14 آذار في لبنان: لا تموت ولا تحكم

14 آذار في لبنان: لا تموت ولا تحكم

14 مارس 2014
تظاهرة 14 آذار 2005 (مروان نعماني/ أ ف ب)
+ الخط -
فقدت قوى 14 آذار في لبنان، الكثير من مبررات الوجود، سياسياً وشعبياً وحتى تنظيمياً، وذلك بعد تسع سنوات على انطلاقتها. ترفض كل أطراف هذا الفريق الاعتراف بهذا الواقع، فتؤكد على استمرار النقاش فيما بينها لإعادة شد العصب على أبواب مهرجان الذكرى التاسعة لانطلاق هذا التحالف اليوم الجمعة. زعيم تيار المستقبل، رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، لن يلقي كلمة في هذه المناسبة. سيغيب ليمثله رئيس كتلة المستقبل النائب فؤاد السنيورة. رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، سيخاطب الناس عبر شاشة كبيرة. أما رئيس حزب الكتائب، رئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميل، فهو خارج لبنان ولم تؤكد مشاركته الشخصيّة بعد. هذه الغيابات بحدّ ذاتها كفيلة بإعطاء انطباع أولّي عن حالة التشرذم الحاصلة في صفوف 14 آذار. وفي البحث عن إعادة التماسك، تضع قيادات هذا الفريق تأجيل بتّ صياغة البيان الوزاري (العالق على مفردات عبارة "المقاومة" وسلاح حزب الله) في إطار شدّ العصب. لكن في مهرجان الذكرى التاسعة، ستصدر الكثير من الملاحظات الداخليّة على علاقة هذه القوى ببعضها وبجمهورها. ليحلّ هذا النقد الذاتي مكان الخطابات الوردية التي اعتاد عليها الجمهور في المناسبات المماثلة. تحلّ هذه الذكرى هذا العام، وقد غرق الملف اللبناني في أدراج الغرب والعرب وسقطت عنه صفة الأولوية. فأتى "زمن اللاحرب واللاسلم". هي مرحلة "حكومة الوحدة الوطنيّة"، التي شتّتت وحدتها وشرذمت مواقفها. قوى 14 آذار اليوم، أشبه بوحش نُزعت مخالبه مع تراجع الإحاطة الدوليّة به، أو بعبارة أخرى، مع تخلي الغرب عن أجندة إسقاط النظام السوري وحلّ سلاح حزب الله، كما يرى أعضاء في الأمانة العامّة لقوى 14 آذار. وبات بالإمكان القول إن إنجازات هذا الفريق تقتصر على ما حققّته في مارس/آذار 2005، وما ترجم في مايو/أيار من العام نفسه، بانسحاب الجيش السوري من لبنان. وكل ما عدا ذلك مجرّد شعارات رفعت، وبدّدها موسم انتخابي أو استحقاق سياسي، ولم تعد إلا صوراً علّقتها الأمانة العامة على جدران مقرّها.

رئاسة الجمهورية

أُنهك جسم 14 آذار بفعل الانشغال الدولي الدائم بسوريا. وجاءت الاستحقاقات الداخلية لتفصل هذه المكوّنات عن بعضها. كان أولها تشكيل الحكومة الجامعة، وتأتي قريباً الانتخابات الرئاسية في مايو /أيار 2014 لتكرّس هذا الفصل، في ظلّ الكثير من التباينات في القراءات والخيارات. يقول أركان في 14 آذار لـ"العربي الجديد" إنّ هذه التباينات من شأنها أن تظهر أكثر إلى العلن في الأيام المقبلة، لذا "يجري العمل على لملمتها وصياغتها في إطار نقد ذاتي سيُعلن في مهرجان الذكرى التاسعة" اليوم الجمعة. مثلاً، يسير رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، في خط سياسي راديكالي، قال لحلفائه إنه لن يتراجع عنه. هو لن يهادن ولن يتقرّب من سوريا وحلفائها من لبنان. وبحسب حلفائه في الأمانة العامة لقوى 14 آذار، فإنّ "جعجع يرى نفسه في قصر الرئاسة اللبنانية وأحمد الجربا في قصر المهاجرين في سوريا". بات الموعد قريباً وجعجع لا يزال يحافظ على هذا الطموح، أقلّه في إسقاط النظام في سوريا بسرعة وحسم. لا يبحث عن رضى حزب الله، ولا يتراجع مع انشغال حليفيه الرئيسيين، تيار المستقبل وحزب الكتائب، بصياغة اتفاق سياسي جديد مع الخصوم.

وعلى العكس من هذه النظرة الجذرية، يراجع رئيس حزب الكتائب، الرئيس السابق أمين الجميّل، أوراقه جيّداً. هو يطمح أيضاً بالعودة إلى قصر الرئاسة، عبر التقرّب من حزب الله حيناً، وتقديم لائحة بشهداء الكتائب حيناً آخر. فلا يرى حلفاؤه في أدائه "إلا الكثير من الانتهازية"، على حدّ قول أحد أبرز وجوه الأمانة العامة في 14 آذار. وبين جعجع والجميّل، اقتنع زعيم تيار المستقبل، سعد الحريري، بصورة رئيس وسطي للجمهورية. ينظر الحريري بواقعية إلى هذا الاستحقاق، فيتّهمه بعض حلفائه بالسير في خطة لإبقاء الموقع الرئاسي ضعيفاً. ويتحوّل بنظر هؤلاء، من رمز وطني إلى حليف يبغي إضعاف المسيحيين ودورهم. 

تأثير اغتيالات 

يقول منسق الأمانة العامة في قوى 14 آذار، النائب السابق فارس سعيد، لـ"العربي الجديد"، إنّ الاغتيالات السياسيّة أدّت دوراً مؤثراً في تراجع لهجة الحريري. وعلى العكس من السنوات الماضية، لم تحفّز الاغتيالات، الحريري وفريقه، على رفع السقف السياسي ولا على حمل أدوات المواجهة. اغتيال الوزير السابق محمد شطح، أحد مستشاري الحريري، في 27 ديسمبر / كانون الأول 2013، ترك عند الحريري الكثير من الخوف والقلق، بحسب قيادات في هذا الفريق. فالتفجير وقع على بعد أمتار من منزله في بيروت، وسط إجراءات أمنية كان من المفترض أن تُرافق اجتماع قيادات 14 آذار. وينقل عدد من المقربين عن الحريري قوله إنه "لم يعد يريد أن يخسر المزيد من الأصدقاء أو الحلفاء". خسر الحريري مستشاراً وصديقاً، ولاعباً قوياً كانت تُلقى على عاتقه مهمّات أساسية، كالصياغة التي قدّمها عن واقع سوريا وإيران. كذلك كان مسؤولاً عن التنسيق مع دوائر 14 آذار ومع رئاسة الجهورية والبطريركية المارونية. ولم يأتِ بعد من يملأ الفراغ الذي تركه غياب شطح "الذي كان يتقن فنّ إقناع الحريري عبر ربط ملفات دولية ومحلية".

تردّى الواقع الأمني لتيار المستقبل وفريق 14 آذار قبل عامين، عند اغتيال اللواء وسام الحسن، رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي. ففي 19 أكتوبر / تشرين الأول 2012، بات هذا الفريق مكشوفاً أمنياً، مع اغتيال رجل كان يمسك بملفات داخلية وخارجية. كما لعب الحسن دوراً في مراحل سياسية حسّاسة، كتسلّم الحريري رئاسة الحكومة ومن بعدها الثورة السورية، وهو مَن كشف "مؤامرة ميشال سماحة وعلي مملوك" (اعتقل سماحة وفي حوزته عدد من العبوات سلّمها له العميد السوري علي مملوك وذلك للقيام بسلسلة من التفجيرات والاغتيالات ذات الطابع المذهبي) وغيرها. انضم شطح والحسن إلى قافلة "شهداء" هذا الفريق، فتراجع الحريري وأخذ حذره، بينما يطالبه جمهور 14 آذار بخطوات أخرى.

"شعب 14 آذار"

تغيّر المشهد كثيراً على جمهور 14 آذار. تلك الجموع التي احتشدت في ساحة الشهداء في بيروت قبل تسع سنوات، تشتّتت. هذا الجمهور، أي "محرّك ثورة الأرز" أو "أبناء انتفاضة الاستقلال" بلغة قيادته، لم يعد يجد من يستوعبه أو يعبّر عنه. فمن بين كل زعماء هذا الفريق، وحده سمير جعجع تمكّن من الحفاظ على خطابه ومواقفه. أما المأزق الأكبر فهو في جمهور تيار المستقبل، الذي تعبّأ منذ سنوات على مواجهة حزب الله ليجد نفسه اليوم شريكاً له في الحكومة. وعلى وقع الثورة السورية وجناحاتها الإسلاميّة المتشددة، يترك كثيرون من أبناء الطائفة السنية لباس المستقبل للجوء إلى عباءات سلفية. ومنهم من يلجأ إلى تنظيمات سنيّة بحتة، لها خطابها المذهبي الواضح، ونواياها المرسومة في إسقاط نظام الأسد وحليفه الذي يسمونه "حزب الشيطان" (حزب الله) في لبنان. نزعت مناطق وبلدات كثيرة، في بيروت أو في الشمال والبقاع، رايات المستقبل لترفع الأعلام الإسلامية. ولم تبادر قيادة التيار بعد إلى معالجة هذه الظاهرة، باعتبارها "طارئة وغير مؤثرة" بحسب ما يقول النائب أحمد فتفت لـ"العربي الجديد". فالمستقبل لم يتيقّن بعد خطورة هذا الواقع المستجد "لكونه لا يتجاوز أربعة في المئة من المجتمع السني"، فيحافظ المستقبليون على إيمانهم بأنّ الخيار المعتدل الذي يقدمه للناس متماسك. 

ساحة 14 آذار غادرها البعض إلى غير رجعة، كالتيار الوطني الحرّ (يرأسه النائب ميشال عون). واتّخذت مكوّنات أخرى لنفسها مسافة "شرعيةً" منها، كالحزب التقدمي الاشتراكي (بزعامة النائب وليد جنبلاط). اليوم، يعيش ما تبقى من 14 آذار في حالة البحث عن مساحات خاصة للتعبير والتمركز. يؤكد وزير العمل الكتائبي، سجعان القزي، لـ"العربي الجديد" أنّ "لا خيار للكتائبيين خارج هذا التحالف"، بينما يقول فارس سعيد إنّ "قوى 14 آذار أضعف من أن تفرض نفسها سياسياً، وأقوى من أن ينفرط عقدها". يمكن تشبيه مقولة سعَيد بعبارة "لبنان أصغر من أن يُقسّم وأكبر من أن يُبلع". فعلى قوى 14 آذار العيش في هذه الدوّامة طالما أنها ترفض الاعتراف بانفراط عقدها.
لقد مات كل ما يجمعها داخلياً، ورغم ذلك، هي محكومة إذاً بالتعايش مع بعضها بعضا. تتعايش مع شياطين المصالح والاختلافات حتى لا تسلّم نفسها "لشيطان الاستسلام لسوريا وحلفائها".