منذ توقيعه على اتفاق سياسي مع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، يعيش رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك في عزلة تامة تضع احتمال استقالته واحداً من الاحتمالات القوية.
وكان حمدوك، قد وقع في 21 نوفمبر/تشرين الأول الماضي، اتفاقاً سياسياً مع قائد الجيش، رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، جاء بعد نحو 28 يوماً من انقلاب الأخير عليه وعلى السلطة الانتقالية في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقضى الاتفاق بعودة حمدوك لمنصبه رئيساً للوزراء وتشكيل حكومة كفاءات بعيداً عن تحالف "الحرية والتغيير"، مع الإبقاء على العديد من الإجراءات التي اتخذها الانقلاب، ونصوص أخرى عن التحقيق في مقتل المتظاهرين وتعديل الوثيقة الدستورية وإكمال مؤسسات هياكل السلطة الانتقالية.
وقدم حمدوك سلسلة من الشروحات لأسباب إقدامه على الاتفاق مع الانقلاب، من بينها حقن دماء السودانيين، والمحافظة على مكتسبات الثورة السودانية على المستوى الداخلي والخارجي، وتجنيب البلاد سيوف العقوبات والعزلة الدولية.
غير أن تلك المبررات، لم تجد أذناً صاغية وسط الشارع السوداني الرافض للانقلاب وللتسوية معه تحت لافتة "لا تفاوض لا تسوية لا شرعية"، واعتبر الشارع اتفاق البرهان حمدوك، مجرد قبلة حياة للانقلاب الذي شهد منذ لحظته الأولى عزلة داخلية وخارجية وحراكا ثوريا مناهضا لم يتوقف، حيث وصلت مواكبه المليونية إلى 7 مواكب، وحصلت عشرات الوقفات الاحتجاجية وإضراب عن العمل في أيامه الأولى، وعصيان مدني، وإغلاق مستمر للطرق والشوارع الرئيسة.
ذات العزلة التي واجهها الانقلاب، يقابلها، هذه الأيام، رئيس الوزراء، بانحسار شعبيته عقب صدمة انحيازه للانقلابيين والتوافق معهم، وطاولته الهتافات المناوئة خلال كل المواكب والتظاهرات التي أعقبت اتفاقه السياسي، كما فقد حمدوك حاضنته السياسية المتمثلة في تحالف قوى الحرية والتغيير، والتي وصفته في كل بياناتها اليومية بمجرد رئيس وزراء للانقلاب، ورفضت الاعتراف بشرعيته المستمدة من قرارات البرهان.
وإضافة إلى ذلك، فقد عبد الله حمدوك، كثيراً من رصيده وسط لجان المقاومة السودانية، النشطة هذه الأيام، أكثر من غيرها في تحريك الشارع، نتيجة اجتماعه الأحد الماضي مع مجموعة محدودة من لجان المقاومة، وهو ما صنف كمحاولة منه لشق صف المقاومة وتجييرها لصالح الانقلاب.
فشل حمدوك في تعهده بالعمل على حماية التظاهرات السلمية
يضاف إلى ذلك أيضاً، فشل حمدوك في تعهده بالعمل على حماية التظاهرات السلمية التي تعرضت إلى العنف من جديد، يوم أمس الثلاثاء، حينما فضت قوات الشرطة بقوة موكب 30 نوفمبر بالقرب من القصر الرئاسي وعلى بعد أمتار قليلة من مكتب رئيس الوزراء.
حتى على صعيد المعسكر الانقلابي، ورغم توقيعه على اتفاق معه، لم يتحمس المعسكر في تقديم السند المطلوب لرئيس الوزراء، بما في ذلك تحالف أحزاب سياسية دعمت الانقلاب، ويبدو أنها لم تتشجع وتتحمس لعودة حمدوك لمنصبه وقبلت به على مضض لتجاوز الأزمة السياسية وتخفيف الضغط الدولي والتلويح بصدور عقوبات دولية.
كما تسبب المعسكر الإنقلابي في تعثر مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة من الكفاءات، لإصرار حركات مسلحة على الاحتفاظ بنسبتها في مجلس الوزراء بموجب اتفاق السلام بينها وبين الحكومة، دون القبول بحكومة كفاءات كاملة، وهذا ما لا يرغب فيه حمدوك، سعياً منه ليبدو أكثر حيادية بإبعاد كل الأحزاب والحركات المسلحة عن تشكيلة مجلس الوزراء، أو على الأقل إبعاد الوزراء المرتبطين بالنزاع السياسي مع "الحرية والتغيير".
مع كل المعطيات، وبحسب مصادر "العربي الجديد"، فإن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك يشعر بخيبة أمل كبيرة من العزلة السياسية ومن تصاعد الغضب الشعبي عليه، ومن الاستخدام المفرط للقوة مع المتظاهرين وسقوط مصابين، وكذلك من الضغوط عليه من قادة الانقلاب وحواضنه السياسية ومن بعض أحزاب الحرية والتغيير مثل حزب الأمة القومي، الذي دفعه للتوقيع على الاتفاق، ومن ثم تخلى عنه وتركه وحيداً، ما قد يدفعه لتقديمه الاستقالة والانسحاب من المشهد كلياً، لا سيما أنه لوح بذلك في حواراته الصحافية التي أجراها في أكثر من مناسبة في الأيام الماضية.
من يمنع حمدوك من الاستقالة؟
يرى المحلل السياسي عباس محمد إبراهيم في حديث لـ"العربي الجديد"، أن ترجيح حمدوك لخيار الاستقالة أمر متوقع، خصوصاً بعد ظهوره المهزوز والضعيف بعد توقيعه على الاتفاق مع الانقلابيين، مع ردود الأفعال الواسعة والرفضة للاتفاق.
لكن إبراهيم، يرى أن "المجموعات التي تقف خلف حمدوك ربما تقف سداً منيعاً أمام ذلك الخيار، لأنه وحسب معلوماته، تسعى تلك المجموعة جاهدة لإضعاف الشارع، وتقسيم قوى إعلان الحرية والتغيير، وخلق حاضنة سياسية بديلة، وهي ضمن منظومة متكاملة تقف ضد التحول الديمقراطي وتخطط لورثة نظام البشير، وعملت لذلك بعد سقوط نظام البشير مباشرة في 2019 وهزمها الشارع، وهي جزء أساسي في صناعة الانقلاب الحالي".
وأوضح أن المجموعة تضم موظفين بمكتب حمدوك، ورجال أعمال، وشخصيات سياسية أبعدت عن أحزابها، وأخرى لاتزال تنشط سياسياً، وخلفها يقف ثقل دولي وإقليمي، مشيراً إلى أن المجموعة مؤثرة جداً ومتحكمة، ولن تسمح لحمدوك بالتنحي.
كل الاحتمالات واردة
من جهته، لا يستبعد جعفر خضر الناشط في الحراك الثوري، وعضو مبادرة أطلقها رئيس الوزراء في وقت سابق لتوحيد قوى الثورة، إقدام حمدوك على الاستقالة، خصوصاً أن الكل لم يتوقع من قبل انضمامه للمعسكر الانقلابي، "فخيب ظنهم ووقع على الاتفاق السياسي الشهر الماضي، بالتالي تصبح كل الاحتمالات واردة في أي لحظة دون وجود عنصر للمفاجأة".
وبين خضر لـ"العربي الجديد" أن الأفضل لحمدوك استئناف اتصالاته مع القوى السياسية وقوى الثورة الحية لتصحيح تلك الأخطاء لتخفيف الأضرار والآثار السياسية لخطوته، وأن أي استقالة منه تعني تعقيداً أكثر للمشهد السياسي، المعقد أكثر بعد اتفاقه مع العسكر.
يوم مفصلي
إلى ذلك، يرى الصحافي شوقي عبد العظيم القريب من دوائر رئيس الوزراء، أن خيار الاستقالة راجح جداً بشرط واحد هو عدم استيعاب المكون العسكري للمعطيات الحالية، والاقتناع بأن اتفاقهم مع حمدوك لا يكفي وحده للخروج من المعضلات السياسية الراهنة، ويجب عليهم استيعاب أن الاتفاق بحاجة لإكمال عبر إطلاق يد رئيس الوزراء بالتواصل مع القوى السياسية، والاتفاق معها لتكون جزءا من المشهد والقرار والمشاركة".
وأكد أنه "إن لم يحدث ذلك فسيجد حمدوك نفسه مجبراً على الاستقالة، حفاظاً على رصيده الذي أنجزه في السنتين الماضيتين على الصعد الداخلية والخارجية".
وأوضح عبد العظيم لـ"العربي الجديد" أن ما يعزز تلك الفرضيات هو إعادة الثورة تنظيم صفوفها واستعادة قدرتها على التأثير، وهو ما وضح في المواكب العظيمة التي خرجت في الأيام الماضية، مشيراً إلى أن المدى الزمني لحسم حمدوك لموقفه إما بالاستمرار أو الاستقالة هو تاريخ 19 ديسمبر/كانون الأول الحالي، لأنه يوم مفصلي بالنسبة للثورة السودانية، ويصادف مرور 3 سنوات على انطلاقتها.
استبعاد الاستقالة
وبخلاف تلك الآراء، يذهب أستاذ العلوم السياسية الدكتور صلاح الدين الدومة إلى استبعاد استقالة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك نهائياً، لطبيعية شخصيته القوية القادرة على امتصاص الصدمات، أو نتيجة وجود سند شعبي يقف معه، مقابل سند ضده إضافة إلى السند الدولي الكبير الذي لم يتوفر لأي رئيس آخر.
ويضيف الدومة لـ"العربي الجديد"، أن حمدوك يراهن على تجاوز كل تلك المطبات والنظر إلى المستقبل، وأن المطلوب منه تجاهل الأصوات المناوئة له الآن، والمضي في طريق المستقبل الذي يبدو في صالحه وصالح السودان، مشيراً إلى أن حمدوك لا يحتاج حتى لحاضنة سياسية، وأن كل ما عليه هو الاعتماد على قوته الشخصية وشعبيته، وعدم التراجع مطلقاً.