الجزائر: حلم الديمقراطية ما زال بعيداً

الجزائر: حلم الديمقراطية ما زال بعيداً

06 أكتوبر 2014
حلم الديمقراطية مر سريعاً على الجزائريين (أرشيف/فرانس برس)
+ الخط -

ما زال محند أزواو يتذكر ذلك اليوم الذي أصابته رصاصة طائشة أطلقتها الشرطة في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1988 وسط العاصمة الجزائرية، في ذلك اليوم كانت أحياء المدينة، كما المدن الأخرى، تشتعل بغضب شعبي في انتفاضة مفاجئة للسلطة. لم تكن المطالب واضحة حينها، لكن الحريات السياسية كانت العنوان الأبرز.

أزواو الذي عمل لفترة في مقرّ "التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية" (حزب علماني)، ما زال يطالب بحقوقه المادية نظير الإصابة التي تسببت بقطع يده، وما زال مطلب الحريات المدنية والسياسية يحركه، فقد خرج في مارس/آذار الماضي في تظاهرات حركة "بركات" (كفاية) ضد ترشح الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، لولاية رئاسية رابعة.

قبل ربع قرن من الربيع العربي، في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1988، خرج الجزائريون في تظاهرات احتجاجية في كل المدن، كانت أعنفها تلك التي شهدتها العاصمة، وكانت الجزائر حينها تحت حكم نظام الحزب الواحد، "جبهة التحرير الوطني" التي قادت ثورة التحرير، وتحولت إلى جهاز سياسي استعمله النظام الحاكم في إدارة البلاد بطريقة شمولية، أفضت لتراكمات سياسية ضاغطة وإفلاس اقتصادي وخلخلة كبيرة في المنظومة الاجتماعية للبلاد.

لقد كانت تلك الأحداث أشبه بجرس انذار نهاية مرحلة الحكم الثوري المبني على أساس العنفوان والشرعية الثورية المستمدة من ثورة التحرير، ونهاية العنفوان الثوري الذي ظل العنوان السياسي للجزائر ووصول مشروع الدولة الثورية والمجتمع المنضبط إلى نقطة النهاية.

لم تكن أحداث أكتوبر/تشرين الأول سوى تتمة لأحداث سياسية سبقت ذلك بقليل، بعد سنة واحدة من وفاة الرئيس هواري بومدين، وفي 20 أبريل/نيسان 1980، شهدت منطقة القبائل التي تسكنها غالبية من الأمازيغ (البربر) انتفاضة تُعرف بالربيع الأمازيغي للمطالبة بالاعتراف بالهوية واللغة الأمازيغية.

كانت تلك الانتفاضة مقدمة رئيسية للربيع الديمقراطي في أكتوبر/تشرين الأول 1988، خاصة وأن قمعاً كان قد طال رموز وكوادر التيار الإسلامي، في ما يعرف بـ"أحداث الجامعة المركزية" عام 1982، وبروز مجموعة إسلامية مسلحة عرفت بمجموعة مصطفى بويعلي.

ولم تتوقف الأمور عند هذا الحدّ، فالمؤشرات الاقتصادية القاسية كانت تلوح في الأفق بأزمة قاسية، فقد كان الوضع الاقتصادي ممزّقاً، وسط تزايد القلق الناجم عن تدهور سعر البترول الذي انحدر من 34 دولاراً للبرميل عام 1982 إلى 16.5 دولار عام 1986 وانخفاض عائدات الجزائر من النفط من 13 مليار دولار عام 1985 إلى 7.88 مليار دولار عام 1986، وقاربت الخسارة في حينه حوالي 50 في المئة، وبدا أنه من الصعب تقليص الواردات، وذلك لتأثيرها في العمق الهيكلي للاقتصاد، وخصوصاً أن الجزائر كانت ملزمة بتسديد مستحقات ديونها القصيرة المدى.

فقد انتقل معدل الفائدة من 35 في المئة إلى 54.3 في المئة ما يشكل نصف عائدات النفط، كما أن التغطية المالية للجزائر تقلّصت من 4 أشهر إلى شهر واحد فقط، وتراكم عجز الإيرادات تجاوز الـ9 ملايين دولار، وبات الحدّ الأدنى لمواصلة وتيرة النمو كما كان قبل عام 1986 يحتاج إلى 10 ملايين دولار.

أحس الرئيس الشاذلي بن جديد، بأن الأزمة تضيق وأن انفجاراً اجتماعياً حاصل لا محالة، فألقى خطاباً في 19 سبتمبر/أيلول 1988 أمام كوادر حزب "جبهة التحرير الوطني الحاكم"، والمسؤولين في الدولة طالب فيه الشعب بأن يتحمل مسؤولياته لمكافحة الفساد.

بدا الخطاب وكأنه خطاب تحريضي للشعب ضد المسؤولين في الحزب أكثر منه خطاباً لحلحلة المشكلات، بعد أسبوعين فقط كانت أحياء العاصمة تهتز على وقع المواجهات بين الشرطة والجماهير الغاضبة التي استهدفت على وجه الخصوص مقرات الحزب الحاكم، ومحافظات الشرطة إلى المؤسسات التربوية والوزارات، وانتشرت الحجارة والمولوتوف في كل مكان.

أعطيت الأوامر لتدخل الجيش، لتجد المؤسسة العسكرية نفسها في أول مواجهة مع الشعب ما تسبب في مقتل أكثر من 500 شخص، ودفع تصاعد أعمال العنف الرئيس الشاذلي إلى إلقاء خطاب في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 1986 أعلن فيه عن إصلاحات سياسية تفضي إلى تعددية سياسية ونقابية وحرية الصحافة.

تحقق للجزائريين أول مكسب سياسي تمثل في الحصول على حق إنشاء الأحزاب السياسية والنقابات وتأسيس الصحف المستقلة، كان انفتاحاً سياسياً غير مبرمج، سبق بأشهر ربيع دول أوروبا الشرقية، ودفع ذلك الانفتاح بالإسلاميين إلى مقدمة الساحة السياسية، في مواجهة التيار الديمقراطي والعلماني، مع تراجع لافت للشيوعيين الذين اختفوا من الساحة.

بدا أن الجزائر كانت تتجه إلى صراع إرادات بين مشروعين سياسيين في البلاد، لكن الإسلاميين كانوا أكثر تسرعاً في انجاز مشروعهم السياسي من الديمقراطيين الذين التصقوا بالمؤسسة العسكرية، وسيطروا على وسائل الإعلام والفضاءات الثقافية، وكان المشهد يوحي بأن المؤسسة العسكرية تدفع الطرفين إلى التصادم، لتطرح نفسها مجدداً كحل وبديل.

ولم تمض سوى ثلاث سنوات على الربيع الديمقراطي حتى كانت الجزائر على أهبة أول انتخابات برلمانية تعددية، انتخابات سحق فيها التيار الإسلامي ممثلاً في "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" منافسيه من اليسار والديمقراطيين، لكن هذا الانتصار لم يكن محسوب العواقب بالنسبة للإسلاميين، فقد طغت مظاهر العنف والعنف اللفظي على المشهد السياسي في البلاد.

وسبق الانتخابات مجزرة نفذتها مجموعة مسلحة زعم حينها أنها مقربة من "جبهة الإنقاذ"، ضمت قدماء المحاربين في أفغانستان، ووجد فيها الجيش الفرصة لاجهاض التحول الديمقراطي واستعادة السيطرة على المشهد السياسي، ومنع الانتقال الديمقراطي، حيث أعلن وقف المسار الانتخابي وحظر "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" ونقل الآلاف من أنصارها إلى المعتقلات في الصحراء، وهو ما وصف بالانقلاب الذي دخلت معه البلاد في أزمة سياسية وأمنية دامية.

مر الحلم الديمقراطي على الجزائريين سريعاً، واليوم بعد 26 سنة من ذكرى الربيع الديمقراطي في الجزائر، ما زالت البلاد تتعثر على أكثر من صعيد، أزمة سياسية مزمنة في اتجاه البحث المستمر عن الشرعية، حيث لم تتح التجارب الانتخابية للنظام الحاكم الحصول على الشرعية السياسية، وهو ما يضع السلطة في رحلة البحث الدائم عن سياقات أخرى للشرعية، وإفلاس اقتصادي يدفع البلاد سنوياً إلى اللجوء للموازنات التكميلية من أجل استكمال السنة المالية، وهدر للمال العام بسبب ضعف الاعتماد على التخطيط المنهجي والاستشراف المستقبلي، وهو ما يفسر تزايد فضائح الفساد المالي في الجزائر.

وعلى الرغم من أن مداخيل البلاد بلغت 190 مليار دولار سنوياً، فإن الجزائر ما زالت مشلولة بعطب اقتصادي شامل واعتماد كلي بنسبة 97.3 في المائة على مداخيل النفط، ما يضع البلاد على حافة الهاوية في حالة أي زلزال يمس أسعار النفط، إضافة إلى المشكلات المزمنة كالسكن والبطالة والضغوط والإكراهات السياسية التي عادة ما تكون السبب وراء احتجاجات اجتماعية مستمرة ومتفرقة.

صحيح أن الربيع الديمقراطي منح الجزائريين حق تأسيس الأحزاب والصحف وانتقاد السلطة، لكنه لم يتح لهم فرصة إنشاء ديمقراطية حقيقية، فالبرلمان والقضاء والصحافة، كما الهيئات الإدارية والرسمية، ما زالت تخضع للتعليمات من القيادات العليا، أكثر من خضوعها للقوانين المنظمة لعملها، كما أن تداخل الصلاحيات بين السلطة التنفيذية والتشريعية والرقابية، لم يمنح الجزائريين حق مراقبة النفقات العامة والشفافية في صرفها.

وبعد 26 سنة من الربيع الديمقراطي، يجد الجزائريون أنفسهم رهن جدل يتصل بمشروع توريث الحكم من قبل الرئيس بوتفليقة الذي يدير دفة الحكم منذ عام 1999، أكثر من مناقشة أدوات الديمقراطية، وخطط تطوير البنية التحتية للاقتصاد وترشيد المجتمع. وما يفتخر به الجزائريون أنهم كانوا السباقين في الربيع العربي، لكن حلم الديمقراطية ما زال بعيداً.