ناعور الأردنية... العشيرة تنافس الدولة

ناعور الأردنية... العشيرة تنافس الدولة

09 يونيو 2021
استخدم الأمن قنابل الغاز ضد مناصري العجارمة (خليل مزرعاوي/فرانس برس)
+ الخط -

لطالما كانت منطقة ناعور، جنوب غربي العاصمة الأردنية، منطقة هادئة. إذ لم تشهد سابقاً عصياناً على الدولة، ومعظم ما كان يسجّل فيها أحياناً مشاجرات عشائرية بسيطة، كما باقي مناطق الأردن سرعان ما تنتهي، لكنها لا تحمل بعداً أمنياً أو سياسياً، باستثناء مقتل الشيخ صايل الشهوان، في العام 1923، بعد هجومه على مدرعة للإنكليز بحربة وبندقية قديمة، وقد قتل معه الكثير من الفرسان في هذه المعركة، وذلك بعد تأسيس إمارة شرق الأردن بعامين.
وحتى الأمس القريب كان جلّ ما يخطر في بال الأردنيين عند ورود اسمها أنها منطقة جذب سياحي، بسبب موقعها المميز، لكونها نافذة على البحر الميت والأغوار، فضلاً عن كونها تُطل على مرتفعات مدينة القدس المحتلة ومرتفعات فلسطين. كما أن للمنطقة إرث تاريخي وعسكري لا يخفى على أحد في الأردن، إذ كان لها الأثر المميز في الدفاع عن فلسطين في حربي 1948 و1967، وكانت معبراً للقوات المسلحة الأردنية في معركة الكرامة. كما كانت ناعور من المعسكرات المتقدمة للجيوش الإسلامية، ومن المعابر العسكرية إلى فلسطين، حيث تكثر على مرتفعاتها القلاع والحصون القديمة، ومعاصر الزيتون والآبار والمغاور الأثرية. كما أن بها خرائب قديمة أثرية، يعود بعضها إلى عهد الهكسوس الرعاة، وعهود العمونيين والمؤابيين، وبعضها إلى عهد اليونان والرومان والعهود الإسلامية المختلفة.

أعادت الأحداث طرح تساؤلات عدة حول إدارة الأزمة، من جهة العجارمة والدولة

وإذا كان عدد سكان المنطقة اليوم يقارب الـ130 ألف نسمة، فإن عمرانها بشكل واضح ومنظم بدأ في العام 1901، بعد أن حلت بها نحو 50 عائلة شركسية مهجرة من شمال القوقاز من عشائر الأبزاخ والشابسوغ والبزادوغ والقبردي، وقد قام الموظفون العثمانيون بتخطيط البلدة على نحو هندسي جيد. وبعد ازدهارها أصبحت منطقة جذب سكانية، ساعدت على استقرار العشائر البدوية، خصوصاً العجارمة، فيها وبجوارها. كما جذبت إليها عدداً من سكان السلط من عشيرة الدبابنة، الذين يدينون بالمسيحية لاستيطانها، فأسسوا حياً خاصاً بهم في الجهة الجنوبية الغربية من البلدة، كما سكن بعضهم في حي العفيشات العجارمة في الجهة الغربية من البلدة. كذلك سكنت غربي البلدة عشيرة الرمامنه. ونزلت فيها عائلات كثيرة من الفلسطينيين بعد نكبة عام 1948، وبعد حرب يونيو/حزيران 1967.
لكن منذ الأسبوع الماضي، حضرت ناعور بقوة في المشهد السياسي والأمني الأردني، بعد المواجهات التي شهدتها المنطقة بين القوات الأمنية وأنصار النائب المفصول أسامة العجارمة، وسمعت خلالها أصوات العيارات النارية، واستخدمت قوى الأمن خلالها قنابل الغاز المسيل للدموع. وسجلت خلال مواجهات، مساء السبت الماضي، إصابة 4 عناصر من ضمن قوة أمنية كانت تتعامل مع ما قالت مديرية الأمن العام في الأردن إنها "أعمال شغب". وبينما لم تحدد طبيعة إصاباتهم أظهرت صور الإصابات أنها طفيفة. وفيما استعادت المنطقة هدوءها الحذر منذ الأحد الماضي، فإن ذلك لم يمنع استمرار الوجود الأمني المكثّف، الذي يمكن ملاحظته على مقربة من منطقة أم البساتين التي تتبع ناعور. كما أعادت الأحداث طرح تساؤلات عدة حول إدارة الأزمة، من جهة النائب المفصول، الذي يعرف بخطابه الشعبوي، والدولة على حد سواء، فيما تجددت الانتقادات لتنامي دور العشائر لتتحول طرفاً حاسماً في أزمات سياسية واقتصادية، بل حتى وتضرب أسس الدولة المدنية.

وكانت الأزمة بدأت عندما صوّت مجلس النواب الأردني، في جلسة مغلقة عقدها أواخر مايو/أيار الماضي، على تجميد عضوية العجارمة وقطع مخصصاته عاماً واحداً، بسبب ما اعتبرته اللجنة القانونية في المجلس "إساءة" للبرلمان وهيبته وسمعته وأعضائه والنظام الداخلي. وكان العجارمة قد أكد، خلال جلسة للمجلس، التزامه بما تفرضه مواد النظام الداخلي واحترامه لها، فيما حاول زملاء له مقاطعته، ليقدم تحية لأعضاء مجلس النواب، رافعاً يده إلى جانب رأسه في تقليد للتحية العسكرية. وعند مطالبة رئيس مجلس النواب عبد المنعم العودات، له بتقديم اعتذار، رد العجارمة بقوله: "افصلني"، ليرفع الرئيس الجلسة.
وقبل ذلك عبّر العجارمة عن غضبه من قطع التيار الكهربائي عن كافة أنحاء المملكة، يوم الجمعة 21 مايو الماضي، معتبراً أنّ ذلك مرتبط بالفعاليات التضامنية مع الفلسطينيين. وأجج تصويت مجلس النواب، الأحد الماضي، بالموافقة على مذكرة، قدّمها 108 نواب، تطالب بفصل العجارمة، وهو المجمدة عضويته بالأصل والذي قدم استقالته الأربعاء الماضي، غضب أقاربه ومؤيديه، خصوصاً بعد هدم بيوت الشعر (خيم بدوية تقليدية)، الخاصة بالعشيرة، والتي كانت معدة لاستقبال داعمي النائب المفصول. ورأى العديد من شباب المنطقة، وفق تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، أن عقوبة النائب تمسهم، وقد أساءهم هدم بيوت الشعر التي كانت معدة لاستقبال ضيوفهم المتضامنين، باعتبار أن ما جرى "يمس أعرافاً عشائرية عميقة"، فيما اعتبر بعضهم أن السبب الرئيسي لعقوبة العجارمة يعود لأنه يطالب بتطهير البلد من الفاسدين. في المقابل، رفضت الدولة ما سمّته "استقواء عليها من قبل فئة خارجة على القانون"، خصوصاً بعدما ترافقت الاشتباكات مع حرص الأخير على الظهور بين العشرات من أنصاره بالسيف والمسدس، وسط دعوات للعنف تجاه من وصفهم بـ"العملاء والجواسيس". وما ساهم في تأجيج الغضب منه، وحتى انفضاض كثر من حوله، تداول مواطنين مقاطع مصورة تحمل تجاوزاً من أسامة العجارمة على العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني.
ويقول الثلاثيني أحمد المناعسة، وهو من سكان المنطقة، لـ"العربي الجديد"، إن الأزمة التي تفجرّت يتحمل مسؤوليتها الطرفان، السلطات والعجارمة، لكن بشكل أساسي السلطات التي كان من المفترض، من وجهة نظره، أن تعالج القضية منذ البداية بطريقة مختلفة. ويشير إلى أن هدم بيوت الشعر الخاصة بالعشيرة، والتي كانت معدة لاستقبال المؤازرين للنائب المفصول، استفزت جميع أبناء العشيرة بلا استثناء، وكانت نقطة تصعيد كبيرة. ويعتبر أن عدم السماح ببناء بيوت الشعر سيبقي الأوضاع متوترة، وعلى سخط الناس حيال القرارات الحكومية، مشيراً إلى أنه كان بإمكان السلطات منع قدوم المؤازرين من الخارج، كما تفعل في كل مرة عندما تريد إغلاق أي منطقة وتسمح ببناء البيوت. من جهة ثانية، يرى المناعسة أن بعض تصرفات العجارمة غير مقبولة، لكنه يحمل السلطات مسؤولية التصعيد، وهي التي يجب أن تكون أكثر قرباً وتفهماً لمواقف المواطنين، من وجهة نظره. وفيما يرى البعض أن العجارمة اختار منذ البداية اعتماد خطاب شعبوي، فإن النائب المفصول، برأي المناعسة، شجاع وجريء، وتحدث تحت قبة البرلمان بما لم يتحدث فيه الكثير من النواب، وكان صوت الناس والناقل لمواقفهم. وبحسب المناعسة فإن ما حصل تجاه النائب هو تجاوز على قاعدته الانتخابية.

رأى العديد من شباب المنطقة أن هدم بيوت الشعر يمس أعرافًا عشائرية عميقة

من جهته، يقول حسن العجارمة، لـ"العربي الجديد"، إن أساس المشكلة يكمن في مجلس النواب الذي لا يمتلك قراره، وضعف أعضائه فاقم منها، وجعلها تصل إلى ما وصلت إليه. ويعتبر أن من يقف مع العجارمة من أبناء المنطقة ليس فقط لأنه من العشيرة، لكن لأدائه في الفترة القصيرة الماضية، وله مواقف مقدرة، وربما استفز المجلس عندما وجه سؤالاً نيابياً عن مكان وجود (رئيس الديوان الملكي الأسبق) باسم عوض الله، وموقفه من نقابة المعلمين، وانتقاده لأداء المجلس ورئيسه والحكومة. ويرى حسن العجارمة أن الحل الأمني الذي اتجهت له الحكومة، سلبياته أكبر من إيجابياته، خاصة في ما يتعلق بثقة الناس بمؤسسات الدولة، والقرارات الحكومية. ومن وجهة نظره فإن الأمور ستتجه الى التهدئة خلال الأيام المقبلة، لكن آثار هذه القضية ستبقى عالقة في الأذهان.
ويقول الخبير الأمني والعسكري جلال العبادي، لـ"العربي الجديد"، إن الهدوء والأوضاع المستقرة عادت لمنطقة ناعور، مضيفاً أن الطرفين، قوى الأمن والقوى العشائرية، لا عداء بينهم، وتربطهم مصلحة واحدة في استقرار الوطن وتقدمه، معتبراً أن ما حدث أقرب ما يكون إلى سحابة صيف، وجرى تجاوزها بأقل الخسائر. ويوضح أن سماع صوت الرصاص، وعدم وجود إصابات، يوم الأحد الماضي، يؤكد أنه لا نية من قبل الأجهزة الأمنية أو الطرف العشائري إصابة الطرف الآخر، فلا أحد يريد إيذاء الطرف الآخر، والجميع يذهب الى التهدئة. وفي حين يشير إلى أنه لا يمكن السيطرة على التجمعات الكبيرة، فإنه يعتبر أنه لا قيمة للإصلاح، في ظل اتخاذ أساليب غير ديمقراطية لا تقوم على الحوار، مشدداً على أن الأهم هو الاستمرار بالإصلاح السياسي لحفظ الاستقرار، من خلال وضع قوانين تلبي طموحات المواطنين، وتؤطر توجهاتهم السياسية عبر قوانين ديمقراطية تليق بالمواطنين. ويشير إلى أنه لم يحدث من قبل في ناعور والمناطق القريبة منها أحداث مشابهة، ولم يكن هناك صدام بين الأمن والمواطنين في الأردن سوى في العام 1989، وقد تم تجاوزها في ذلك الوقت.
ومن الملاحظ أن جميع الاحتجاجات تأخذ بشكل أساسي منحى عشائرياً، حيث تؤدي العشائرية في الأردن، اليوم، أدوراً إضافية إلى جانب أدوارها الرئيسية اجتماعياً، فهي تفرض نفسها بقوة على الساحة السياسية، وتعزز حضورها، لتهمش الأحزاب والقوى السياسية، وتفرض نفسها بوضوح على مسرح الإعداد والتقديم والفرز الأولي للمرشحين للانتخابات. وحتى الحزبيين، أو أصحاب التاريخ الحزبي، يهرولون نحو عشائرهم، ويعودون إلى قواعدهم الانتخابية، طلباً للدعم والتأييد والترشح باسمها، وهم بذلك يرضخون لعمليات الفرز التي تجريها العشيرة، تحت نظر السلطات، والتي لا يستطيعون في معظم الأحيان تجاوزها أو التعدي على مخرجاتها.

يعتبر جلال العبادي أن ما حدث أقرب ما يكون إلى سحابة صيف، وجرى تجاوزها بأقل الخسائر

وفي السياق، يقول أستاذ علم الاجتماع حسين الخزاعي، لـ"العربي الجديد"، إن دور العشيرة تعاظم، بعد أن أصبح هناك قناعة لدى المواطنين بأن الدولة عاجزة عن توفير المتطلبات الأساسية والضرورية، وحل مشاكلهم، مثل توفير فرص العمل ومحاربة الفقر، إضافة إلى تراجع الخدمات الصحية والتعليمية، وارتفاع الأسعار. ويرى أن ما يتم هو عملية تفريغ للاحتقان، فعند حدوث أية مشكلة تتم العودة إلى العشيرة، إذ يعتقد الناس أنها قادرة على الضغط على الحكومة، وتحقيق بعض المطالب، في ظل غياب الأحزاب والنقابات. ويوضح أن غياب العدالة والمساواة يزيد من اللحمة القبلية، خاصة أن العشائر صاحبة النفوذ تحظى بالكثير من الوظائف العليا، ولهذا يتم الاستقواء من قبل الأفراد في العشائر للحصول على المكاسب، خاصة في ظل ما يعتبره مواطنون تحيزاً من قبل الدولة لعشائر على حساب أخرى.
ويعتبر الخزاعي أن العشائر هي حشود منظمة مؤقتة تجتمع عند حصول مشكلة محددة، ولها قائد معروف، وبعدها تتفرق، لكن الخطورة كبرى إذا أصبحت حشوداً منظمة دائمة. ويشير إلى أنه خلال الفترة الماضية، فشلنا في التربية الوطنية، وإقناع الناس أن الشارع والخدمات ملك للمواطنين وليس الدولة، وأن الهوية الجامعة هي الهوية الوطنية المرتبطة بالدولة وليس الروابط العشائرية، معتبراً أن قوانين الانتخاب هي التي رسّخت مفهوم العشائرية في عقول الشباب. ويحذّر من أن العشائرية تحاول، في الفترة الأخيرة، حشد الشباب العاطلين عن العمل والمهمشين والفقراء، والذين لم تعمل الحكومة على خلق حلول لهم، فهناك على سبيل المثال 423 ألف طلب وظيفة مقدم من خريجي جامعات، فيما تشير الإحصاءات إلى أن نسبة البطالة بشكل عام بلغت 25 في المائة، وبين الشباب 50 في المائة، وهؤلاء أشخاص يسهل استقطابهم.
من جهته، يرى الكاتب والمحلل السياسي، أنيس الخصاونة، في حديث مع "العربي الجديد"، أن التجمعات العشائرية وإغلاق الطرق، والمواجهات مع القوى الأمنية تحت غطاء عشائري فيها تنمر على الدولة وقوانينها وسلطاتها. ويعتبر أن السلطات أعادت المجتمع إلى عقود، عبر قانون الصوت الواحد الذي يرسخ العشائرية في المجتمع، في وقت يجرى فيه إنهاء دور الأحزاب في الحياة السياسية، ليصبح التعصب للقبيلة هو الطريق لتحقيق المكاسب. ويوضح أن "العجارمة نجح بصوت أقاربه من عشيرة العجارمة"، ولذلك سيعود إليهم وإلى عصبيته القبلية، معتبراً أن الإصلاح السياسي لا يتم عبر تجمعات عشائرية تأخذ دور مؤسسات الدولة، وتفرض على الدولة منطقها وقانونها وعنجهيتها، فالعجارمة يريد أن يهز بنيان الوطن كله من أجل الانتقام من السلطة التشريعية التي فصلته لفجاجة أسلوبه.
وبحسب الخصاونة فإنه لا يمكن المطالبة بالإصلاح عن طريق الزحف العشائري والتخريب وحرق المركبات، متسائلاً: ما معنى الدعوات الموجهة للمناصرة العشائرية، وما معنى إغلاق طرق تمثل شرياناً حيوياً في المملكة، والاستقواء بالعشيرة على الوطن؟ وتابع "من يقول إن العشائر ستسعى إلى الإصلاح الديمقراطي، في الوقت الذي تتمتع فيه بمقاعد جامعية لا تستند إلى المعدل في الثانوية العامة، وتضغط لتعيين أبنائها سفراء ووزراء ومحافظين على أسس أبعد ما تكون عن الإصلاح".

المساهمون