هل حركت الجزائر "القوة الناعمة" لاحتواء الأزمة مع دول الساحل؟
استمع إلى الملخص
- الطريقة التيجانية لها تأثير روحي كبير في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، وتاريخيًا لعبت أدوارًا في الوساطة وحل النزاعات، مما يجعلها فاعلًا مؤثرًا غير رسمي في المنطقة.
- توظيف الرموز الدينية في حل الأزمات ليس جديدًا في الساحل، حيث تسعى الجزائر لتعزيز الروابط الثقافية والدينية وتقديم إشارات طمأنة للقيادات في بوركينا فاسو ودول الساحل.
تثير الزيارة التي أجراها الخليفة العام للطريقة التيجانية ذات الحضور القوي في منطقة الساحل وأفريقيا سيدي علي بلعرابي إلى بوركينا فاسو، في ظل الأزمة السياسية القائمة بين الجزائر ودول الساحل، بما فيها بوركينا فاسو التي كانت استدعت سفيرها من الجزائر للتشاور في أعقاب حادثة إسقاط الجيش الجزائري الطائرة المالية المسيرة، تساؤلات عما إذا كانت ذات بعد سياسي يرتبط بسياق الأزمة ومساعي احتوائها عبر تحريك الجزائر ما يعرف بـ"أدوات ناعمة" ومؤثرة لإنجاز تفاهمات سياسية جديدة مع دول الساحل.
والتقى الخليفة العام للطريقة التجانية، أمس الخميس، مستشار الرئيس البوركينابي أبو بكر دوكوري، وقال إن "هذه الزيارة تعمل على دعم التآخي بين البلدين والشعبين، وإن هذا امتحان تمر به الشعوب والأمم، وليس له دواء إلا بوحدة الكلمة ووضعِ مصلحة الوطن فوق كل اعتبار"، قبل أن يلتقي مع عدد من المسؤولين في البلاد، إضافة إلى مشايخ الطريقة التيجانية ببوركينا فاسو. وكان حظي باستقبال سياسي وشعبي لدى وصوله الخميس إلى مطار واغادوغو.
ويُجمع كثير من التقديرات السياسية على أن زيارة بلعرابي ولقاءه عدداً من المسؤولين في بوركينا فاسو يمكن أن يستهدفا بث ونقل رسائل سياسية جزائرية إلى المسؤولين هناك في ما يخص الظرفية القائمة وتوتر العلاقات بين الجزائر ودول الساحل، وخصوصًا بعد حادثة الطائرة المسيرة، وتجنيب المنطقة أية سيناريوهات أو تدهور العلاقات إلى مستويات أكثر حدة تزيد في تعقيدات المنطقة الهشة.
وتحظى الطريقة التيجانية، التي أسسها الشيخ أحمد التجاني في الجزائر، بمكانة روحية كبيرة وتأثير كبير في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، وتملك رصيدًا رمزيًا وثقة شعبية واسعة في منطقة الساحل، وتتمتع بـ"علاقات البيعة الرمزية بين أتباع الطريقة في هذه الدول والخلافة في الجزائر، ولها حضور عابر للحدود"، ما يسمح لها بالتحرك بوصفها فاعلًا مؤثرًا غير رسمي، حيث اضطلعت تاريخيًا بأدوار الوساطة وحل النزاعات، سواء داخل الدول أو فيما بينها.
ويؤكد عضو رابطة علماء الساحل والباحث في قضايا التطرف في منطقة الساحل يوسف مشرية أن طريقة تنقل هذا المسؤول الديني بطائرة رئاسية تبرز الغاية السياسية للزيارة ضمن سياق الأزمة الحالية. وقال مشرية لـ"العربي الجديد": "تمكن ملاحظة أن تنقّل الخليفة العام للطريقة التيجانية جرى بطائرة رئاسية، وهذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، ما يضع هذه الخطوة ضمن محاولة لرأب الصدع والسعي لحل الأزمة في الساحل، خاصة بعد الاستقبال الرسمي والاهتمام الإعلامي الكبير، ويعطي مؤشرًا على أنها ذات صلة بالأزمة الحالية بين الجزائر ودول الساحل، التي حدثت بفعل فاعل ولغايات إقصاء الجزائر من دورها في المنطقة"، مضيفًا: "بالتأكيد، زيارة شيخ الطريقة التيجانية سيدي خليفة بلعرابي إلى بوركينا فاسو جاءت ضمن سلسلة زيارات كان قام بها إلى دول أخرى في الساحل كتشاد وليبيا، وهذه الطريقة التي ولدت في منطقة عين ماضي وسط الجزائر هي طريقة دينية مؤثرة في صناعة الرؤساء في بعض الدول الأفريقية، ويتعبد بها شعوب كثيرة في منطقة الساحل وجنوب الصحراء، وأتباعها يتمركزون في دول الساحل وأفريقيا، تركز على إصلاح ذات البين وإحلال السلم".
دبلوماسية موازية
ويعتبر خبراء في شؤون منطقة الساحل أن توظيف الرموز الدينية والقبلية في حل الأزمات والوساطات ذات البعد السياسي "ليس جديدًا في المنطقة، بالنظر إلى التركيبة التقليدية التي ما زالت عليها مجتمعات دول الساحل، ما يوفر دورًا مهمًا ومؤثرًا للمرجعيات والكيانات الدينية التقليدية". وتؤكد تقديرات سياسية أنه "لا يمكن فصل زيارة شخصية روحية بمكانة الخليفة العام للطريقة التيجانية عن المعطى السياسي، لا سيما أن هذه الطريقة لها امتداد تاريخي واجتماعي وروحي كبير في دول الساحل، وتشكل ما يمكن تسميته برابط رمزي يتجاوز الروابط السياسية بين الجزائر وهذه الدول، خاصة أنه لا ينظر إلى الخليفة العام للطريقة التيجانية بصفته زعيمًا دينيًا فحسب، بل بوصفه رمزًا جامعًا لأتباع الطريقة الذين يمثلون فئات واسعة من السكان، لا سيما في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ما يوفر مساحة مهمة لدور دبلوماسي جزائري في المساعدة على التهدئة وحل الأزمات وبناء الثقة ونقل الرسائل السياسية".
وفي السياق، يؤكد أستاذ العلوم السياسية في جامعة سعيدة، غربي الجزائر، والباحث في شؤون منطقة الساحل ولد الصديق ميلود، لـ"العربي الجديد"، أنه "رغم أن الزيارة تبدو للوهلة الأولى ذات طابع ديني روحي، إلا أن توقيتها والسياق الإقليمي المضطرب يمنحانها أبعادًا تتجاوز الشكل التقليدي للزيارات الدينية. وهذه الزيارة قد تكون مبادرة تهدئة غير معلنة: يمكن قراءتها مبادرةً غير رسمية لنزع فتيل التوتر، من خلال استثمار الرصيد الروحي للطريقة التيجانية، وإرسال إشارات طمأنة للقيادات الدينية والسياسية في بوركينا فاسو، ومن خلالها إلى باقي دول التحالف. وفيها رسالة سياسية غير مباشرة: ففي العالم العربي والأفريقي، الرموز الدينية لا تتحرك دائمًا بمعزل عن السياق السياسي. وقد تكون هذه الزيارة، رغم طابعها الروحي، محمّلة برسائل ناعمة باسم الدولة الجزائرية، تفيد بأن الجزائر لا تزال متمسكة بخيوط التواصل الرمزي والثقافي والديني مع شعوب المنطقة، رغم التوترات السياسية الطارئة".
من جانب آخر، يقرأ ولد الصديق الزيارة ضمن رسالة سياسية جزائرية غير مباشرة "لتأكيد أن علاقتها بدول الساحل أعمق من التحالفات السياسية أو النزاعات الظرفية، وأن ما يجمعها بهذه الشعوب هو التاريخ والدين والمصالح المشتركة، لا مجرد المعادلات الأمنية أو الجيوسياسية. وفي ظل التأثير الكبير للطريقة التيجانية داخل النسيج الشعبي في هذه الدول، فإن للزيارة دورًا رمزيًا في التهدئة المجتمعية، لا سيما في مواجهة الحملات الإعلامية أو التعبئة العاطفية التي قد ترافق الأزمات السياسية". واعتبر ولد الصديق أن تفعيل هذا الدور يتطلب إرادة سياسية، وإعادة تأهيل منهجي لمكانة هذه الهيئات الدينية في السياسة الخارجية الجزائرية، بما يحولها من رمزية دينية إلى قناة ناعمة مساعدة، موازية للدبلوماسية الرسمية، وأداة استراتيجية تُستخدم خاصة في الأزمات التي تتطلب استعادة الثقة وبناء علاقات جديدة وتعزيز الحوار وتقليل التوتر.