تنهش المقاومة في غزة ومدن فلسطينية محتلة ظهر وبطن وكل جانب في جسم الاحتلال ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. يتأسس فعلها ذلك على قاعدة استحقاقات التحرير وتركيز الوجود ورفض محاولات التصفية والتسوية على حساب الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.
لكن هناك من ينهش ظهر المقاومة في غزة والضفة بدون توقف ولا خجل حتى، وكل نهش لظهر المقاومة هو لا محالة اصطفاف مع العدو. بعض رموز السلطة الفلسطينية المربوطة أرجلها إلى طاولة أوسلو وخياراته المدمرة، لا تتأخر عن نهش المقاومة كلما وجدت إلى ذلك الفرصة أو السبيل والمكان المناسب لإلقاء دروس السياسة والمواعظ الوطنية على أسماع المقاومة، وبعضها اختار منابر عربية هي أكثر تلهفاً للقضاء على المقاومة وهزيمتها من الإسرائيلي نفسه.
ليس خافياً أن الواقع الفلسطيني على المستوى السياسي وترابط الديمغرافيا الداخلية بالغ التعقيد ومتشابك بشكل لا يجعل فهم تفاصيله أمراً سهلاً، لكن اللحظة الراهنة التي يشن فيها الكيان حرب إبادة ضد الشعب والمقدسات والوجود الفلسطيني، ويتغول فيها الاحتلال لنسف كل مقومات الحياة للفلسطينيين، سواء في غزة أو في الضفة أو في القدس والمدن المحتلة، ليست الوقت المناسب تماماً لتعبيرات الرأي والرأي الآخر، وهذا الواقع الفلسطيني بكل استحقاقاته المؤلمة من جانب والنضالية من جانب آخر، ليس مطروحاً للمناظرة وجدل المواقف.
هناك احتلال، وهناك مقاومة مهما كانت عناوينها السياسية والشعبية. بينهما لا توجد مساحة رمادية، وليس متاحاً فيها "وجهات نظر" سياسية من شأنها أن تعطي للعدو فرصة مناورة أكبر، لأن اللحظة الثورية في كل التجارب التي شهدها التاريخ السياسي الحديث لا تقبل القسمة على ثلاثة، ولذلك وُجد أن ثورة الجزائر على سبيل الاستفادة، كانت تعتبر أن كل طرف جزائري يطرح وجهة نظر مداهنة للاستعمار الفرنسي خارج خيار المقاومة مصطف مع الاستعمار.
في الحالة الفلسطينية، هناك فرق بين من يقاتل ميدانياً وسياسياً على حقيقة وحقائق واضحة لم يعد فيها لبس، ومن يقاتل على أوهام أوسلو التي لم يلتزم بها الإسرائيلي مطلقاً ولم يعد مقتنعاً بها حتى، وساسته أعلنوا أكثر من مرة دفن أوسلو. لا يُعرف ما إذا كانت بعض قيادات ورموز السلطة الفلسطينية بحاجة إلى رسالة أكثر وضوحاً في هذا الشأن من تلك التي أعلنها رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو، عندما قال إنه "لا فرق بين السلطة وحماس، الفرق بينهما فقط أن حماس تريد قتلنا فوراً والسلطة الفلسطينية على مراحل".
يعني هذا أن الإسرائيلي لم يعد يقبل بقيادات السلطة نفسها كشريك سياسي، محمود عباس وجبريل الرجوب وحسين الشيخ وغيرهم، وهو لا ينظر إلا من زاوية واحدة إلى الكل الفلسطيني ككل، بغضّ النظر عن الفصائل والمرجعيات، بحيث لا يُفرق بين المقاومة في غزة والسلطة في الضفة، ولا بين الفلسطيني في القدس أو في رام الله: كلّهم بالنسبة إليه كابوس ومصيرهم واحد.