حظيت قمة مجموعة "بريكس" الأسبوع الماضي في جنوب أفريقيا، باهتمام ومتابعة ملحوظين في واشنطن. فالخلفيات والمرحلة الانتقالية الدولية، فضلاً عن حالة التعب من هيمنة الكبار، كلها فرضت التوقف عند هذا الحدث، باعتباره محاولة قد تكون جدّية للتغيير في نظام اقتصادي دولي أرست الولايات المتحدة قواعده، وعملت على استمراره منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن هذا النظام تنامى "عدم رضى" جهات دولية عديدة عليه، بحيث بات "على واشنطن أن تصغي" إلى مثل هذا النفور، كما يحذر "مركز السلام الأميركي للدراسات" التابع لوزارة الخارجية. فهناك شعور حتى في أوساط النخب ومراكز الأبحاث الأميركية بأن الكيل طفح من الاستئثار، وأن على واشنطن التحرك لتصحيح المسار مع التحذير من تبعات رفض التغيير، ولو أن الغلبة ما زالت للمدرسة التقليدية الديمقراطية والجمهورية التي تشدد على أن هذا النظام "قد عاد بالفائدة الجمّة" على الولايات المتحدة، وبالتالي عليها الدفاع عنه والمحافظة عليه، ولا سيما أنها لا تزال في موقع دولي ممتاز. مثل هذا التشبث بالسائد يطرح السؤال عمّا إذا كانت كتلة "بريكس" محكومة بالمصير نفسه الذي انتهت إليه "حركة عدم الانحياز" في الستينيات، التي لم تقوَ على كسر الهيمنة الدولية في زمن الحرب الباردة؟
كتلة "بريكس" ربما لديها حيثيات تؤخذ على محمل الجدّ. حجمها يتزايد. انضمت إليها في أثناء القمة 6 دول تكتسب العضوية رسمياً بداية 2024. وهناك حوالى 40 دولة أعربت عن نيتها في الانضمام. بذلك، تصبح كتلتها البشرية حوالى نصف سكان المعمورة، 3.5 مليارات نسمة تمثل 40% من الناتج العالمي. أرقام كبيرة من شأنها أن تترك تأثيرها في "سلطة الدولار الاقتصادية" حسب بعض الخبراء، كما في "أهميته كعملة احتياط في العالم". احتمالات تثير القلق في واشنطن، خصوصاً أن المجموعة بدأت بتوفير القروض الدولية من مصرفها "بنك التنمية الجديد"، بالعملة الصينية اليوان. كذلك أعلنت نيتها للإقراض لاحقاً بالعملتين البرازيلية والجنوب أفريقية.
لكن إذا كان القاسم المشترك بين المؤسسين والأعضاء الوافدين هو العمل على استبدال النظام الاقتصادي العالمي الراهن المصمم لخدمة مصالح الغرب، وأن هناك حاجة لنظام جديد، إلا أن الفوارق في المقاربات لتحقيق هذا الغرض، ليست قليلة ولا من السهل تجاوزها، وعلى رأسها مسألة توسيع "بريكس". فالدول الوازنة في الكتلة، مثل البرازيل والهند، تخشى -حسب ما رشح عن المواقف- من أن يؤدي التوسيع إلى تقليص نفوذها وتأثيرها في السياسات الدولية. في المقابل، يعمل القطبان، الصيني والروسي، على تموضع "بريكس" في موقع يكون بمثابة ثقل موازن لمجموعة الدول الصناعية السبع التي تتزعمها واشنطن.
الفارق الثاني المهم "بنيوي"، من شأنه أن يشكل عائقاً تصعب إزاحته، ويتعلق بمسألة القيادة في الكتلة. فالصين يتوقع المراقبون ألّا تتخلى عن هذا الموقع بحكم وزنها وسعيها المبكر لتعبيد الطريق نحو نظام متعدد القطبية، من خلال عدة مبادرات دولية مثل "مبادرة الأمن العالمي" التي أطلقتها قبل سنة، إضافة إلى توسيع دورها الدبلوماسي كوسيط لحل بعض الأزمات الدولية وإنشاء "منظمة شنغهاي للتعاون".
مبادرات تعتبرها الصين بمثابة خطوات تأسيسية لولادة نظام عالمي جديد. بيد أن تصدّر "بريكس" لا بد أن يثير حساسيات هندية وربما عدم تجاوب روسي لرؤية بكين تحتل الموقع الذي تشغله واشنطن في النظام الراهن الذي تعترض عليه موسكو. وقد تردد أن هناك نقطة خلاف أخرى تتمثل بعدم رغبة الهند والبرازيل في أن يتحوّل "بريكس" إلى نوع من القوة "المعادية للغرب". الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، يرى أن المطلوب "ليس رفض الدولار"، بل اعتماد صيغة من شأنها "تسهيل التجارة بين الدول النامية وخفض كلفة عملياتها كما حمايتها، وكذلك حمايتها من التقلبات الدولية ومخاطر التطورات الجيوسياسية في العالم"، من خلال إجراء المبادلات التجارية بالعملات المحلية بدلاً من الدولار. يعني التخلص من التبعية لبلد هذا الأخير.
هذا الحافز هو الذي كان وراء ولادة "حركة عدم الانحياز" التي نشدت آنذاك الابتعاد عن التبعية للعملاقين، وبالتحديد لواشنطن. أنشأت مؤسسات ولجان ومجموعات عمل وأجهزة تنسيق، لكنها بقيت تشكو من فقر التماسك الذي أدى بعد أكثر من عقد على قيامها إلى غيابها عن ساحة الفعل مع غياب قيادتها التاريخية.
كانت ردة فعل على وضع تزايدت في حينه الحاجة للتخلص منه وتوافرت قيادات من العيار الثقيل لترجمة تلك الحاجة. وفي ذلك شبه بالحالة الراهنة، من حيث التوق إلى التحرر من الارتهان لمعادلة معينة. بيد أن المحاولة ترافقها عوائق مشابهة لتلك التي رافقت "عدم الانحياز". فهل تتعامل واشنطن مع هذه التجربة الجديدة على أساس أن مصيرها لن يختلف عمّا آلت إليه "حركة عدم الانحياز"، أم تستبقه بتصحيحات من نوع "لا شيء يبقى على حاله"؟