من رمزية المنشار إلى شبهة الفساد: خافيير ميلي يواجه لحظة الحقيقة
استمع إلى الملخص
- أثارت الفضيحة غضباً شعبياً واحتجاجات ضد الحكومة، مع تراجع شعبية حزب "الحرية تتقدم" بعد خسارة في انتخابات محلية، مما يزيد الضغط على ميلي قبل انتخابات التجديد النصفي.
- يواجه ميلي تحدياً في الحفاظ على سرديته السياسية وسط اتهامات الفساد، وقد يضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة بين الولاء العائلي واستعادة الثقة السياسية.
يعيش الرئيس الأرجنتيني الشعبوي خافيير ميلي أول اختبار وجودي حقيقي منذ توليه السلطة، بعد تفجر فضيحة فساد تضرب قلب دائرته المقربة، وتضعه في مواجهة مباشرة مع الشارع، ومع السردية التي صعد بها إلى الحكم، بوصفه "منقذاً" من الطبقة السياسية الفاسدة.
تولى السلطة على وقع وعود راديكالية
تولى ميلي السلطة في 10 ديسمبر/ كانون الأول 2023، بعد فوزه بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، على حساب وزير الاقتصاد السابق سيرخيو ماسا. جاءت ولايته في خضم أزمة اقتصادية خانقة، متعهداً بتطبيق إصلاحات ليبرالية متشددة، شملت تقليص دور الدولة إلى الحد الأدنى، وخفض الإنفاق العام بشكل جذري، وتقليص عدد الوزارات، وتحرير الاقتصاد، ومكافحة الفساد. كما أطلق وعوداً مثيرة للجدل، أبرزها إلغاء البنك المركزي، واعتماد الدولار الأميركي عملة رسمية في البلاد، في محاولة لاستئصال التضخم والانهيار النقدي. وجدير بالذكر أن ميلي من أشد المؤيدين لدولة الاحتلال الإسرائيلي على مستوى أميركا الجنوبية، على عكس رؤساء آخرين يقاطعونها.
تسريبات كارينا: الشقيقة المتهمة
الزلزال السياسي الذي يواجهه ميلي اليوم يتعلق بشقيقته ومساعدته الأبرز، كارينا ميلي، التي تشغل منصب رئيسة ديوان الرئاسة وتُلقَّب في أروقة الحكم بـ"الزعيمة". فقد فجّرت تسريبات صوتية نُسبت إلى دييغو سبانيولو، الرئيس السابق للوكالة الوطنية للأشخاص ذوي الإعاقة (ANDIS)، اتهامات لكارينا بتلقي رشاوى شهرية من شركة أدوية خاصة، مقابل تسهيلات حكومية. ووفق التسجيلات، فإن شركة سويزو أرجنتينا دفعت ما يعادل 3% من قيمة العقود الحكومية، في صفقات بلغت مئات الآلاف من الدولارات شهرياً. وتضاعفت فواتير الشركة 26 مرة خلال فترة حكم ميلي، ما أثار شبهات بأن الفساد كان ممنهجاً وليس عرضياً.
موسى وهارون: حين تتقاطع الولاءات
خطورة القضية لا تقتصر على مضمونها، بل تتضاعف بحكم العلاقة الشخصية التي تربط المتهم بالرئيس. فكارينا ليست مجرد موظفة رفيعة، بل تُعتبر العقل المدبر لمشروع ميلي السياسي. الرئيس نفسه شبّهها بـ"النبي موسى"، في استعارة توراتية تعكس عمق تبعيته لها، مكتفياً لنفسه بدور "هارون". وحين انتقد بسبب سفره المتكرر للخارج، شبّه نفسه بموسى وكارينا بهارون. من هنا، بات من الصعب على الرأي العام تصديق أن فساداً بهذا الحجم، جرى من دون علم مباشر من الرئيس. ميلي لم ينفِ صحة التسجيلات، ولم يطلق أي تحقيق مستقل، بل اختار الهجوم على صاحب التسجيل، فأقال سبانيولو من منصبه ووصفه بالكاذب، رغم أنه كان أحد أقرب مستشاريه، ومحاميه الشخصي سابقاً.
ما فاقم الشكوك أكثر، أن قاضياً فيدرالياً أصدر أمراً بحظر مؤقت لنشر التسجيلات المتبقية، في خطوة أثارت موجة استنكار في أوساط الصحافيين ونشطاء حقوق الإنسان، الذين رأوا في القرار محاولة لتكميم الإعلام.
تداعيات سريعة: غضب في الشارع... وهزائم في الصناديق
الشارع الأرجنتيني لم يعد يراقب من بعيد، فقد خرج آلاف العمال، والمتقاعدين، والأساتذة، والطلاب، في احتجاجات ضد قرارات الحكومة التي قلّلت من الدعم للقطاع الصحي والأكاديمي، رافعين لافتة تتهمه بأنه ديكتاتور، في أثناء مسيرة للحركات الاجتماعية والأحزاب المعارضة، مطالبين بضرورة رحيله. وفي الأمس القريب شهدت مقاطعة بوينس آيرس خسارة مدوية لحزب "الحرية تتقدم" التابع لميلي، أمام المعارضة البيرونية التي حقّقت فوزاً بأكثر من عشر نقاط مئوية. وقد جاءت تلك الخسارة بمثابة جرس إنذار: يبدو أن الصوت الانتخابي بدأ يتحوّل، ليس فقط من رفض السياسات التي كانت تُسوّق على أنها "تجديد جذري"، بل من غضب متراكم ضد التعديلات التي يُنظر إليها على أنها ضرب مباشر للحقوق الاجتماعية.
وفي هذه الأثناء، جاءت الفضيحة في توقيت بالغ الحساسية، قبل انتخابات التجديد النصفي في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، حيث يسعى ميلي إلى توسيع نفوذه البرلماني، لكن الضربة جاءت مزدوجة:
- تراجع شعبية ميلي إلى ما دون 40%، في أدنى مستوى له منذ توليه المنصب.
- خسارة حزبه في انتخابات محلية بمقاطعة بوينس آيرس، أمام التيار البيروني، بفارق تجاوز 10 نقاط مئوية.
- تصاعد الاحتجاجات في مدن عدة، شارك فيها عمال، وطلاب، ومتقاعدون وأساتذة جامعيون، رفضاً لتقليص الدعم والخدمات العامة.
- ربط الفضيحة بشريحة حساسة اجتماعياً: الأشخاص ذوو الإعاقة، مما فاقم الغضب الشعبي.
ورغم نجاح حكومة ميلي في خفض معدلات التضخم من 200% إلى نحو 32%، تبقى تلك النجاحات الاقتصادية مهددة بالانهيار تحت وطأة الاحتقان الاجتماعي والسياسي. فالإجراءات التقشفية الصارمة التي شملت خفض الرواتب، وتقليص المعاشات، وتجميد التوظيف والدعم الاجتماعي، أدت إلى نقمة شعبية متراكمة، تسعى المعارضة لاستثمارها في صناديق الاقتراع.
منقذ أم حامٍ للفساد؟... أزمة سردية
الخطر الأكبر الذي يواجهه ميلي لا يقتصر على الأرقام أو الاحتجاجات، بل يكمن في تفكك السردية التي بنى عليها حكمه، فهو الذي رفع شعار "قطع رؤوس الطبقة السياسية الفاسدة"، مستخدماً رمزية المنشار، يواجه اليوم اتهامات تطاول قلب دائرته العائلية. وفي هذا السياق، قال المحلل السياسي الأرجنتيني كارلوس باجني: "إذا ثبت أن قلب هذه الحكومة غارق في الفساد، فإن خطاب ميلي ضد النخبة يصبح بلا معنى. وفقدان المعنى هو أول خطوة نحو فقدان السلطة".
ميلي أمام لحظة الحقيقة... عراب أم رئيس؟
إذا ما طاولت التحقيقات القضائية شقيقته كارينا رسمياً، فسيجد خافيير ميلي نفسه أمام معادلة وجودية: إما الولاء العائلي، وإما استعادة الثقة السياسية التي تتآكل بسرعة. ضعف تمثيله البرلماني يجعله عرضة للابتزاز من خصومه، بل حتى من داخل معسكره، ما يفتح الباب أمام تعديلات قسرية في الحكومة، أو تنازلات قد تُفرغ مشروعه من مضمونه. فقضية كارينا ليست مجرد شبهة فساد، بل لحظة كشف صادمة لرئيس صعد إلى الحكم متسلحاً بخطاب ضد النخبة، ووعد بقطع رؤوس "المنظومة الفاسدة".
ورغم محاولاته تأطير الفضيحة ضمن "مؤامرة خارجية"، فإن الواقع الأرجنتيني اليوم أكثر تعقيداً من أن يُختزل في خطاب تبسيطي. الشارع غاضب، والثقة تهتز، والكونغرس يترقّب. ميلي أمام مفترق طرق حاسم: إما قرارات جريئة تفصل بوضوح بين العائلة والدولة، وإما السقوط في المصير ذاته الذي وُعد الأرجنتينيون بتجاوزه بمنشار يقطع رؤوس الفاسدين... المتهم بأنه على رأسهم.