نور الدين بكيس لـ"العربي الجديد": النظام الجزائري تجاوز صدمة الحراك

نور الدين بكيس لـ"العربي الجديد": النظام الجزائري تجاوز صدمة الحراك

22 فبراير 2021
بكيس: أهم مكسب للحراك هو الوثبة النفسية (العربي الجديد)
+ الخط -

الحراك الثوري انتهى عندما عجز عن التغيير في الأسابيع الأولى

ما ينقص الحراك أطر داخل النظام ومؤسسات خارجه تؤطر التغيير

الحراك حقق مكاسب كثيرة وكشف عن موارد يختزنها المجتمع

اعتبر الباحث الجزائري في علم الاجتماع السياسي نور الدين بكيس، في مقابلة مع "العربي الجديد"، أن النظام في الجزائر تجاوز مرحلة صدمة الحراك، الذي استطاع، في المقابل، أن يُعرف الجزائريين على حقيقة النظام وحقيقة الموارد التي يختزنها المجتمع.

*أين يقف الجزائريون الآن بعد عامين من الحراك، في بداية التغيير أم في منتصف ثورة، أم في مربع اللامنجز؟
شخصياً لا أرى ما حدث إلى حد الآن في الجزائر يرتقي إلى مستوى ثورة، بل هو أقرب لهبّة شعبية طالبت بالتغيير. فالمنطق الإصلاحي، رغم الشعارات الثورية، هو الأقرب لطبيعة التدافع الحاصل. فلسنا في مسار ثوري لأننا ببساطة لسنا أمام إمكانية إحداث تغيير جذري. كما أنه لا يمكن الحديث عن وجودنا في مربع اللامنجز، لأننا ابتعدنا كثيراً عن مرحلة ما قبل انطلاق الحراك. ويكفي ما أنجزه الحراك من انهيار للواجهة السياسية والمدنية للنظام، وتعطيله إعادة بناء قاعدة سياسية ومجتمعية تسمح باستقراره من جديد.

الحراك لم يكن أمام النظام الذي يقتل والشارع لم ينجر إلى الصدام

كما أنه استطاع تفريغ أعداد هائلة من الطاقات الشبابية المؤهّلة لخوض التدافع السياسي والمجتمعي مع قاعدة النظام. واستطاع بعث ديناميكية التغيير، كوثبة نفسية جماعية تأسّست في أول الأمر في شكل اندفاع جماهيري يطالب بالتغيير، سرعان ما تراجعت لأشكالها الطبيعية المعقولة، التي تتماشى مع طبيعة سياق ما قبل الحراك، الذي اتسم بالاستقالة وتدجين كل الفضاءات وتشويه الفعل السياسي. ومن هنا يمكننا القول إنّنا قطعنا شوطاً مهماً للتغيير، يساعد على إنتاج بيئة منتجة له مستقبلاً، أكثر من تفعيله للتغيير في حد ذاته.

*شهدنا خلال العامين الماضيين انتخابات رئاسية واستفتاء على دستور جديد. هل تعتقد أن النظام نجح في إعادة التشكّل وتجاوز الهزة التي تعرّض لها خلال الحراك الشعبي؟
أكيد أن النظام قد تجاوز مرحلة الصدمة، وهو الآن جاهز لكل الاحتمالات، بعد أن جمع كل المعلومات الضرورية عن طبيعة الحراك وتوزيعه الجغرافي والفاعلين فيه، ونوعية تأثيرهم وطريقة تعبئته، والنواة الصلبة لتلك التعبئة ولترشيد الحراك. إن نجاح النظام نسبي بحسب الأهداف المُسطرة، فإذا كان هدفه البقاء مهما كانت الطريقة فقد تحقّق له ذلك، وقد تجاوز لحظة الاندفاع الجماهيري والتعبئة الشاملة، خصوصاً أنه من الصعب جداً إعادة إنتاج، في المستقبل القريب والمتوسط، هذا النوع من التعبئة، وبالتالي تحقّق بقاء النظام، وأصبح الجميع، سواء اعترف بذلك أو لم يعترف، يتحرّك داخل أجندته. فالنظام صار يصنع الواقع. والقوى المعارضة لم تعد قادرة على المبادرة، لأن النظام استأثر بأدوات التغيير وفاز منذ البداية بمعركة الأدوات وآخرها رفع تكلفة الخروج للشارع، بعدما كانت منعدمة كلية. أما تحقيق بقائه بالإقناع فهو صعب المنال، ولا يملك إلى حد الآن أدواته وحججه، ومن الصعب عليه تحقيق منجز يُذكر في هذا المجال، من دون تقديم تنازلات حقيقيّة قد تتحوّل إلى تهديد لبقائه، مثل انفتاح سياسي حقيقي أو انتخابات حرّة نزيهة ومكافحة جادة للفساد... إلخ. وبالتالي فهو في منتصف الطريق، حقّق البقاء دون ضمان الاستقرار، وهذا ما يشكّل ورقة مساومة لقوى التغيير ضدّه.

*بعد عامين من طوفان الشارع في الجزائر، ثورة بلا قائد ولا محتوى سياسي. من باب التقييم، برأيك ما هي الأخطاء التي ارتكبها الحراك الشعبي؟
لا يمكن أن نتحدّث عن أخطاء، لأن السؤال الحقيقي هو: هل كان من الممكن تحقيق أكثر مما كان؟ أعتقد أنّ ما قبل الحراك صنع سياق ما بعده، فلم تتوفّر للجزائريين مؤسسات وأطر من داخل النظام أو خارجه لتستوعب موجة التغيير وتؤطرها. فلا يمكننا تصوّر شارع عانى لعقود من الزمن من كل أنواع التدجين والتتفيه والتسويف أن ينتج مسار تغيير مؤسساتي، أو استراتيجي، يحمل رؤية واضحة. فيكفي أنّ أزمة الثقة الخانقة والمعطّلة القائمة بين الشعب والسلطة طاولت جسم كتلة التغيير. فبعد مرحلة الاندفاع العاطفي والانبهار بقوة وضخامة الحراك، عاد التوجّس والحيطة والحذر من جديد بين أوساط الفاعلين ونشطاء الحراك، ليشوّش ثمّ يعطل بناء أي مسار تشاركي تأسيسي للحراك. وظهر التشكيك والتخوين والتحفّظ داخل مسيرات الحراك، خصوصاً في المدن الكبرى، وعلى رأسها العاصمة، وانقسمت المسيرات إلى مربعات تعبّر عن عدم الثقة في الآخر أكثر من اعتمادها كآليات تنظيمية. باختصار الشارع يبقى شارعاً، ولا يمكن أن يتحوّل إلى فضاء بناء، بل يبقى دائماً فضاء تعبير عن اعتراض يتوافق مع استراتيجيات التعطيل وليس البناء.

*في المقابل، ما هي المكاسب التي حقّقها الحراك بعد عامين من الاحتجاج المختلف الأشكال، وما أهميتها على صعيد التغيير؟
في الحقيقة، المكاسب كثيرة ولا يسع المجال لذكرها كلها. إلا أن أهم مكسب هو الوثبة النفسية والخروج المتفاوت من الاستقالة والإقدام على التدافع مع السلطة، لأن التغيير هو مسألة قرار، ثم إرادة تعمل على تغيير الواقع، عوض الاستسلام من دون مقاومة. والأكيد أنّ من أهم نتائج الحراك انكشاف الواقع الجزائري، وتعرّف الجزائريين على حقيقة النظام وحقيقة الموارد التي يختزنها المجتمع. وبالتالي بفضل الحراك، الصورة أوضح بالنسبة لمن يريد التأسيس لمشاريع التغيير. فبعد الأشهر الأولى لانطلاقه تلاشى الانطباع العاطفي المزيّف عن تضخيم ضعف النظام وتضخيم قوة الشارع، ليأخذ التدافع مساره العقلاني والطبيعي. لسنا أمام نفس ممارسات النظام السابق الذي قتل عشرات الآلاف عند أول تهديد فعلي لاستمراريته، ولا أمام الشارع المندفع الذي يمكن جرّه بسهولة إلى الصدام وتأزيم الأوضاع، فنحن أمام محاولة تشكّل تجربة منقّحة للربيع العربي استفاد منها الطرفان، أي النظام والجماهير المطالبة بالتغيير. ومن هنا يمكن أن نعدّد الكثير من المكاسب، أقلّها تراجع الشعور بالخوف وتشرّب جزء كبير من الجماهير لقدر هائل من التنشئة السياسية في ظرف وجيز. لكن يبقى أهم انشغال، هو هل يمكن استثمار المكتسبات في مشروع أو مشاريع عملية استراتيجية للتغيير، أم أنّ مكتسبات الحراك الحالية ستبقى منجزاً خاماً غير قابل للاستثمار وأحياناً تتحوّل إلى منجز رادع ومعطّل للتغيير؟

القوى المعارضة لم تعد قادرة على المبادرة، لأن النظام استأثر بأدوات التغيير

*برأيك، لماذا لم يتحوّل الحراك إلى منتظم سياسي ومدني، ولم يتهيكل بشكل واضح؟ هل بسبب معوقات سلطوية أم بسبب قصور في الرؤية السياسية لدى مكونات ونخب الحراك؟
المواطن منتوج اجتماعي، والنظام السياسي الفاسد لا بد له من اعتماد منظومة تسيير سيّئة، تعمل على إضعاف أيّ بديل محتمل ليضمن الاستمرار. وبالتالي اعتراف جزء من النخب الحاكمة بأنّ الجزائر كانت تُسيّر لعشرات السنين من قبل عصابة، لا بد أن يزرع بين المواطنين ثقافة العصابة. لذلك من غير المنطقي تصوّر قدرة مجتمع تشرّب الفساد حتى تحوّل إلى حاجة مجتمعية لتسيير اليوميات، على إحداث القطيعة مع تلك الممارسات، وخصوصاً الذهنيات، بمجرد التعبير عن الرغبة في التغيير من خلال الممارسات. وبالتالي كان من الطبيعي أن نشهد تنافراً وتضاداً واستعداء وتخويناً وحذراً وتشكيكاً كموروث طبيعي لمسار كامل من التسيّب والخديعة والفساد، يعطّل إمكانية تحوّل الحراك إلى منتظم سياسي ومدني، إلّا إذا قامت النخب الحاكمة ببعث مسار تغيير جديّ يتحوّل إلى آلية لتأطير الحراك. وهذا ما لم يحدث، وأصلاً لا يمكن تصوّر حدوثه من قبل أي نظام، إذا كان يستشعر أنّ هذا الانفتاح قد يؤدّي في الغالب إلى تغيير جذري له. وبناء عليه، فإن التأزيم البنيوي لمَأسسة الحراك، كتعبير عن الرغبة في التغيير وتحويله إلى مشروع مؤسساتي للتغيير، من الصعب جداً تحققه، والرهان الحقيقي هو القدرة على تجاوز كل هذه العوائق وغيرها، لبعث أطر ممثّلة لوثبة الحراك.

*العديد من الشعارات كانت طاغية في الحراك الشعبي، سواء في الشارع أو في الفضاءات الأخرى، أبرزها شعار "تروحو قاع"، (ارحلوا جميعاً). كيف تنظر إلى هذا الشعار، وإلى أي حد هو عدمي وإلى أي حد واقعي؟
أثناء الهبّات الشعبية، الشعارات لا تكون بالضرورة تعبيراً عن المطالب الفعلية. وتكرار ترديد الشعارات لا يعني بالضرورة ترتيباً من حيث الأولويّات. فمثلا قد تركّز الجماهير على شعارات معينة بسبب نغمة ترديدها جميل، وتساعد على التفاعل الجسدي، ما يضفي حيوية ونشاطاً يخلق جواً من البهجة أثناء المسيرات. ولكن عموماً، يغلب على الشعارات الطابع العدمي، لأنها تعبير عن حالة استياء وردة فعل لجماهير تشكو من مرارة الخيانة والتلاعب بمستقبل أمة بكاملها، وقياساً على ذلك لا تهمّ راديكالية الشعارات، إلا إذا تجسّدت في ممارسات تمنع وتعطّل عملية التقدّم في المطالبة، وتفعيل مقدمات حوار جاد. لذلك عندما يتحوّل مثلاً شعار "يتنحاو قاع" إلى تجسيد عملي لمنع أي اقتراب من السلطة، يصبح عائقاً وتهديداً لنجاح الحراك، وقد تجسد ذلك من خلال تخوين كل من يقترب من السلطة، وبالتالي تحدث قطيعة تمنع أي إمكانية للتوافق على مسار. ومع ذلك، الأصل في الاحتجاجات أن تتبنّى شعارات راديكالية لرفع سقف الضغط على السلطة، على أن تتكفّل النخب الناشطة في الحراك بتحويل هذا الاعتراض إلى مسار تغييري يخدم مطالبه. وهذه هي الحلقة المفقودة في تسييره، لأن النخب لم تتمتّع بالشجاعة الكافية لتجاوز دكتاتورية الشارع، وأحياناً بالنضج السياسي المطلوب للتّموقع كمفاوض قادر على استيعاب موجة الحراك وتحويلها إلى ورقة تفاوض عمليّة مع سلطة تعوّدت على إدارة الاحتجاجات.

نحن أمام محاولة تشكّل تجربة منقّحة للربيع العربي استفاد منها الطرفان، أي النظام والجماهير المطالبة بالتغيير

*حدثت، خلال مسار الحراك، انقسامات كبيرة في الشارع، وهي مستمرة حتى الآن. هل يمكن القول إنّ هذه الانقسامات يمكن أن تحد من الفاعلية السياسية للحراك أو تنهيه سياسياً وشعبياً؟
هذا يرتبط بمفهومنا للحراك. فإذا اعتبرنا الحراك فعلاً ثورياً تقليدياً، فقد انتهى منذ مدة، عندما عجز عن إحداث تغيير جذري في أسابيعه الأولى، التي تمثّل مرحلة الصدمة بالنسبة للنظام، أما إذا تحدّثنا عن الحراك ككتلة اعتراض ضاغطة على السلطة فهو باقٍ ولكن بمستويات أضعف عدديّاً وجغرافيّاً وحتى مطلبياً. فقد يتحوّل إلى تعبير عن كل الحركات الاحتجاجية السياسية والسوسيواقتصادية التي تشهدها الجزائر، كما حصل بالنسبة لاحتجاجات ورقلة والأغواط جنوبي الجزائر واحتجاجات الطلبة، ما يحوّله إلى عنوان لكل أشكال الاعتراض ويفقد تدريجياً هويته الثورية لصالح تقاطع حركات احتجاجية فئوية في الغالب، مع الإبقاء على بعض الاحتجاجات التي تحاول أن تطرح نفسها كامتداد للحراك الأصلي، مثل احتجاجات تخليد ذكرى انطلاقة الحراك، فيتحوّل إلى مرجعية أخلاقية تأخذ شكل ضمير مؤنّب للسلطة وشريحة معتبرة من الشعب، بحيث يُشعر السلطة بشكل مستمر بفسادها وتهرّبها من فتح مسار حقيقي للتغيير من جهة، ومن جهة أخرى يُشعر جزء معتبر من الشعب بعجزه عن إحداث التغيير المنشود، بسبب توقّفه عن التدافع مع السلطة رغم اعترافه بالتّأزيم.

نبذة عن بكيس
يعد الباحث نور الدين بكيس أحد أبرز الأكاديميين العاملين في حقل علم الاجتماع السياسي. وبرز بشكل لافت خلال فترة الحراك الشعبي عبر مجموعة من الدراسات والتحاليل الاستباقية التي تفصّل في تفاعلات المجتمع السياسي وأدوات الإصلاح ومقاربات مهمة عن علاقة السلطة بالشارع. وهو صاحب نظرية "دكتاتورية الشارع" التي يحذر فيها من تغول الطرح الشعبوي على طروحات النخب. يشتغل نور الدين بكيس على مشروع متكامل، وأصدر أربعة كتب هي "كيف تصبح مواطناً صالحاً في الجزائر"، و"كيف تصبح مواطناً سيئاً في الجزائر"، و"صناعة الغضب والعدوانية" و"الحراك الشعبي الجزائري، نسخة منقحة من ثورات الربيع العربي"، وأخيراً كتاب "من أين نبدأ التغيير".