مواقف كوبنهاغن وأوسلو من الاعتراف بفلسطين يكشف تبايناً أوروبياً

16 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 14:57 (توقيت القدس)
مظاهرة تطالب بوقف الحرب على غزة، كوبنهاغن 18 يونيو 2025 (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الاعتراف بفلسطين: انقسام أوروبي واضح: النرويج اعترفت بفلسطين في 2024، بينما تظل الدنمارك متحفظة، مما يعكس تباينات سياسية رغم حكم الحزبين الاجتماعيين الديمقراطيين فيهما.

- مواقف دول الشمال الأوروبي: النرويج تدعم الحقوق الفلسطينية تاريخياً، بينما تتبنى الدنمارك موقفاً براغماتياً. السويد وأيسلندا اعترفتا بفلسطين، وفنلندا تتبنى سياسة حذرة.

- المواقف الأوروبية: تنقسم إلى دول معترفة، داعمة مترددة، ومتعارضة، مما يضعف السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي ويكشف صراعاً بين الاعتبارات الأخلاقية والبراغماتية.

في وقت تتسارع فيه خطوات عدد من الدول الأوروبية نحو الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، يتجلى انقسام لافت بين اثنتين من دول الشمال الأوروبي: النرويج والدنمارك. فرغم أن الحزبين الشقيقين الاجتماعيين الديمقراطيين يحكمان في البلدين، تكشف مسألة الاعتراف بفلسطين عن تباينات سياسية عميقة بينهما. وبينما بادرت أوسلو إلى الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية في عام 2024، لا تزال كوبنهاغن متحفظة، ومتمسكة بموقف يعتبر أن مثل هذا الاعتراف "لن يُحدث تأثيراً ملموساً" في ظل الوضع الفلسطيني المتأزم.

وخرج الخلاف إلى العلن مؤخراً حين عبّر وزير الخارجية النرويجي، إسبن بارث إيدي، عن استيائه من الموقف الدنماركي خلال مقابلة مع صحيفة بوليتيكن، أمس الجمعة، وقال في المقابلة:"مصداقيتنا في انتقاد خروقات القانون الدولي، كحال روسيا في أوكرانيا، تتآكل إن لم نُطبّق المبادئ نفسها في حالات أخرى، مثل القضية الفلسطينية."

موروث أوسلو: دور تاريخي للنرويج

على عكس الدنمارك، ترى النرويج في نفسها فاعلاً محورياً في ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ليس فقط بسبب الاعتراف الرسمي، بل أيضاً بالنظر إلى دورها التاريخي في احتضان مفاوضات سرية أنتجت اتفاقيات أوسلو (سبتمبر/أيلول 1993) التي أرست أرضية أولية للتفاوض بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في التسعينيات.

وبينما اكتفت كوبنهاغن بالسماح بفتح مكتب تمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية أواسط ثمانينات القرن الماضي، ورفعت لاحقاً مستوى التمثيل إلى "بعثة فلسطين"، انخرطت أوسلو مبكراً في وساطة سياسية أعمق، ترجمتها بمواقف أكثر جرأة ودعماً واضحاً للحقوق الفلسطينية. ويُرجع خبراء هذا الموقف إلى تقليد سياسي نرويجي يُعلي من قيم التضامن الأممي ودعم القضايا العادلة، ويتجلى ذلك خصوصاً في حزب العمال، صاحب التأثير التاريخي في تبني الموقف الفلسطيني.

تحفظ كوبنهاغن: براغماتية سياسية وحسابات داخلية

تبدي الحكومة الحالية في الدنمارك تحفظاً تجاه الاعتراف بفلسطين، رغم الضغوط المتزايدة من قواعد يسار الوسط والنقابات والشباب. وقال وزير الخارجية الحالي لارس لوك راسموسن، الذي قاد سابقاً حكومة يمين الوسط ويترأس الآن حزب "المعتدلين" الوسطي، مؤخراً إن الاعتراف لن يُحدث "فارقاً عملياً على الأرض"، في ظل الانقسامات الفلسطينية وتعقيد الوضع في غزة والضفة الغربية. وهو موقف يعارضه النرويجيون والسويديون، على اعتبار أن الاعتراف يحمل موقفاً وضغطاً على الاحتلال الإسرائيلي.

ويبدو أن هذا الموقف الذي تتمسك به حكومة الدنمارك برئاسة، ميتا فريدركسن، بات محرجاً داخلياً وخارجياً، خاصة في ظل تموضع أغلبية دول الشمال الأخرى في صف داعم لفلسطين. وبرغم أن بعض الشخصيات التاريخية في السياسة الدنماركية، وقواعد وشبيبة حزب فريدركسن وقوى اليسار، دعمت فكرة الاعتراف، لم تُبد الحكومة استعداداً لتجاوز هذا التردد.

السويد وأيسلندا وفنلندا: تباينات شمالية أوسع

السويد أيضاً تميزت بموقفها الريادي. فقد مهدت علاقة رئيس وزرائها الراحل أولاف بالمه بالقضية الفلسطينية، ولقاءاته مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، الطريق لتقارب سياسي ومجتمعي امتد لعقود، تُوّج في عام 2014 باعتراف رسمي بدولة فلسطين. أما أيسلندا، فكانت أولى دول الشمال الغربية التي اعترفت بدولة فلسطين عام 2011، في خطوة رمزية قوية حينها. في المقابل، تلتزم فنلندا بسياسة خارجية أكثر حذراً، رغم تعاطف شعبي ورسمي واضح مع الحقوق الفلسطينية.

ألمانيا: دعم مشروط وتحفظ تحت ضغط التاريخ

يمكن تشبيه موقف كوبنهاغن بالموقف الألماني إلى حد كبير. فرغم استقبالها ممثلية فلسطين في العاصمة برلين لا تعترف ألمانيا رسمياً بفلسطين، لكنها تعلن دعمها المبدئي لحل الدولتين، مع التزام صارم بعدم اتخاذ أي خطوة أحادية. وكانت وزيرة الخارجية السابقة أنالينا بيربوك، من حزب الخضر، واضحة في تأكيد أن الاعتراف يجب أن يكون ثمرة مفاوضات مباشرة، لا نتيجة خطوات رمزية. وقالت في مايو/أيار 2024: "نؤمن بحل الدولتين، ولكن لا نرى أن الاعتراف الأحادي يخدم هذا الهدف في الوقت الراهن". ويبدو أن ما رسمته بيربوك هو الساري على حكومة ائتلاف يمين ويسار الوسط الألماني اليوم.

وتُستخدم الحساسية التاريخية بين ألمانيا وإسرائيل، ما تسميه النخب السياسية في برلين "المسؤولية التاريخية عن جرائم النازية"، بشكل متكرر مبرراً لتجنّب أي موقف قد يُفسّر على أنه معادٍ لإسرائيل. هذا بالطبع إلى جانب العلاقة المميزة بين تيار بعينه في "الديمقراطي المسيحي" واللوبي الصهيوني ومؤيديه على المستوى الإعلامي والسياسي ولعبهم دوراً مشيطناً للحقوق الفلسطينية. ومع أن المستشار الحالي فريدريش ميرز اتخذ بعض الخطوات الرمزية، كتعليق تصدير بعض الأسلحة لإسرائيل، لا تزال سياسات ألمانيا بعيدة عن المزاج الشعبي المتضامن مع فلسطين.

الدول الأوروبية: ثلاث مقاربات مختلفة

يمكن تقسيم المواقف الأوروبية من الاعتراف بفلسطين إلى ثلاث فئات رئيسية:

  1. دول اعترفت رسمياً، مثل: السويد، النرويج، إيرلندا، إسبانيا، أيسلندا. هذه الدول تعتبر الاعتراف أداة سياسية وأخلاقية للضغط على إسرائيل، وتعزيز مبدأ القانون الدولي وحق تقرير المصير.
  2. دول داعمة لكن مترددة، مثل: ألمانيا، فرنسا (اعتراف في سبتمبر/أيلول القادم)، بلجيكا، البرتغال. وتُفضّل هذه الدول الانتظار حتى تتهيأ "الظروف المناسبة"، وتخشى من أن الاعتراف الآن قد يُضعف فرص التفاوض لاحقاً.
  3. دول متحفظة أو معارضة، مثل: النمسا، والمجر، وجمهورية التشيك (رغم أن الأخيرتين كانتا أكثر دعماً لفلسطين أيام حكم النظام الاشتراكي) والدنمارك. ترى حكومات هذه الدول أن الاعتراف الأحادي يُعقّد الوضع بدلاً من حله، وترتبط في الغالب بمواقف أكثر قرباً من إسرائيل.

بين المبادئ والحسابات

ويمكن القول إن الانقسام الأوروبي يُضعف فاعلية السياسة الخارجية الموحدة للاتحاد الأوروبي، ويطرح تساؤلات جدية حول مدى التزامه المبدئي بالقانون الدولي وحقوق الشعوب. وتكشف هذه المواقف عن صراع أعمق بين الاعتبارات الأخلاقية والبراغماتية السياسية؛ ففي حين تراهن دول مثل النرويج والسويد على أن الاعتراف يشكّل ضغطاً أخلاقياً فعّالاً، ترى ألمانيا والدنمارك أن الاعتراف من دون اتفاق قد يحمل طابعاً رمزياً لا يُغير من واقع الاحتلال شيئاً.

في المحصلة، يبقى موقف دول الشمال وأوروبا من الاعتراف بفلسطين مرآة لتباينات جيوسياسية وأخلاقية عميقة، حيث تتصارع المبادئ الإنسانية مع الحسابات السياسية، في مشهد متوتر تتزايد فيه التحديات. وبين اعتراف نرويجي منسجم مع تاريخ طويل من الوساطة والدعم، وتحفّظ دنماركي قائم على الواقعية، تستمر القضية الفلسطينية في اختبار مدى التزام الغرب بوعوده القديمة ومبادئه المُعلنة.