فصول من استيعاب و"سَورَنَة النصرة" في سورية

فصول من استيعاب و"سَورَنَة النصرة" في سورية

28 مايو 2015
الجولاني أسير طرحين تجاه "القاعدة" (فرانس برس)
+ الخط -

في صميم كل نقاش أميركي ــ سوري ــ أوروبي ــ خليجي ــ تركي حول أفضل السبل وأقلها خطراً لإسقاط نظام بشار الأسد من دون أن يكون البديل كارثياً على شاكلة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) مثلاً، يُطرَح الجهد الذي يُبذَل منذ فترة على وضع آليات لتكوين كتلة بشرية عسكرية "مُطمئِنة" للخارج، أي لا تكون على صورة "داعش" و"القاعدة". كتلة يمكن دعمها فعلاً وتسليحها وتمويلها وتدريبها "مثلما يجب ومن دون تردُّد"، بما أنّ المئات المعدودين الذين يفترض تدريبهم أميركياً في تركيا، لن يكونوا سوى مجموعات خاصة ليس بإمكانها بأي حال إسقاط النظام ولا هزيمة "داعش"، هذا إن فرضنا أن الخلاف الأميركي ــ التركي قد يتم حله يوماً حول هوية العدوّ المفترض لهذه المجموعات، أكان "داعش" حصراً أو "داعش" والنظام معاً، مثلما تريد أنقرة بعكس واشنطن. كذلك، فإنّ تعميم تجربة عين العرب لناحية اعتبار أن المقاتلين الأكراد يصلحون ليُعتبروا "شريكاً على الأرض"، مستحيل لأسباب تعود لقلة عدد أكراد سورية وضيق المناطق التي يشكلون الغالبية فيها، إلا أن كان الكلام يدور حول إعطاء دويلة خاصة بأكراد سورية، وهو ما لا يزال يبدو أقرب إلى الثرثرة غير الجدية.

ونظراً إلى الفشل الذريع لتجارب من نوع "حزم"، والانهيار المنطقي لصفوف "الجيش الحر" ما خلا في بعض مناطق الجبهة الجنوبية، تصبح الخلاصة بالنسبة للعقل الأجنبي في إطار البحث عن الحلّ السحري للمعضلة السورية، قائمة على عنوان عريض يبدو شبه وحيد: يجب تكييف وتعديل ما هو موجود على الأرض بالفعل من فصائل عسكرية وازنة، يدرك الأميركي والأوروبي والخليجي والتركي أنها إسلامية جهادية سلفية عموماً بغالبيتها الساحقة. لكن هذا العقل الأجنبي نفسه يدرك أن طريقة إعلام النظامين الإيراني والسوري في تصوير كافة الفصائل الإسلامية في لفّة واحدة اسمها القاعدة أو داعش، ليس صحيحاً، فهناك الفصائل الإسلامية "سورية الهوية" التي "يمكن الكلام معها"، من جهة، وهناك الفصائل التي يشكل فيها المهاجرون الأجانب العصب الأساسي والقيادة، والتي لا يمكن التفاوض على جدول أعمالها وأجندتها نظراً إلى "أمميتها القاعدية" التي لا تقيم وزناً، لا لمناقشة مصير "سورية الجديدة" ولا للمكونات العرقية والمذهبية لهذه "السورية الجديدة" ولا للعشائر وضرورة إيجاد صيغة تعايش في ما بينها تؤمن الحد الأدنى من شروط الحريات والحقوق.

من هنا، كادت جميع النقاشات الأميركية ــ الخليجية ــ التركية تعود إلى نقطة مركزية في النقاش السوري: مَن من الفصائل الموجودة يمكن ضبط خطابها وسلوكها لإبعادها عن صورة "داعش" و"القاعدة"؟ ومَن منها لا يجدي الكلام معها؟ وبالتالي أفضل أن تُشمل في لائحة أهداف التحالف الجوي الدولي ــ فرع سورية، إلى جانب "داعش"، مثلما حصل مع ما يُسمى أميركياً "مجموعة خراسان" التي يصرّ الإعلام الأميركي على اعتبارها الجناح الأكثر تشدداً في صفوف "جبهة النصرة" رغم نفي "النصرة" وجود شيئ اسمه مجموعة خراسان أصلاً. وهنا بيت القصيد، "جبهة النصرة".

منذ اليوم الأول لظهور فرع القاعدة في سورية في 2012، أي "النصرة"، كان العقل الأميركي محرجاً بين فرضيتين: عدم تكرار تجربة المجاهدين في أفغانستان الذين خرج من رحمهم أسامة بن لادن وطالبان والقاعدة بعدما نالوا التدريب والتسليح والتمويل الأميركي ضد الغول الشيوعي، ومن ناحية ثانية واقع أن "الجبهة" هي أقوى فصيل عسكري معارض في سورية عدةً وعديداً. من هنا، بدأت رحلة البحث في خبايا فروع جبهة النصرة، انطلاقاً من أن التنظيم ليس كتلة واحدة فولاذية، ففيه تيارات و"حرس قديم" وآخر "جديد"، والأهم أن فيه سوريين ومهاجرين وآراء متضاربة حول الأولويات وطريقة التعاطي مع باقي الفصائل الاسلامية ومع إرث آل الأسد انتقاماً أو مصالحةً وإزاء "سورية الجديدة" وماذا يعني شعار "الدولة الاسلامية" الذي يكاد يكون مشتركاً بين معظم الفصائل الإسلامية السورية المسلحة. وفي السياق، تعهدت دول عربية راعية لفصائل عسكرية أن تستخدم نفوذها لتشكيل جبهة موحدة تضم جميع المعارضين المسلحين (باستثناء داعش طبعاً)، في إطار واحد يتمّ نقله من منطقة إلى أخرى، تستوعب فيه "النصرة" إلى جانب آخرين ربما يطغى عددهم على عدد مقاتلي "النصرة". اصطُلح على تسمية المولود الجديد "جيش الفتح"، بدأ في إدلب وانتقل إلى القلمون ويستعد ليحطّ رحاله في حلب المحافظة. وظهر التغير في الخطاب واللهجة في المواقف الأخيرة لقائد جيش الإسلام، أكبر الفصائل في غوطة دمشق، زهران علوش في مقابلات مع وسائل إعلام أميركية، انتقلت فيها تصريحات شهيرة للرجل عن أن "الديمقراطية تحت حذائنا"، إلى أن "سورية ستكون تعددية ديمقراطية" و"لا نريد قتل الأقليات"، وهو ما لا يمكن فصله عن الإطار العام للبحث الأجنبي عن حلول يمكنها أن توفّر قوةً سقف خطابها مقبول يمكن "الاستثمار" فيها لإسقاط نظام الأسد من دون تركه فريسة بيد "داعش" و"القاعدة".

اقرأ أيضاً: سيناريوهات شقّ "النصرة": تعزيز "الخيار الوطني" بشعار "المحور السنّي"

ولدى العقل الأميركي في هذا السياق، مثال حي لا يزال يتراوح بين الفشل والنجاح، اسمه تجربة حركة "طالبان". فبعدما كانت نسخة عما هو اليوم تنظيم "داعش"، باتت حالياً، أو جزء منها على الأقل، منخرطة في مفاوضات مع الحكومة الأفغانية ومباحثات غير مباشرة مع الإدارة الأميركية، وصار لها مكتب تمثيلي في قطر "يعمل في السياسة". درس أفغاني يعتقد كثيرون أنه بالإمكان ان يكون أكثر نجاحاً حتى بالنسبة لـ"النصرة" نظراً إلى وجود مصلحة مشتركة بين الرعاة الخارجيين المفترضين من جهة، والتنظيم نفسه، في وجه العدوين المشتركين: النظام السوري وتنظيم "داعش".

بموازاة هذا البحث الخارجي في صفوف "النصرة"، كان هناك حراك من شخصيات أساسية وقيادية في الجبهة، بات أشهرها أبو ماريا القحطاني. أساساً، منذ ولادة النصرة، بدا الانقسام واضحاً حول الارتباط بـ"القاعدة" وموجباته، وهو ما ظهر في تسمية "جبهة النصرة"، وليس مثلاً "قاعدة الجهاد في الشام". كذلك ظهر كأن "النصرة" كانت تتوقع أن تكون مرشحة لتلقي الدعم شرط أن تكون "لا قاعدة ولا داعش"، وهو ما ظهر في سلوكياتها في مناطق عديدة خاضعة لسيطرتها، تحاشت فيها الإعدامات والذبح على الطريقة الداعشية، وذلك على الرغم مما قيل إنه "غيرة" دبّت لفترة عند زعيمها أبو محمد الجولاني حيال إقامة "إمارة" شبيهة بـ "دولة داعش". هنا بالتحديد انفجر الوضع في صفوف النصرة التي يصرّ رموزها على اعتبار أن الكلام عن انقساماتها حيال فك الارتباط بـ "القاعدة" وبأيمن الظواهري "يشوبه تضخيم إعلامي كبير". ومن الأحداث المركزية التي تؤكد برأي بعضهم انفتاح "النصرة" على الحديث مع أطراف داخلية وخارجية على صيغة تعاون أو تنسيق، هو عندما احتجزت الجنود الفيجيين في قوات سلام الأمم المتحدة في الجولان المحتل العام الماضي، فعرضت، علناً، الإفراج عنهم مقابل أن تتم إزالة اسمها من لائحة المنظمات الإرهابية، وفي هذه الحادثة ما يكفي من دلالات على موافقة ضمنية من "النصرة" على التعريف المتداول لـ "الارهاب".

اقرأ أيضاً: تياران لجبهة النصرة: حرس قديم وجديد ومهاجرون وأنصار

وتفيد تسريبات من مصادر مطلعة جداً على أجواء "النصرة"، بأن الجولاني لا يزال أسير طرحين يختصران جناحي فك الارتباط بالقاعدة، أو "سورنة" النصرة وأجندتها، بقيادة القيادي البارز المفصول رسمياً أبو ماريا القحطاني (عراقي الجنسية)، في مقابل "قاعدية" و"أممية" القيادي القوي الآخر أبو قتادة الفلسطيني المصرّ على أن "النصرة" ليست ولا يجب أن تكون إلا عبارة عن فرع سوري لـ"القاعدة" لا أجندة وطنية له تتيح التكتيك والتفاوض والمساومة والتنازل. ولم تبقَ آراء القحطاني سرية إذ ترجمها بمواقف هي أشبه بـ"الفتاوي الشرعية" قال في أشهرها ما حرفيته: "إذا تعارضت مصلحة أهل الشام مع مصلحة بقائنا بالتنظيمات اخترت الأولى، والشرع لا يحرم أن يأخذ المجاهدون الدعم من حكومة ما إذا توافقت المصالح وليس فيه إملاءات من قبل تلك الحكومات على المجاهدين، كما أننا لا ننكر على من يصله الدعم والمساعدة دون أن تفرض عليه الجهة الداعمة أمورا مخالفة للشرع الحنيف، بل إن هناك بعض الفصائل تتلقى دعما خارجيا، ولكن لن نتكلم ما دام ذلك الدعم لا يؤثر على دينهم وجهادهم؛ فهي أمور شرعا تعتبر من باب المعاملات".

وبدا أن النصرة استشعرت حجم المشروع الخارجي الساعي إلى استيعابها شرط تكييفها وتعديلها تحت شعار "القاعدة الجديدة" ذات البرنامج الوطني والقائم على إسلام سياسي متشدد، لكن لا بدّ أن تزول أسباب كثيرة من تشدده فور سقوط النظام السوري والحجة التي لا يزال هذا النظام يؤمنها لتنظيمات تكفيرية ستظلّ تنمو طالما بقي نظام الأسد ومليشيات إيران وحلفائها هي المتحكمة بمصائر أهل الشام. في هذا الاستشعار بالخطر، يضع كثيرون موافقة النصرة على الاندماج في "جيش الفتح" وشنّ معارك كبيرة مع "داعش" في عدد من المناطق. وكان المشروع الغربي ــ العربي ــ التركي الساعي إلى "سورنة النصرة" وفك ارتباطها بـ"القاعدة"، قد استجدّت عليه فكرة تركية المصدر تقوم على السماح ربما لمجموعة من "القاعدة" بالدخول إلى سورية وطلب البيعة من "جبهة النصرة"، ليكون بالتالي ممثلاً لـ"قاعدة الجهاد في سورية". ومن المتوقع أن يلقى الأمر رفضاً من "النصرة"، ويدفعها باتجاه رفض البيعة وفك الارتباط بـ"القاعدة"، أو على الأقلّ يؤدي إلى شقّ صفوفها، ويدفع مكوّناً كبيراً من التنظيم، خصوصاً العناصر السورية، إلى فك الارتباط، فيما يبايع العناصر التي جاءت أصلاً من التنظيم، الفصيل الجديد.

لكن على ذمة الاسم السوري الجهادي الأبرز على مواقع التواصل الاجتماعي، "مزمجر الشام" (نسخة سورية من المغرد السعودي الافتراضي، مجتهد)، فإنّ الجولاني حسم خياراته لمصلحة تيار القحطاني وقرر فعلاً الانفصال عن "القاعدة" والتقرب من التيارات الإسلامية السورية والجماعات المسلحة الأخرى ضمن المعارضة السورية، بعدما تخلّص من تأثير أبو قتادة الفلسطيني عليه، وهو الذي له "تأثير سلبي على النصرة" على حد تعبير "مزمجر الشام"، خصوصاً لناحية "إبعادها عن محيطها الثوري وعزلها في شرنقة القاعدة وإعادتها لسكة المنهج الذي أثبت فشله". لكن هذا الكلام لم يظهر له أي ترجمة فعلية بعد بدليل المقابلة التلفزيونية الأخيرة للجولاني مع فضائية الجزيرة، حيث بدا الولاء واضحاً لأيمن الظواهري.

اقرأ أيضاً: ما بعد إدلب: المنطقة العازلة واحتواء "النصرة" أو شقّها