ناغورنو كاراباخ: اتفاق سلام بطعم الاستسلام

ناغورنو كاراباخ: اتفاق سلام بطعم الاستسلام

11 نوفمبر 2020
غضب في أرمينيا بعد توقيع الاتفاق الثلاثي (Getty)
+ الخط -

بعد أكثر من 40 يوماً على المعارك بين أرمينيا وأذربيجان في إقليم ناغورنو كاراباخ والمناطق المحيطة به، أعلن الكرملين "خروج الدخان الأبيض" والتوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار بين البلدين. اتفاق يكرّس تقدم الجيش الأذري عسكرياً، ويتضمن خطوات زمنية محددة لانسحاب أرمينيا من سبع مناطق أذرية محتلة منذ عام 1994، ونشر قوات روسية لحفظ السلام لتأمين ممر يربط ستيباناكيرت، عاصمة الإقليم مع الأراضي الأذرية، بالإضافة إلى ضمان التواصل بين منطقة ناخيتشيفان، وهي جيب أذري داخل الأراضي الأرمينية، مع كامل أذربيجان. وفي حين عمت الأفراح في باكو احتفالاً بالاتفاق و"إجبار أرمينيا على الاستسلام وفق الشروط الأذرية"، تنذر الأوضاع في يريفان بثورة غضب عارمة ضد الحكومة. ومع تأكيد روسيا على عدم مشاركة فرنسا والولايات المتحدة في الاتفاق الحالي، فإنها لم تستبعد نشر نقاط عسكرية تركية للإشراف على وقف إطلاق النار داخل الأراضي الأذرية، رغم تشديدها على أن القوات الروسية هي الوحيدة المخولة بحفظ السلام على ممر لاشين الواصل بين ناغورنو كاراباخ وأرمينيا.


باشينيان: وقّعنا اتفاقاً مؤلماً والجيش ضغط لوقف الحرب

وأعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كلمة عبر الفيديو مساء الإثنين ـ الثلاثاء، أنه وقع مع نظيره الأذري إلهام علييف ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان إعلاناً مشتركاً لوقف إطلاق النار اعتباراً من منتصف الليل نفسه حسب توقيت موسكو. وكشف أن الاتفاق نصّ على توقف القوات الأرمينية والأذرية عند مواقعها الحالية، وانتشار قوات حفظ السلام الروسية على امتداد خط التماس في ناغورنو كاراباخ والممر الواصل بين الإقليم وأراضي أرمينيا. وأعرب بوتين عن أمله في أن يسمح الاتفاق بتسوية النزاع على أساس عادل وبما يخدم مصالح الشعبين الأذري والأرمني، مشيراً إلى أن موسكو تنطلق من أن الاتفاق "سيوفر الظروف الضرورية لتسوية شاملة ومستدامة للنزاع في كاراباخ". وحسب وكالات الأنباء الروسية، فإن الاتفاق يتضمن تسعة بنود أولها وقف إطلاق النار عند خطوط التماس الحالية، وإعادة منطقة أغدام وأراضي جمهورية أذربيجان التي تحتلها أرمينيا إلى الجانب الأذري بحلول 20 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي. وبوشر نشر قوة روسية قوامها 1960 عسكرياً و90 ناقلة جند مدرعة و380 آلية ومعدات متخصصة، على طول "خط التماس" لحفظ السلام على طول الخط الفاصل بين ناغورنو كاراباخ وممر لاشين، بالتوازي مع انسحاب القوة العسكرية الأرمينية. ونصّ الاتفاق على استمرار مهمة قوات السلام الروسية لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد بموافقة الطرفين. وبموجب الاتفاق أيضاً يجب على أرمينيا إعادة مقاطعة كيلباجارسكي الأذرية المحتلة بحلول يوم الأحد المقبل، ومنطقة ممر لاشين بحلول 1 ديسمبر/كانون الأول المقبل. وأكد الاتفاق على ضرورة عودة جميع النازحين واللاجئين إلى إقليم ناغورنو كاراباخ، بإشراف المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إضافة إلى إلغاء الحظر المفروض على جميع الروابط الاقتصادية والنقل في المنطقة. وتعهّدت أرمينيا بضمان النقل بين المناطق الغربية لأذربيجان وجمهورية ناخيتشيفان ذات الغالبية الأذرية المحاطة بالأراضي الأرمينية، مع السماح ببناء خطوط نقل جديدة بين المنطقتين. وسيخضع التنفيذ لمراقبة حرس الحدود الروسي. وفي حين أكدت أذربيجان أن قوات تركية سوف تكون في عداد قوات حفظ السلام، نفت موسكو وجود أي بند يتضمن ذلك. وقالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في تصريحات لإذاعة "إيخو موسكفا": "نحن نتحدث عن قوات حفظ السلام التابعة لروسيا. وعندما سيتم نشر نص البيان، لن يكون لدى أحد أي شك، أود أن ألفت الانتباه مرة أخرى إلى حديث الرئيس الروسي عن قوات حفظ السلام الروسية في المنطقة على طول خط التماس في ناغورنو كاراباخ".

من جانبه أكد المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أن قوات السلام المنتشرة في منطقة ممر لاشين ستكون روسية، وحول وجود قوات تركية، نوّه إلى أن الحديث يدور عن "إنشاء مركز على الأراضي الأذرية لمراقبة شروط وقف إطلاق النار". وشدّد على أن هذه القوات ستنتشر في أذربيجان، مضيفاً "ستكون تفاصيل نشر مركز المراقبة المشترك موضوع اتفاق منفصل". وحسب التسريبات، ينصّ البند الخامس من الاتفاق على أنه "من أجل زيادة فعالية الرقابة على تنفيذ الاتفاقات من قبل أطراف النزاع، سيتم إنشاء مركز سلام لرصد وقف إطلاق النار".

شوشة نقطة التحول مرة أخرى

وجاء الاتفاق الثلاثي بعد ساعات على إعلان علييف سيطرة الجيش الأذري على 23 قرية تقع في ست محافظات تحيط بإقليم ناغورنو كاراباخ، بعد يوم على إعلانه السيطرة على مدينة شوشة الاستراتيجية في الإقليم. وكما في الحرب السابقة (1988 ـ 1994)، شكّل انتزاع شوشة انتصاراً كبيراً لأذربيجان بعد ستة أسابيع من المعارك، فالمدينة تقع على رأس تلة على بعد 15 كيلومتراً فقط عن ستيباناكيرت، عاصمة الإقليم، وعلى طريق رئيسي يربط الجمهورية غير المعترف بها دولياً بأرمينيا، الداعمة للانفصاليين الذين يقاتلون من أجل انفصال الإقليم واستقلاله. وللمدينة قيمة رمزية بالنسبة للأذريين الذين يعتبرونها قلب ناغورنو كاراباخ الثقافي، وكانوا يشكّلون معظم سكانها حتى أواخر الثمانينيات، مع وجود أقلية أرمينية. وفي الأيام الأخيرة، تحدث المعسكران عن معارك عنيفة في محيط شوشة، في وقت سيطرت أذربيجان على أجزاء مهمة من أراضي كاراباخ خصوصاً في الجنوب. ويوم الأحد قال علييف في خطاب تلفزيوني: "بكثير من الفخر والسعادة، أبلغكم بأنه تم تحرير مدينة شوشة"، معتبراً أن 8 نوفمبر "سيدخل التاريخ بالنسبة للشعب الأذري"، باعتباره اليوم الذي "عدنا فيه إلى شوشة". وتابع: "مسيرتنا للتحرير مستمرة"، و"سنمضي حتى النهاية، حتى التحرير الكامل لكافة الأراضي المحتلة". ورأى مراقبون حينها أن الخطاب شكل إعلاناً للنصر تبعته احتفالات في جميع المدن الأذرية. ومعلوم أن أذربيجان خسرت شوشة في 9 مايو/أيار 1992، وحينها شكلت نقطة انعطاف مهمة في الحرب، مع فقدان باكو نتيجتها آخر معاقلها في الإقليم. وأدى سقوط المدينة إلى ظهور نظريات المؤامرة المختلفة في أذربيجان، وأشعل الصراعات السياسية في باكو. وفي نهاية 1993 اعتقل وزير الدفاع الأذري السابق رحيم غازييف، بتهمة "الخيانة العظمى" وتسليم شوشة. وتم القبض على رئيس الأركان العامة اللواء شاهين موساييف، بالتهمة نفسها. وكان الاستيلاء على المدينة أول انتصار عسكري كبير لتشكيلات ناغورنو كاراباخ خلال الحرب، وهزيمة خطيرة للجيش الأذري، وتمكن سكان ستيباناكيرت من الخروج من الأقبية، بعد توقف القصف المكثف. وبعد 10 أيام، سيطرت قوات ناغورنو كاراباخ على لاشين، وربطت الإقليم بأرمينيا.

الاستقالة هي أقل شيء يجب على باشينيان فعله

وأدى الهجوم على شوشة في ذلك الوقت، إلى إحباط جهود الوساطة الإيرانية في النزاع، وتفجّر فضيحة دبلوماسية كبرى. فالهجوم تم أثناء اجتماع بين الرئيس الأرميني ليفون تيربيتروسيان والرئيس الأذري ياغوب مامادوف في طهران، وتوقيعهما على مذكرة تفاهم حول مبادئ وأسس التسوية السلمية للنزاع. وعلم مامادوف بالهجوم فور نزوله من سلم الطائرة العائدة من طهران. وفي 14-15 مايو 1992، حصل انقلاب في أذربيجان. واستولت التشكيلات المسلحة للجبهة الشعبية المعارضة على المباني الحكومية وأعلنت الاستيلاء على السلطة. واستقال رئيس الجمهورية حينها أياز مطاليبوف، وبعد تهديدات المعارضة غادر البلاد، التي وصلت إلى حافة حرب أهلية، لم يخمدها غير عودة القيادي الشيوعي حيدر علييف وقيادة البلاد في 1993 لعدة سنوات قبل نقل السلطة لابنه إلهام.

غليان في يريفان

وفور إعلان الاتفاق الأخير، بدأ الأرمن الغاضبون التجمع في وسط يريفان احتجاجاً على ما وصفوه "خيانة باشينيان". واقتحم مئات المتظاهرين مبنى الحكومة الأرمينية. كما توجه بعض المتظاهرين إلى منزل باشينيان، بينما ظل آخرون في مبنى الحكومة. ولم تُهدئ كلمات باشينيان غضب المحتجين بقوله إنه وقّع اتفاقاً "مؤلماً" مع كلّ من أذربيجان وروسيا لإنهاء الحرب في الإقليم المتنازع عليه، ووصفه الخطوة بأنّها "مؤلمة بشكل لا يوصف، لي شخصياً كما لشعبنا". وبررها بأنها جاءت "بعد تحليل معمّق للوضع العسكري"، في إشارة إلى التقدّم الذي حقّقته القوات الأذرية على مدى الأسابيع الستّة الماضية، مشدّداً على أنّ هذا الاتّفاق هو "أفضل الحلول المتاحة في الوضع الراهن". وسعى باشينيان إلى الحدّ من الغضب، فقال في رسالة عبر الفيديو: "لن نعترف أبداً بالهزيمة، ويجب أن تكون هذه بداية وحدتنا الوطنية وولادة جديدة. أحني ركبتي أمام كل ضحايانا. أحني رأسي أمام كل العسكريين والضباط والجنرالات والمتطوعين الذين دافعوا وذادوا عن وطنهم بحياتهم. لقد أنقذوا أرمن أرتساخ (اسم الجمهورية التي أعلنها الانفصاليون الأرمن في ناغورنو كاراباخ من طرف واحد) بنكران الذات. لقد قاتلنا حتى النهاية، وسوف نفوز. عاشت أرمينيا، عاشت أرتساخ". وقال إن "الجيش (الأرميني) أصرّ على وقف القتال". في المقابل، ذكرت النائبة من حزب "أرمينيا المزدهرة" المعارض، إيفيتا تونويان، أن المعارضة تطالب باستقالة باشينيان. وأشارت في تصريحات لوكالة "سبوتنيك أرمينيا"، إلى أنه "كُتبت اليوم أكثر الصفحات المخزية في تاريخنا. قبل ساعات طالب برلمان الشعب وعدد من الأحزاب باستقالة رئيس الوزراء. بعد كل هذا، الاستقالة هي أقل شيء يجب على باشينيان فعله". وانتقدت قراره الذي اتخذه "سراً ومن دون إعلام الرأي العام وبجرة قلم تقرر نقل الأرض". أما الرئيس سيرج سركيسيان، فكشف أنه لم يتم التشاور معه من قبل رئيس الوزراء قبل توقيع الاتفاق. ومن الواضح أن التطورات في أرمينيا تتسارع وتشي بثورة على باشينيان قد تنهي حكمه بعد ثورة مخملية في عام 2018.

معسكر الفائزين

فور الإعلان عن الاتفاق، قال علييف في خطاب عبر التلفزيون "لقد أجبرنا رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان على توقيع الوثيقة، إنها وثيقة استسلام". وأضاف: "لقد قلت إننا سنطردهم، وفعلنا". وبعد تهنئة مواطنيه بـ"الحدث التاريخي"، أكد علييف أن "الصراع الذي طال أمده بين أرمينيا وأذربيجان قد انتهى اليوم، وأن احتلال الأراضي الأذرية على وشك الانتهاء. وبالاتفاق على المواقف المهمة، توصلنا إلى تسوية للصراع، برأيي، تستجيب لمصالح الشعبين الأذري والأرميني وكذلك المنطقة". وشكر علييف روسيا على دورها في حل الصراع، ولم ينس توجيه الشكر للرئيس التركي رجب طيب أردوغان على دوره، موضحاً أنه في "إحدى نقاط بيان اليوم هي مهمة حفظ السلام المشتركة بين روسيا وتركيا. وبالتالي، فإننا نخلق شكلاً جديداً للتفاعل في المنطقة، ليس فقط من ناحية حل النزاعات، ولكن أيضاً من أجل التنمية المستقبلية. وإحدى نقاط الاتفاق هي إنهاء قطع الروابط الاقتصادية والنقل في المنطقة، والتي ستكون مفيدة لجميع دول المنطقة".


ستنتشر قوات روسية بين أذربيجان وأرمينيا وفي معبر لاشين

وقد أثبتت روسيا مجدداً أنها الطرف الأكثر تأثيراً في المعادلة، ولكنها قد تصاب بنكسة في حال صعود نخب ذات توجهات غربية في يريفان في حال سقوط باشينيان، مع تزايد الغضب الشعبي من مواقف الكرملين، الذي لم ينقذ أرمينيا، ما ساهم في توقيعها على اتفاق "مؤلم". وفي هذا الوضع، فإن موقف موسكو سيكون صعباً، خصوصاً أن خبراء كثرا يرون أن أرمينيا خسرت الحرب عقاباً على "ثورة باشينيان الملونة". في المقابل، يبدو أن تركيا التي سارعت إلى تهنئة أذربيجان على "النصر"، هي من أهم الرابحين بعدما ضمن لها أحد البنود وجوداً عسكرياً لمراقبة الوضع من داخل أراضي أذربيجان، كما أعلنت أنها رقم لا يمكن تجاوزه في القوقاز. ومن الواضح أن انعكاسات الهزيمة بالنسبة لأرمينيا ستفتح الباب على تغيرات كبيرة في المشهد السياسي، لكنها لن تؤدي إلى جولة جديدة من المعارك، بعدما ثبت ضعف الجيش الأرميني عدة وعتاداً، وعدم رغبة روسيا في مساندة أرمينيا. بدوره، غرّد وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو على "تويتر"، معتبراً أن "أذربيجان الشقيقة حققت مكسباً مهماً على أرض المعركة وعلى الطاولة. أتقدم بالتهنئة الصادقة على هذا النجاح المقدس". وأضاف "سنبقى أمة واحدة وروحاً واحدة مع إخواننا الأذريين". ورحّب الرئيس الإيراني، حسن روحاني بالاتفاق، معرباً عن استعداد إيران "للمساعدة في استقرار قوات روسيا لحفظ السلام على امتداد خطوط التماس، وفقاً للبندين الثالث والرابع من الاتفاق".