طرابلس اللبنانية بوابة للمهاجرين... ومكافحة "التطرف" ذروة فشل الدولة

طرابلس اللبنانية بوابة للمهاجرين... ومكافحة "التطرف" ذروة فشل الدولة

19 أكتوبر 2015
مهاجرون سوريون ولبنانيون وفلسطينيون إلى تركيا فأوروبا(أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -
لا تكاد مدينة طرابلس (شمال لبنان) تنهي ملفاً حتى يُفتتح آخر. قبل نحو سنة وخمس أشهر، قررت السلطة اللبنانية أن الاشتباك العسكري في طرابلس (شمال لبنان) لم يعد ضرورة. بسحر ساحرٍ، انتشر الجيش اللبناني، وتوقفت شحنات الذخيرة للمتقاتلين في جبل محسن (ذي الغالبية العلوية) وباب التبانة. ضبط كل زعيم سياسي "بلطجيته" في الشارع، ودخل إلى السجن بعض حملة السلاح ومن اصطلح على تسميتهم قادة المحاور، وبقي آخرون خارجه.

سمّى بعض الموقوفين، خلال التحقيقات، أسماء مموليهم بالمال والسلاح، لكن الضغوط السياسيّة أنقذت هؤلاء، ومنهم رجال دين سلفيون ومسؤولون في "تيار المستقبل"، وفي فريق رئيس الحكومة السابق، نجيب ميقاتي. اليوم تفتتح المدينة ملف الهجرة إلى أوروبا عبر تركيا.
مع إغلاق ملف الاشتباكات، ربط جميع المعنيين في طرابلس بين التدهور الأمني والواقع الاقتصادي. قيل الكثير عن ارتباط "الإرهاب والتطرف بالفقر والعوز"، وخصوصاً أن هناك عشرات الشبان من الشمال التحقوا بصفوف تنظيم "الدولة الإسلاميّة" (داعش) و"جبهة النصرة" ومنهم من نفّذ عمليات انتحاريّة. وتحدث المعنيون بملف "مكافحة الإرهاب" في الحكومة اللبنانية، عن وضع خطط يُشرك فيها رجال الدين عبر دار الفتوى والمجتمع المحلي والدولي، لا سيما أن "مكافحة الإرهاب" أو "تفكيك الإرهاب" بات مشروعاً دولياً تُصرف عليه مئات ملايين من الدولارات.

في ذروة ضجيج الخطّة الأمنيّة، كرّر السياسيّون والمسؤولون كلاماً عن خطة اقتصاديّة تنتشل طرابلس ومناطق الشمال من حالة الفقر التي تعيشها. في تلك المرحلة، صدرت دراسة تحت عنوان "الفقر في مدينة طرابلس" صادرة عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا في الأمم المتحدة "الإسكوا"، تُشير إلى أن "ظاهرة الفقر والحرمان في طرابلس واسعة الانتشار، ومعقدة، ومتعددة الأبعاد والتجليات، بحيث لا يصح وصف الوضع، أن هناك جيوباً للفقر والحرمان يمكن عزلها عن بقية المدينة". وأضافت الدراسة أن "ما يمكن اعتباره طبقة وسطى وما فوق، لا تزيد عن 20 في المائة من إجمالي السكان"، وأن 57 في المائة من الأسر المقيمة في طرابلس، هي أسر محرومة، وأعلى هذه النسب في باب التبانة، حيث تصل إلى 87 في المائة.

بعد أكثر من سنة وخمسة أشهر لم يحصل أي جديد. لا خُطط اقتصاديّة طُبقت، ولا وضعت قيد التنفيذ، وهو أمر أبلغته مصادر عدّة لـ"العربي الجديد"، من أبرزها النائب معين المرعبي، والمستشار الإقليمي لـ"الإسكوا" أديب نعمة، إضافةً إلى عدد من فعاليات طرابلس الاقتصاديّة. أخيراً، جاء ملف الهجرة ليُضاف إلى ملف التطرف.

لم يكن أكثر الناس تشاؤماً في طرابلس، يعتقد أن المشروع الاقتصادي الوحيد الذي يعمل بقوة الدفع الذاتي، سيكون محطّ أنظار، كأبرز وسيلة للهجرة من البلاد. فمرفأ طرابلس، يُعدّ الأمل الوحيد في المدينة حالياً. إذ جرى افتتاح خط نقل الحاويات منذ نحو شهرين، وهو ما يسمح بالتصدير البحري، ويأمل المعنيون بالمرفأ تحوّله إلى بديل عن الحدود البرية، والتي أغلقت، خصوصاً في وجه الصادرات الزراعية. وقد وظفت الشركة المشغلة لخط الحاويات مائة موظف، وستُشغل 150 عاملاً إضافياً العام المقبل، كما أن خط نقل الركاب الذي افتتح منذ ثلاث سنوات، بات ينقل 30 ألف راكب شهرياً في الأشهر الأخيرة.

لكن خط نقل الركاب تحوّل إلى خط هجرة. يقول مصدر مسؤول في المرفأ، فضل عدم ذكر اسمه، إن عدد المسافرين عبر هذا الخط يتجاوز 90 ألفاً خلال هذا العام. ويُشير إلى أن أكثر من 90 في المائة منهم سوريون، ويلفت إلى أن نسبة العودة تبلغ خمسة في المائة من نسبة المغادرين. هذا يعني أن نحو 90 ألف شخص هاجروا عبر مرفأ طرابلس إلى تركيا أولاً، خلال العام الحالي. لكن المفارقات البارزة التي يتحدث عنها المصدر، هي التحوّل الذي يشهده نوع اللبنانيين المسافرين. ففي شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب الماضي، كان أغلب اللبنانيين المسافرين من الشبان، "أما في الشهرين الأخيرين، فمعظم اللبنانيين المسافرين كانوا من العائلات".

تقول مصادر طرابلسية إن عدد المهاجرين من أبناء طرابلس تقدَّر بمئات الأشخاص (بعض الأرقام تتحدث عن 1700 شخص). لكن المصدر المسؤول في المرفأ، يُشير إلى أن هناك عائلات من خارج طرابلس باتت تغادر عبر المرفأ، ويلفت إلى أن مطار بيروت يُعد الطريق الأبرز للهجرة، "إذ تطير يومياً نحو عشر طائرات إلى المدن التركية، وكلفة الرحلة الجوية يُمكن أن تصل إلى 300 دولار للشخص الواحد، والرحلة البحرية نحو 150 دولاراً".

هذا ما يُفسّر الكلام الذي ينتشر في طرابلس عن مغادرة المئات من أبناء المدينة. اللافت في هذا السياق أن بعض المهاجرين ليسوا معدومي الحال. فمنهم من لا يزال يُتابع دراسته، ولم يدخل سوق العمل بعد ليواجه البطالة، "لكنه يرى ألا أفق للمستقبل هنا". أحد الشبان ممن وصلوا إلى أوروبا كان يتقاضى راتباً شهرياً قيمته 800 دولار أميركي (الحد الأدنى للأجور في لبنان يبلغ 450 دولاراً). يقول أحد أصدقاء الشاب، إن قرار الهجرة لم يرتبط فقط بالوضع الاقتصادي بل باليأس من الحالة السياسيّة في البلد. والهجرة هي النتيجة الفعلية لسطوة الأمن على الحياة العامة، وانتشار التعذيب في السجون وتعطيل الحياة السياسيّة والاجتماعية وتدهور الحالة الاقتصادية. أما هجرة السوريين والفلسطينيين من لبنان، فتلك قصة قديمة ولم تتوقف يوماً. لا يوجد لاجئ في لبنان، يرغب في البقاء في هذا البلد، ومنهم من يستعد لخوض غمار البحر، هرباً من ضيق الأفق في لبنان.

اقرأ أيضاً: لبنان: 3 موقوفين كل ساعة

هناك عنصر إضافي للهجرة الطرابلسيّة، وهو أبناء المدينة الذين ذهبوا للقتال في سورية إلى جانب الجهاديين، وعددهم بالمئات. ينقل أحد الإسلاميين عن أن بعض هؤلاء غادروا سورية إلى تركيا "لأن قناعتهم بجدوى القتال هناك تزعزعت". ويُضيف أنهم غير قادرين على العودة إلى لبنان لأن مصيرهم سيكون السجن، وبالتالي يتجه هؤلاء للهجرة إلى أوروبا ضمن صفوف المهاجرين.

ملف الهجرة جديد في الشكل، لكنه نتيجة طبيعية لحال المدينة المتدهور اقتصادياً وسياسياً. وتكاد تكون أسباب الهجرة متطابقة مع أسباب حمل السلاح في صفوف الجهاديين. يُلخّص أحد الموظفين رفيعي المستوى في أحد مرافق المدينة الاقتصاديّة، غير المخوّل التحدث باسمه لأنه لم يحصل على إذن رسمي بالتصريح للإعلام، التمييز الحاصل بحق طرابلس، من خلال المقارنة بين عدد الكشافين الجمركيين في مرفأي بيروت وطرابلس. يقول إنه "في بيروت، يبلغ العدد 24 كشافاً جمركياً وفي طرابلس كشاف واحد". فيما يُقدّم النائب معين المرعبي مثلاً آخر وهو الخطة الإنمائية التي رُصدت للمناطق اللبنانيّة. ويشير المرعبي في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن حصة طرابلس كان يُفترض أن تكون 100 مليون دولار، لكنها قُلّصت إلى 63 مليون.


إضافة إلى ذلك، فإنّ الخطط والمشاريع التي وُضعت للمنطقة، إما مؤجلة مثل مرآب طرابلس أو لا تزال في مراحلها الأولى مثل المنطقة الاقتصادية الحرة التي عُيّن مجلس إدارتها. غير أنّها لا تزال بحاجة لكثيرٍ من العمل إن لجهة وضع استراتيجيتها وأهدافها أو لجهة التنفيذ على الأرض. لكن كلّ هذه المشاريع لا تؤمّن فرص عملٍ سريعة، أو تُشكّل "صدمة إيجابية" في المدينة عبر خلق نحو ألفي فرصة بشكلٍ فوري بحسب ما سعت "الإسكوا" في خطتها التي تأخرت، أيضاً، بعض الوقت لأسباب إدارية كما يقول نعمة. ويبدو أن نعمة يملك رؤيةَ كيفيةِ تأمين هذه الفرص بكلفة مالية متواضعة عبر استغلال المشاريع المقترحة، فيما لو وُضعت خطة استراتيجيّة لتطوير المدينة.
وتنطلق هذه الخطة من ضرورة تفكيك منظومة التطرف، عبر تحليل أسبابها وهي على مستويات عدة: السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي والبيئي والعمراني.


تمييز سياسي

وبالنسبة لأبناء طرابلس والشمال عموماً، هناك شعور عام بأن القوانين في البلد تُطبق عليهم، فيما يُعفى حزب الله ومناصروه من هذا الأمر. لا يقف الأمر عند حدود مشاركة حزب الله العلنية في القتال في سورية من دون محاسبة عناصره العائدين، بينما يجري اعتقال كل شاب "سني" يُشارك في القتال في سورية. وبالتالي، فإن شعور القهر والتمييز السياسي أمرٌ أساسي في بناء منظومة التطرف هذه، وهو لا يُمكن حلّه بشكلٍ سريع، لأنه جزء من أزمة البلد، "لكن يُمكن تخفيف حدة الخطاب السياسي وتداعياته في طرابلس إذا ما التزم سياسيو المدينة والأحزاب الفاعلة فيها بذلك"، بحسب ما يقول نعمة.


وفي الوقت نفسه، يجب القيام بسلسلة خطوات قضائية لتسريع المحاكمات وتأمين محامي دفاع محايدين وفرز الملفات بين تلك البسيطة والأخرى المتعلقة بمجموعات متطرفة، واحتضان الخارجين من السجون وتأمين فرص عمل لهم، لأن بقاءهم بلا عمل، يُعيدهم إلى النقطة عينها، لا بل أسوأ، كما يقول نعمة. ويضيف أنه في حال حصلت هذه الخطوات، فهذا يعني نقل ملف الموقوفين من الشارع إلى المحاكم، وبالتالي إلغاء فرص استغلاله لتحريضه وتوتيره.

ويؤكد أنه على هذه الأمور أن تكون مترافقة مع دور للمؤسسة الدينيّة ورجال الدين لمواجهة الخطاب الديني المتطرف، وعمل جدي لتحسين أداء بلدية طرابلس والجمعيات المدنية والدوليّة العاملة فيها، لتكون جميعها جزءاً من الخطة الاستراتيجيّة. هذه الخطة الطموحة، كانت تهدف إلى تحويل طرابلس إلى "مدينة ــ نموذج"، لكن يبدو أن الأفق بهذا الاتجاه غير متوافر.

ووضعت هذه الخطة، والتي اطلع عليها الوزراء المعنيون، قبل فضيحة التعذيب في سجن رومية، أي قبل التدهور الكبير بين الموقوفين والحكومة اللبنانيّة. أما اليوم، فقد تركت هذه القضية أثراً يصعب تجاوزه في علاقة أبناء المدينة والشمال مع الدولة، بحيث بات أمر استعادة الثقة المفقودة أصعب. ويترافق هذا الأمر مع تدهور الخدمات العامّة من كهرباء ومياه إلى جانب ارتفاع نسب البطالة. كما أن الواقعيين من أبناء المدينة يُدركون أن عمليّة التنمية لا يُمكن أن تُحصر بها فقط، بل يجب أن تشمل عكّار والمنية والضنية، لأن ارتدادات الفقر في هذه المناطق على طرابلس أخطر مما هو في داخلها.

والعامل الأكثر غرابة في هذا السياق، هو أن الاشتباكات كانت تؤمن مداخيل إضافية لسكان المدينة، عبر المال السياسي الذي يُوزّع، والذي تراجع بشكلٍ كبير مع توقف مساعدات "تيار المستقبل"، واعتماد رئيس الوزراء الأسبق، نجيب ميقاتي، والنائب، محمد الصفدي، على الحدّ الأدنى.

وصل الأمر بالسلطة السياسيّة إلى أن دفعت أحد المسؤولين الرسميين في المدينة إلى القول لـ"العربي الجديد" إن "أكبر خطأ اقترف بحق طرابلس والشمال هو الانضمام إلى دولة لبنان الكبير عام 1920، إذ إن العمق الاقتصادي لهذه المنطقة كان سورية والعراق وقد خدم مرفأها ومؤسساتها الاقتصادية هذا العمق، وبعد الضمّ تعاطت بيروت وتجارها بخوف تجاه طرابلس فتم ضربها ومنعها من التطور الاقتصادي خوفاً من منافسة بيروت". تحوّل انعدام الثقة في الدولة المركزيّة إلى شعور انفصالي عند جمهور لطالما رفض فكرة الفيدرالية، وخصوصاً أن طرابلس سُميت العاصمة الثانية للبنان.

وهكذا، توقفت معركة "محاربة التطرف" عند خطة أمنيّة لا أكثر، على الرغم من إدراك الجميع أن الأمن ليس الوسيلة، بل قد يكون أثره عكسياً، إذ يُضاعف الشعور بالظلم إذا لم يترافق مع خطط اقتصادية. وقبل حلّ مشكلة التطرف، دخلت أزمة اللجوء على الخط. وفي الحالتين، توضع الأجهزة الأمنية في صدارة المشهد للمواجهة، وتُركن الخطط الاقتصادية والاجتماعية جانباً.

اقرأ أيضاً: إفقار ممنهج لمناطق لبنانية وتأهيلها للعسكرة

المساهمون