إعلان الجمهورية السورية وحتى بداية الثورة، أي خلافات واضطرابات لأسباب إثنية، حتى أنّها بقيت هادئة أثناء أحداث القامشلي عام 2004، التي عمّت جميع المناطق التي تواجد فيها الأكراد السوريون. كما كانت هذه المنطقة خارج حسابات النظام. فلم تكن الأقلية الكردية الموجودة فيها ناشطة قومياً لتشكّل أي مخاوف تبرر التلاعب "بالعصب القومي" كما حصل في محافظتي الحسكة وحلب.

اقرأ أيضاً: القوات الكردية تمنع دخول لجنة تحقيق الائتلاف تل أبيض

بحسب إحصائيات غير رسمية، لا يتجاوز عدد سكان منطقة تل أبيض، أي المدينة ونواحيها والقرى التابعة لها، الـ400 ألف نسمة، غالبيتهم من أبناء العشائر العربية، كعشيرة البوعساف والجيس والمشهور والنعيم. كما تقطنها أقلية كردية من عشائر البرازي والدن (اليزيدية) والميلان، إذ يختلف الناشطون الأكراد والعرب حول نسبتها بين 10 و30 في المائة، وأيضاً تتواجد أقلية تركمانية وأرمنية.

وبعد سيطرة "الاتحاد الديمقراطي" على المدينة، بدأ باستنساخ المؤسسات التي تدير الكانتونات الأخرى، مثل بيت الشعب وقوات الأسايش (الشرطة) وغيرها، ليختلف المراقبون حول، إن كانت الخطوة المقبلة إعلان تل أبيض كانتوناً مستقلاً، أو سيتم إلحاقه بعين العرب، إذ يتبع منطقة تل أبيض ما يقارب الـ250 قرية. وعلى الرغم من وجود بعض القرى الصافية قومياً، لكن يغلب على معظمها الطابع المختلط. تزداد نسبة الأكراد كلما اتجهت غرباً نحو عين العرب، وتزداد نسبة العرب جنوباً وشرقاً. ولا تختلف المنطقة في تركيبتها الديموغرافية عن مدينة أكجا كالة، أي "القلعة المبيضة" على الطرف الثاني من الحدود في ولاية أورفة التركية.

أثار انتصار "الاتحاد الديمقراطي" عداء الجميع في الداخل السوري، بما في ذلك النظام والدول المجاورة. وبعد أن كان التعاون بين "الاتحاد الديمقراطي" والنظام يتخذ بعداً أقرب إلى التحالف، بدأ الوضع يتغيّر بعد الهزائم المتلاحقة التي تعرّض لها الأخير، وباتت العلاقة أقرب إلى الندية، خصوصاً بعد الاشتبكات التي حصلت بين الجانبين في الحسكة بداية العام الحالي، ومن ثم استنجاد النظام بـ"الاتحاد الديمقراطي" في هجوم "داعش" الأخير على الحسكة، إذ تشير تقارير عدّة إلى غضب النظام السوري من تمرد "الاتحاد الديمقراطي" عليه.

كما كسرت سيطرة "الديمقراطي" على تل أبيض الوضع القائم للثنائيات التي كانت سائدة في الحرب السورية مدة أربع سنوات، بين موالٍ للنظام ومعارض، لتصبح المعادلة اليوم رباعية: النظام، والأكراد، والمعارضة السلفية الجهادية، ثم المعارضة المسماة "المعتدلة". وبعد فشل الخطاب الديني لقوى المعارضة السورية في جذب أي دعم دولي يقلب موازين القوى وينهي المعركة ضد النظام، جاء التحدي كبيراً من "الاتحاد الديمقراطي"، وبدا الخطاب الديني غير مجدٍ حتى لقتال الأخير.

اقرأ أيضاً: استنفار تركي للجم "الكردستاني" في الخاصرة الجنوبية

تم على المستوى الشعبي وبشكل تلقائي استعادة الخطاب القومي العربي القديم الذي كان يتبعه النظام، لتعود صفة الصهيونية كلازمة لـ"الحركة القومية" الكردية السورية، الصفة التي كان أول من أطلقها رئيس شعبة الأمن السياسي في القامشلي، المقدم محمد طلب هلال، عام 1961، خلال تقريره عن الأكراد وتوصياته التي تحوّلت إلى مرجع لجميع السياسات الإقصائية التي طبّقها نظام البعث، وذلك في الوقت الذي أجّج فيه أنصار "الاتحاد الديمقراطي" خطاباً شعبوياً قومياً أيضاً.

من جانب آخر، طالت قوات "الديمقراطي" الكثير من الاتهامات بالتهجير العرقي، سواء في حق العرب أو التركمان وبتصفية الخصوم منذ بداية الثورة السورية، بما أن الحزب بعيد عن احتكار تمثيل الساحة الكردية السورية. وفي سبيل تقييم الموقف، اجتمع ممثلون عن التركمان السوريين في مدينة غازي عنتاب، يوم الاثنين، ليؤكد رئيس المجلس الوطني التركماني السوري، عبدالرحمن مصطفى، الاتهامات: "نتعرض لموجة ترحيل ثالثة، بعد الهرب من براميل النظام وداعش. أصبحت قرانا تحت تهديد قوات الاتحاد الديمقراطي في تل أبيض وريف حلب، ولمواجهة ذلك، أصبح إعلان التعبئة العامة أمراً لا يمكن الفرار منه".

من جانبه، نفى زعيم "الاتحاد الديمقراطي"، صالح مسلم، الاتهمات جملة وتفصيلاً، في مقابلة تلفزيونية، داعياً المسؤولين الأتراك إلى التخلص من فوبيا الأكراد، بالقول: "ادعاءات التطهير العرقي غير صحيحة، نحن نحافظ على وحدة الأراضي السورية، لا يوجد ممر، نحن نقاتل داعش، والمجتمع الدولي يجدنا الأكثر فعالية في قتال داعش، وهذا يكفينا".

لا تبدو تصريحات مسلم مقنعة لتركيا، إذ أبدى وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، التزاماً واضحاً بأنّ بلاده لن تسمح لـ"الديمقراطي" بتجاوز "الخطوط الحمراء". وتخشى أنقرة أن يتم نقل مراكز "العمال الكردستاني" إلى الشريط الذي يسيطر عليه جناحه في سورية، وبالتالي، يتحوّل إلى ممر ومنصة للانطلاق ضدها.

وعلمت "العربي الجديد" أنّ وزارة الخارجية التركية أوصت خلال التقريرين اللذين رفعتهما للاجتماعين الأمنيين المتتاليين اللذين عُقدا برئاسة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الأسبوع الماضي، بوضع الجيش التركي خططاً للتدخل في حال حاول "الاتحاد الديمقراطي" التقدم نحو ريف حلب، خصوصاً وأن تقدم الأخير في تل أبيض قد أجهض جميع الخطط التركية بإنشاء منطقة عازلة ومنطقة حظر طيران في شمال سورية، لدعم المعارضة السورية ووقف تدفق اللاجئين السوريين.

الغضب التركي لن يمر بسهولة، بل سيجعل الأميركيين يعيدون حساباتهم على الرغم من تأكد كثيرين بأن مشروع إقامة منطقة كردية في سورية مشابهة لـ"محمية كردستان العراق" عام 1991، مصلحة أميركية أساسية. لكن ازدياد نفوذ "العمال الكردستاني" وجناحه لا يقلق حلفاء واشنطن، أي تركيا والسعودية فحسب، بل أيضاً إيران "العدو الحليف" في المعركة ضد "داعش". وعلى الرغم من كون "الكردستاني" حليفاً تاريخياً لطهران، إلّا أنّ هناك سقفاً لا يمكن تجاوزه. وفي هذا السياق، يعرب كثيرون عن ثقتهم بأن طهران لن تكون من يمهّد الطريق لمشروع دولة كردية أخرى، وهي التي تعمل على ضرب رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، في أربيل بشتى الطرق، سواء عبر حلفائها في بغداد أو من داخل الإقليم عبر السليمانية.

اقرأ أيضاً ما بعد تل أبيض: هاجس إقامة الدويلة الكردية