من يُعيق تحقيق المصالحة بين الإسلاميين والدساترة في تونس؟

من يُعيق تحقيق المصالحة بين الإسلاميين والدساترة في تونس؟

22 أكتوبر 2020
لا يزال ضحايا الاستبداد ينتظرون إنصافهم (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

تعددت مبادرات المصالحة في تونس، منذ أن هدأت رياح الثورة، بهدف إذابة الجليد بين مختلف الخصوم السياسيين، وإزالة الحواجز بين الفرقاء، وخصوصاً بين الإسلاميين، وفي مقدمتهم حركة "النهضة"، والتيارات المختلفة من العائلة الدستورية و"التجمعييين" (نسبةً إلى حزب التجمع الديمقراطي المنحل بعد الثورة). وتعززت مبادرات المصالحة هذه في العام 2013، بلقاء باريس بين زعيم حزب "نداء تونس" حينها، الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي، وزعيم حركة "النهضة" راشد الغنوشي، وتمخضت عنه تجربة التوافق بين الرجلين، لتدوم الهدنة السياسية خمس سنوات، وتؤدي لإسقاط قانون العزل السياسي، غير أن متشددين من هنا وهناك وقفوا ضد أي محاولة جادة للمصالحة السياسية الشاملة.

عاد الحديث عن المصالحة منذ أيام، بعد لقاء الغنوشي ورئيس الحزب الاشتراكي الدستوري شكري البلطي

ولطالما دعا رئيس حركة "النهضة"، ورئيس البرلمان الحالي، راشد الغنوشي، إلى ضرورة تحقيق مصالحة سياسية، وطيّ صفحة الماضي، مشدداً في أكثر من مناسبة على ضرورة تجاوز الإسلاميين و"الدساترة" لصراعات وخلافات حقبة الاستبداد. وعاد الحديث عن المصالحة منذ أيام، بعد لقاء الغنوشي ورئيس الحزب الاشتراكي الدستوري شكري البلطي، وقيادات من حزبه. وأكّد الغنوشي إثر اللقاء "دعمه مختلف المبادرات والمشاريع الهادفة إلى تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة، بما يسمح بطي ملفات الماضي والتوجّه جماعياً نحو المستقبل". وتحدث بيان للبرلمان عن "ضرورة القطع مع التجاذبات والتوترات، والنأي عن سلوك الكراهية والحقد والإقصاء، والعمل على ترسيخ ثقافة التسامح والعيش المشترك". من جهته، ذكّر البلطي بـ"الحاجة المؤكّدة لطرح ملف المصالحة بشكل جدّي وصريح، وإنهاء هذا الملف الذي بقي دون حلول نهائية، على الرغم من مرور عشر سنوات على الثورة"، مشدداً على "أهميّة إعداد ما يلزم من مبادرات سياسية وتشريعات، لإتمام مسار العدالة الانتقالية، وصولاً إلى بلورة مشروع متكامل للمصالحة الوطنية". 

ورأى القيادي في "النهضة"، محمد القوماني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه "في السنة العاشرة للثورة، ومع مرور 15 سنة على ذكرى 18 أكتوبر/تشرين الأول (التفاف معارض وإضراب عن الطعام للتنديد بنظام زين العابدين بن علي) التي جمعت العائلات الفكرية المختلفة في مرحلة الاستبداد، لا تزال الحياة السياسية في تونس متعثرة، والمخاوف على مسار الانتقال الديمقراطي مستمرة، لأن أحد شروط نجاح الانتقال الديمقراطي الكامل هو تحقيق مصالحة وطنية شاملة وعادلة". واعتبر القوماني أن "المصالحة الوطنية ظلّت مطلباً أساسياً منذ ما بعد الثورة، بعدما هدأت النفوس وحضرت العقول، وتبين للفاعلين أن مسار التصادم والمواجهة والإقصاء والاستئصال بين أنصار الثورة وحماتها والمدافعين عن العهد القديم، في جميع الدول التي عاشت ثورات، أدى إلى تعثرات في جميع البلدان". 
وفي الحالة التونسية، رأى القيادي في "النهضة"، أن تمّ "اختيار طريق التوافق، وجرّبنا مبكراً بين الرئيس السبسي، الذي كان شخصية ترمز للمنظومة القديمة ومؤمناً بالثورة، والغنوشي، الذي يعد شخصية معارضة لنظامي الحبيب بورقيبة وبن علي، ومن أنصار الثورة"، لافتاً إلى أن "تجربة التوافق أعطت نجاحات جزئية بتحقيق استقرار سياسي، وخلق ما سمي بالاستثناء التونسي، وسط فشل تجارب الثورات العربية، لكن التوافق لم يذهب بعيداً في المصالحة الوطنية الكاملة".
وبيّن المتحدث أن "المصالحة تقتضي طرحها في صورتها الجذرية من خلال الاتفاق على بعض نقاط الاختلاف بين البورقيبيين والإسلاميين عبر الاعتراف بالأخطاء". وبرأيه، فإن "على الدساترة والمنظومة القديمة مثلاً، الاعتراف بتعطيلهم المسار الديمقراطي واحتكارهم الحكم، وعدم فتح المجال أمام المشاركة في الحياة السياسية، وبدورهم، ينبغي على الإسلاميين أن يعترفوا بأن الفكرة الإسلامية في عالميتها، أضعفت الانتماء للفكرة الإسلامية الوطنية، فيما كان ممكناً الوقوف عند هذه النقاط وإقامة المصالحة". 
وحول الوضع الراهن، رأى القوماني أن "التجاذبات السياسية تغلب على اليومي والقضايا الطارئة، إلى جانب عدم استكمال ملف العدالة الانتقالية الذي اُسيئت إدارته من قبل رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين، وهو من أسباب تعثر ملف المصالحة". وتحدث القوماني عن "ارتهان بعض الأطراف، التي فقدت مصالحها بالثورة، إلى أجندات خارجية معادية لهذه الثورة، تعمل على تعطيل المصالحة، من خلال النبش في صفحات الصراع من الماضي بين الإسلاميين والدساترة لإعادته إلى الواجهة، إلى جانب عددٍ من الإسلاميين ممن يرون أن مسار العدالة الانتقالية لم يستكمل شروطه، وبقي لديهم عداء لكل ما يرمز إلى المنظومة القديمة". وبحسب رأيه، فإن هؤلاء "غير متحمسين لأي تقارب"، مؤكداً "وجود شخصيات من الطرفين رافضة لمسار المصالحة".
وحول ذلك، أشار القوماني إلى أنه "يوجد داخل النهضة شقّ عارض تجربة التوافق ولا يزال معارضاً لها حتى اليوم، وبالتالي لم يجد الغنوشي المساندة الكافية داخل النهضة لتحقيق مشروع المصالحة الوطنية". وفي الجهة الأخرى، أكد القيادي في "النهضة"، "وجود أطراف أيضاً، ترفض المصالحة الوطنية"، لافتاً إلى أن "الحزب الدستوري الحر هو التعبير المتطرف والمتعصب للمنظومة القديمة"، على حدّ توصيفه. 

تغلب التجاذبات السياسية على اليومي والقضايا الطارئة، إلى جانب عدم استكمال ملف العدالة الانتقالية

ورفض القوماني، في إطار حديثه، الحديث عن سقوط شعار المصالحة الوطنية"، معتبراً أن المصالحة "لا تشمل الدستوريين والإسلاميين فقط، بل العائلة اليسارية والقومية، وتبقى دعوة أكيدة لتحقيقها، لكنها تحتاج أن تكون مبنية على رؤية فكرية مرتبطة بإعادة تصحيح مسار العدالة الانتقالية واستكماله وانخراط المثقفين من الطرفين لمساندة المصالحة الوطنية وقطع الطريق أمام الطامعين". 
وفي السياق، ينتظر ضحايا الاستبداد ومنظومات الحكم السابقة في تونس، ممن خاضوا اعتصاماً أمام رئاسة الحكومة، إنصافهم، عبر اعتذار رسمي من قبل الدولة، كما ينص عليه قانون العدالة الانتقالية. وتطالب جمعيات عدة بضرورة استكمال المسار وتفعيل توصيات هيئة الحقيقة والكرامة، من أجل تحقيق المصالحة الوطنية. 
وفي تقدير آخر، رأى الأمين العام في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، والقيادي في حركة "تحيا تونس"، محمد الغرياني، أن "مفهوم المصالحة متعدد الأبعاد، ويقوم بالأساس على قاعدة طي صفحة الماضي، والاعتراف في الوقت ذاته للضحايا وجبر الضرر". وفي حديث لـ"العربي الجديد"، اعتبر الغرياني، أن "المصالحة في بعدها السياسي تحقق منها جزء كبير، من ذلك ترشح مسؤولين في النظام السابق في الانتخابات، وفي وظائف سامية للدولة، لكنها لم تصل إلى نتيجة ملموسة نظراً للمناخ المتسم بدعوات التشفي والانتقام والمحاكمات المتواصلة، ما أفقد التونسيين الثقة في ما بينهم، وهدد الوحدة الوطنية، في وقت كانت فيه البلاد أحوج للمصالحة والبناء للمستقبل". 
ورأى الأمين العام في حزب "التجمع"، أن "التقسيم الحاصل بين حقبتين مثّل عائقاً لتقدم البلاد واستكمال مسار المصالحة"، ويعود ذلك وفق تعبيره إلى "وجود أطراف سياسية لم تستوعب بعد مفهوم المصالحة، وأخرى ترفض عودة القديم، في حين تقتضي المرحلة التهدئة والابتعاد عن عقلية الإقصاء واستبعاد الآخر". وأضاف أن مسار العدالة الانتقالية "يقتضي عدم تكرار أخطاء الماضي، ومن بينها الإقصاء وعقلية التشفي وثقافة الانتقام".
ولم ينف الغرياني أن الحزب الدستوري الحر "تعبير عن هذا التشنج، وينظر (الحزب) للبلاد وكأنها حكر على جهة دون غيرها، بينما تحتاج الديمقراطية إلى التعدد واحترام الاختلاف بين مختلف العائلات الفكرية والسياسية، علاوة على وجود أغلبية في العائلة التجمعية تؤمن بأن 14 يونيو/كانون الثاني (سقوط نظام بن علي) حقيقة سياسية ثورية يجب التعامل معها، وعليها أن تنخرط في العملية الديمقراطية من أجل استكمال المسار الحداثي والتحديات الاقتصادية والاجتماعية" على حدّ قوله. وأعرب الغرياني عن أسفه لـ"تأخر عقد حوارات وطنية حقيقية تهدف إلى إرساء مصالحة حقيقية تطوي صفحة الماضي بين كل مكونات المشهد السياسي".