في عدن... الموت بالسلاح أو حمّى الضنك

في عدن... الموت بالسلاح أو حمّى الضنك

19 يونيو 2015
الموت بالمرض أشدّ فتكاً من السلاح (صالح العبيدي/فرانس برس)
+ الخط -
فارق بسام سالم الحياة في بداية عقده الرابع، تاركاً خلفه أحياء مدينة كريتر وأزقتها، بعد أن ظلّ ليلاً نهاراً يتجول فيها، قبل أن تغزو مليشيات الحوثيين والرئيس المخلوع علي عبدالله صالح مدينته. لم يجلب المسلّحون معهم الرصاص والمدافع فقط، بل استقدموا أيضاً آلة موت جديدة، أنهت حياة بسام: حمّى الضنك.

بدأت حمّى الضنك تغزو كريتر بشكل كبير، وأضحى المرض سكّيناً يحزّ رقاب المواطنين، ويفتك بالعشرات منهم يومياً. كان بسام يطرق جميع الأبواب، مشاركاً في كل النداءات والاستغاثات، التي كان يطلقها أهل المدينة لإنقاذهم، وفقاً لما أكده شقيقه، عبد الرحمن في حديثٍ لـ"العربي الجديد"

يشير عبد الرحمن إلى أن "شقيقه بسام وجارة لهم، لم يتمكنا من الحصول على الدواء، واستسلما للمرض ثم الموت". وبعد وفاتهما بدأت معاناة أخرى تشمل عملية الدفن والبحث عن مقابر، نتيجة أزمة المقابر التي تعاني منها عدن. ويلفت عبد الرحمن إلى أن "عائلتَي بسام والجارة حصلا على مكان لدفن الجثتين بعد عناءٍ طويل".

ويضيف أن "هناك صديق له مصاب بحمى الضنك، بات مقتنعاً بحتمية وقرب وفاته، عالماً بأنه لم يعد لديه أمل بالعلاج، حتى أنه بدأ يشعر بأن الوقت حان للبحث عن قبر لتجهيزه، حتى لا يتعذّب أهله بعد وفاته، كما حصل مع جيرانه".

اقرأ أيضاً: الكهرباء تشاطر اليمنيين "الصيام"

وعلى غرار عبد الرحمن تقول أماني، في منتصف العقد الثالث، إنها "باتت تخاف من حمّى الضنك، أكثر من خوفها من الرصاص والمدافع والقصف العشوائي، الذي يطال الحي الذي تسكنه في الشيخ عثمان". وتضيف أنه "على الرغم قوة الانفجارات في محيط الحيّ، إلا أنني لم أعد أهتم لأمر الانفجارات والقذائف، بقدر ما بت أخشى هذا الموت الصامت، الذي يقضي على كل ما من حولنا، في ظلّ عدم اكتراث أحد لمعاناة سكان عدن".

خوف أماني بالنسبة لسعيد أحمد من أبناء القلوعة، هو "خوف يصيب كل أبناء عدن، فحمّى الضنك تفتك بالجميع، في غياب أي دور للسلطات، وارتفاع عدد الوفيات، واستمرار مليشيات الحوثيين والمخلوع، في فرض حصار إنساني، واستهداف مولدات الكهرباء وأنابيب المياه، في ظل الحرارة المرتفعة، وانتشار مخلفات القمامة، وغياب أي مكافحة أو أدوية لمواجهة هذا المرض القاتل".

وتتعمّد مليشيات الحوثيين والمخلوع، بفرض حصار إنساني، ومنع دخول الأدوية والأطباء، كما تفرض قيوداً على المناطق التي ينتشر فيها المرض، والتي تقع أجزاء منها تحت سيطرتها، لا سيما مداخلها ومخارجها كحال مدينة كريتر. كما أغلقت المليشيات عدداً من المستشفيات، والمرافق الصحية، ونهبت محتويات الكثير منها، حسب مصادر طبية وحقوقية. ولا تجد ما تبقى من سلطات أي قدرة على إنقاذ حياة الناس، أو مساعدتهم، وتكتفي بالاختباء في انتظار مصيرها هي الأخرى.

وعلى الرغم من استسلام الكثير من الناس للمرض، إلا أنهم يفضلون الموت في صفوف "المقاومة الشعبية"، هرباً من موت صامت يغتالهم في منازلهم. وذكر في هذا الصدد، المواطن العدناني هاني محمد، أنه "يعرف ناساً أصابها الضنك، فانضمت إلى صفوف المقاومة، لأن الواقع فرض خيارين للموت، إما بالسلاح أو حمّى الضنك".

ويعتبر الناشطون ومنظمات حقوقية، أن "المرض أصبح يمثل كارثة إنسانية بكل المقاييس، ويمثل مع مجموعة من العوامل المساعدة، نهاية مؤلمة بات السكان ينتظرونها، حتى أن كلاً منهم يسأل عن دوره، إذ أن هناك آلاف المصاببن ينتظرون المصير المحتم بعد استسلامهم لحمّى الضنك".

وذكر مسؤول في مكتب الصحة، رفض الكشف عن اسمه لـ"العربي الجديد"، أنه "لم يعد باليد حيلة في ظلّ ما تقوم به مليشيا الحوثي وصالح، من استهداف لكل ما من شأنه، أن يساعد في مواجهة حمّى الضنك، المنتشرة بكثرة، في مناطق سيطرة الحوثيين، لا سيما كريتر، التي يفتك المرض فيها بما تبقى فيها من سكان، ويموت يومياً بين 10 أشخاص و20 شخصاً".

وأكد المسؤول أن "المنظمات الدولية لم تُقدّم أي مساعدة، على الرغم معرفة العديد منها بالوباء، لكنها تتجاهل ذلك، رغم أن عدن تتعرض لإبادة، بفعل إصرار القوات الحوثية استمرار هذا الحال، ومنع أي مساعدة أو مكافحة له، لإنقاذ الناس، وباتت تستخدمه كسلاح ضد المدنيين". لكن المسؤول جزم ألا "احصائية دقيقة لهذا الوباء، لكن مؤشراته مقلقة للغاية، وعدن باتت منكوبة به". وكشفت مصادر عن أن "منظمة دولية زارت مدينتي كريتر والمعلا، ورفضت التدخل للمساعدة، لا سيما في كريتر، معللة ذلك بأن المدينة باتت موبوءة، ولا يُمكن العمل فيها".

وفي ظلّ تردّي الأوضاع وغياب الخدمات، واستمرار الحوثيين وقوات صالح، في وقف معاشات الموظفين في عدن منذ ثلاثة أشهر، تزداد المعاناة وتتعقد أكثر، فقد عجزت المنظمات عن المواجهة، بل عجز بعض الأطباء عن إنقاذ أنفسهم. كما باتت المستشفيات عاجزة إلى حدّ كبير، في إنقاذ الناس.

ويُعدّد أطباء عدن أسباب العجز "قلّة الإمكانيات المتاحة، وعدم وجود دعم، وقلة المستشفيات بعد إغلاق العديد منها، وغياب المعدات الطبية والأدوية، حتى وإن وُجد بعضها إلا أن عملية إدخالها إلى كريتر والمعلا تتمّ بصعوبة، بسبب حصار الحوثيين وقوات صالح". ويضيفون "يلجأ الكثير من الناشطين إلى تهريب بعض الأدوية، لكن ذلك لا يكفي مقارنة بحجم انتشار الحمّى، كما أن الطبيب الأخير في المجمع الصحي الوحيد في كريتر، توفي متأثراً بحمى الضنك".

واذا كان انتشار حمّى الضنك يخيّم بشبحه فوق سماء عدن، فإن معاناة تظهر بعد الوفاة وتتمثل في غياب المقابر، التي تُشكّل كابوساً يُتعب السكان كثيراً للبحث عن مكان لدفن موتاهم، بل أن بعضهم بات يبحث لنفسه عن قبر قبل موته. ويقول الناشط الحقوقي أسامة الشرمي لـ"العربي الجديد"، إن "المدنيين في عدن باتوا على يقين بأنهم مشاريع جثامين، سيتمّ رميها على قارعة الطريق، أو في إحدى المباني، التي لا زالت طور الإنشاء. المقابر امتلأت، ولم يعد القائمون عليها يسمحون باستحداث قبور جديدة لعشرات الضحايا، الذين يسقطون جرّاء قصف مليشيا الحوثي وقوات صالح على منازلهم من دون تمييز".

ويضيف الشرمي أنه "ليست الحرب وحدها من تُملئ المقابر، بل الحصار المطبق والشديد على المدينة، من قبل المليشيات، يُملئها أيضاً". ويتابع "تمنع المليشيات دخول المواد الغذائية، وما تبقّى في مخازن التجار داخل المدينة، بات باهظاً جداً، لا يقدر لا الفقراء ولا الأغنياء على شرائها".

ويلفت إلى أن "ممارسات المليشيات في عدن، تُساهم في انتشار الأوبئة القاتلة، مثل الملاريا، وحمى الضنك، وداء الكلب، وأمراض أخرى غير معروفة، يُرجح انتشارها بسبب الجثث المنتشرة في كثير من المناطق. ويمنع قنّاصة الحوثيين كل مساعي انتشالها ودفنها. كما يمنع الحصار المضروب دخول الأدوية، بكل أنواعها للمدينة، حتى أن هذه المليشيات تعتقل كل من يتطوّع لكسر الحصار، ويتم استخدام المتطوعين كدروع بشرية في ثكناتهم العسكرية، المحتمل استهدافها من قبل طيران التحالف".

في المجمل يقول الشرمي "بالتأكيد أن مليشيا الحوثي والمخلوع لم يأتوا لعدن إلا بالموت فقط كما في شعاراتهم، التي تنادي بالموت لأميركا وإسرائيل، ولا يمارسونه إلا على اليمنيين، في عدن والضالع وغيرها من المناطق".

اقرأ أيضاً تعثر جنيف اليمني: 48 ساعة مصيرية للهدنة وللحل السياسي