استمع إلى الملخص
- أثرت الخلافات بين حلفاء إسرائيل والداعمين لفلسطين على عولمة القضية الفلسطينية، حيث فشلت الجهود الأميركية في تهميش فلسطين وغزّة، مما أدى إلى عزلة إسرائيل دوليًا.
- تصاعدت الضغوط الدبلوماسية لدعم فلسطين، مع تعزيز العلاقات الدولية وتوطيد الشبكات الإقليمية، مما يعزز من عولمة القضية الفلسطينية ويضعف الهيمنة الأميركية.
على مدار ثمانية عشر شهرًا من حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، بذلت واشنطن وحلفاؤها من العواصم الأوروبية جهدًا محمومًا للالتفاف على أيّ دعمٍ دوليٍ أو إقليميٍ لقضية فلسطين، خشية تطوره نحو الضغط على إسرائيل لوقف الحرب.
في سياق تحليل علاقة قضية فلسطين بالبعد الدولي (بشقيه الرسمي وغير الرسمي)، وتفاعلاته مع الأبعاد الفلسطينية والعربية والأفريقية والإسلامية، ثمّة ثلاث ملاحظات، أوّلاها؛ استحالة فصل هذه القضية عن حيثياتها الدولية، لا سيّما في أوقات الحروب والأزمات الدولية، التي تشتغل الدبلوماسية الإسرائيلية على توظيفها لتحقيق هدفين متداخلين؛ أحدهما تأكيد تماهي دولة الاحتلال مع المصالح الأميركية (والغربية عمومًا)، كونها "الحليف الأكثر إخلاصًا واستقرارًا"، في إقليم الشرق الأوسط، المضطرب وغير المستقر، والآخر تشديد الضغط على الشعب الفلسطيني، ومحاولة شيطنته، وتجريم حقّه في المقاومة المشروعة للإرهاب الصهيوني.
يبدو لافتاً في السياق ذاته، فشل الولايات المتّحدة وإسرائيل الواضح في تعميم "السردية/الدعاية الصهيونية" على الصعيد العالمي، حول هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، في مقابل انتشار "السردية الفلسطينية" بشأن فظاعات حرب الإبادة الراهنة، التي كشفت رفض إسرائيل، دولةً وجيشاً ومؤسّساتٍ، الالتزام بأحكام القانون الدولي الإنساني، خصوصًا ما يتعلّق بحماية المدنيين والممتلكات والأعيان المدنية في زمن الحرب.
يبقى القول؛ إن احتمال نجاح واشنطن والتحالف المعادي لحرية فلسطين في وقف عولمة قضية فلسطين يبقى ضئيلًا جدًا
تتعلّق الملاحظة الثانية بأثر الخلاف بين معسكر حلفاء إسرائيل (الداعمين إفلاتها من المحاسبة على جرائمها)، وبين الأصوات المؤيدة للشعب الفلسطيني على مسار عولمة قضية فلسطين، في ضوء حصاد ضغوط الإدارة الأميركية في شهورها الثلاثة الأولى، ومحدودية قدرتها على إنهاء الحركة التضامنية الطلابية مع غزّة وفلسطين داخل الجامعات الأميركية، وكذلك صعوبة نجاح واشنطن وحلفائها، في الالتفاف على قرار الجنايات الدولية بتوقيف بنيامين نتنياهو؛ على الرغم من فرض واشنطن عقوبات على المدعي العام لمحكمة الجنايات، كريم خان، وشنّ مجلس الشيوخ الأميركي حملةً واسعةً على المحكمة وقضاتها، وكذا إعلان قادة دولٍ أعضاء في المحكمة (مثل المجر وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبولندا)، أنّهم لن يعتقلوا نتنياهو إذا زار بلدانهم.
لا شك أنّ قيمة قرار محكمة الجنايات الدولية القانونية والمعنوية قد أسهمت في عزلة نتنياهو الدولية، وامتناعه عن الزيارات الخارجية، ما خلا زيارتين إلى واشنطن (4/2/2025)، ثمّ (7/4/2025)، علمًا أنّ الولايات المتّحدة ليست عضوًا في المحكمة. إضافةً إلى استقبال رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان نتنياهو في بودابست (3/4/2025)، بعد انسحاب المجر من المحكمة، ما أدى إلى مطالبتها (16/4/2025) بتقديم مذكرة توضيحية، بشأن فشلها في اعتقال نتنياهو المطلوب للعدالة الدولية، إضافة إلى انتقاد وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، الزيارة بقولها "هذا يوم سيئ للقانون الجنائي الدولي (..) لقد قلت دائمًا إنّه لا أحد فوق القانون في أوروبا"، وكذا انتقاد وزير الخارجية البلجيكي، ماكسيم بريفو، انسحاب المجر من المحكمة؛ إذ أصبحت الدولة الوحيدة في الاتّحاد الأوروبي غير المنضمة إلى نظام روما الأساسي، ويمثل هذا نكسة كبيرة للعدالة الدولية ومكافحة الإفلات من العقاب عن جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان، كما "يمهّد قرار بودابست الطريق لعالم تُبنى فيه القوّة على حساب الحقّ".
في المقابل، تصاعد أثر الأبعاد الدولية غير الرسمية على مسار قضية فلسطين، عبر حراك أغلب الشوارع الأوروبية، وتنظيم المظاهرات العالمية الحاشدة المطالبة بوقف حرب غزّة، ووقف تسليح إسرائيل، وهو ما يزيد، بفعل أثر التراكم والاستمرارية، إمكانية التأثير على صنّاع القرار الغربي، خصوصًا كلما ترجمت هذه الأنشطة التضامنية الشعبية المجتمعية إلى ضغوطٍ سياسيةٍ عبر المؤسسات (الأحزاب، والنقابات، ومؤسسات المجتمع المدني، والجامعات.. إلخ).
أيضًا؛ لا شك أنّ فظاعات حرب إبادة غزّة، قد حرّكت موجةً من التضامن العالمي، غير مسبوقةٍ، مع معاناة الشعب الفلسطيني، خصوصًا في أوساط الطلاب الجامعيين في دول الغرب، الذين نجحوا في ربط قضية غزّة بقضايا محلية، مثل التمييز العنصري، وقضايا أكبر تعكس المبادئ الإنسانية العالمية (مثل حرية التعبير، والعدالة، وحقوق الأطفال والنساء.. إلخ)، لكي تتشكّل مجموعاتٍ من المبادرات والمضامين واللافتات والهتافات العالمية المتشابهة، التي تدلّ على بروز "تحولٍ ثقافيٍ عامٍ" في وجهات النظر تجاه فلسطين والفلسطينيين في الغرب الناطق باللغة الإنكليزية، بعد أن تصاعدت، في أنحاء الجنوب العالمي، وكذا في مدن الغرب، رمزية قضية فلسطين، التي تمثّل تجسيدًا للتمرّد ضدّ النفاق الغربي، وضدّ نظام "ما بعد استعماري ظالم".
ولئن كان صحيحًا أنّ تعزيز مسار عولمة قضية فلسطين، يقتضي موقفًا رسميًا أوروبيًا أقوى، على نحو يعكس احترام حقوق الإنسان والديمقراطية وقواعد القانون الدولي، فإنّ تحليل محصلة سياسات ترامب - نتنياهو في الضغط على أهالي غزّة، لا تبدو ناجحةً كثيرًا، على الرغم من دعم واشنطن سياسة إسرائيل في استخدام التجويع سلاحًا سياسيًا، وتكثيف استهداف المستشفيات، وأماكن النزوح ومخيمات النازحين الغزيين، لا سيّما بعد استئناف الحرب (18/3/2025)، ما يعني فشل الجهود الأميركية في تهميش فلسطين وغزّة، (وبالتالي فشل الالتفاف على منظومات القانون الدولي وحقوق الإنسان والشرعية الدولية)، خصوصًا مع عودة أصوات المؤسسات الدولية المختلفة إلى التحذير من مغبة هذه السياسات في توليد كارثةٍ إنسانيةٍ غير مسبوقةٍ في قطاع غزّة.
انتشار "السردية الفلسطينية" بشأن فظاعات حرب الإبادة الراهنة، التي كشفت رفض إسرائيل، دولةً وجيشاً ومؤسّساتٍ، الالتزام بأحكام القانون الدولي الإنساني
تتعلّق الملاحظة الثالثة بإمكانية ضغط الدبلوماسيات العربية والأفريقية والإسلامية لمصلحة قضية فلسطين، عبر أمرين؛ أحدهما توطيد العلاقات مع القوى الدولية الأخرى، غير واشنطن، كما تعكسه العلاقات المصرية الفرنسية، بعد زيارة الرئيس ماكرون العريش المصرية، وزيارة أمير قطر روسيا، وتوطيد العلاقات الصينية الماليزية.. إلخ. والآخر توطيد شبكة العلاقات الإقليمية البينية، كما تعكسه زيارة وزير الدفاع السعودي ولقاؤه المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي (17/4/2025).
يبقى القول؛ إن احتمال نجاح واشنطن والتحالف المعادي لحرية فلسطين في وقف عولمة قضية فلسطين يبقى ضئيلًا جدًا، على ضوء ثلاثة عوامل؛ أولها صعوبة، لكيلا أقول استحالة، تقييد التعاطف مع قضية غزّة، خصوصًا في الدول الأوروبية (وكذا في الدول البعيدة جغرافيًا عن فلسطين مثل بنغلاديش أو ماليزيا أو إندونيسيا أو باكستان.. إلخ)، ما يتيح فرصةً لتشكيل ائتلافٍ عالميٍ لدعم فلسطين، بالتوازي مع تدشين مسار عمليةٍ عالميةٍ طويلةٍ لعزل إسرائيل ومعاقبتها على جرائمها، خصوصًا بعد انضمام دولٍ عدّةٍ إلى قضية الإبادة المرفوعة من جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل، أمام محكمة العدل الدولية، التي باتت تتوسّع نحو مناقشة منع إسرائيل المساعدات الإنسانية عن قطاع غزّة، وكذلك قرار السلطات الإسرائيلية وقف عمل وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا".
ثانيها؛ تجدد أشكال وأفعال المتضامنين الدوليين مع غزّة (مثالان استقالة ابتهال أبو السعد وفانيا أغراوال من وظيفتيهما في شركة مايكروسوفت انتصاراً لغزة، وإلقاءُ نشطاء من منظمة السّلام الأخضر في بريطانيا في 10 إبريل/نيسان الجاري 300 لتر من الصبغة الحمراء في بحيرة داخل السفارة الأميركية في لندن، احتجاجًا على تزويد واشنطن إسرائيل بالأسلحة).
ثالثها؛ الدعم الفرنسي لمسار الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، ما يصب في المحصلة في عولمة قضية فلسطين، وتحريرها من الهيمنة الأميركية، ومن سطوة التيارات الشعبوية اليمينية التي تجتاح العالم بأسره.