مرحلة تاريخية من الإنفاق العسكري في بريطانيا لمواجهة روسيا وترامب
استمع إلى الملخص
- تعكس هذه السياسات تحولاً استراتيجياً نحو تعزيز الاعتماد على النفس وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، في ظل تزايد التهديدات العالمية مثل الهجمات الإلكترونية.
- أثار خفض ميزانيات التنمية انتقادات من جمعيات الإغاثة، لكن الحكومة ترى أن هذه الخطوة ضرورية لمواجهة التحديات الأمنية الجديدة.
تعمل الحكومة البريطانية على تبني سياسات جديدة لمواكبة التغيرات السياسية العالمية، بعد تولي دونالد ترامب سدة الرئاسة في البيت الأبيض، وتبنيه دعوات وقرارات تُغير شكل العلاقة بين الولايات المتحدة وأقرب حلفائها، في سعي من لندن لمواكبة هذه التغيرات، خصوصاً في الشأن الأوكراني، ومواجهة "تهديدات بوتين" لأوروبا.
آخر هذه السياسات كان إعلان رئيس الحكومة البريطانية كير ستارمر، أمس الثلاثاء، زيادة الإنفاق العسكري والأمني الدفاعي للمملكة المتحدة بنسبة تصل إلى 2.5% من الناتج المحلي، ويشمل ذلك التخلي عن ميزانيات كانت مخصصة للتنمية والمساعدات الخارجية الدولية، فيما اعتُبرت هذه الزيادة المتمثلة في ضخ 13.4 مليار جنيه إسترليني إضافية سنوياً في الإنفاق الدفاعي بحلول عام 2027 أكبر زيادة في الإنفاق الدفاعي منذ الحرب الباردة، والتي ستصل إلى 3% بعد الانتخابات المقبلة.
ويبدو أن حكومة حزب العمّال في بريطانيا عازمة على تغيير النهج الكامل للأمن الوطني، بحسب رئيس الوزراء، الذي قال أمام البرلمان إنه "سيتعين علينا أن نطلب من الصناعة البريطانية، والجامعات البريطانية، والشركات البريطانية، والشعب البريطاني، أن يلعبوا دوراً أكبر"، كي تأخذ بريطانيا مكانتها كما فعلت في الماضي، على حدّ تعبيره.
أجواء من تحولات تاريخية تعيشها المملكة المتحدة تذهب نحو المزيد من الاعتماد على النفس. واستذكر رئيس الوزراء كيف جعله سقوط جدار برلين يشعر، قائلاً: "شعرت وكأننا نتخلص من أغلال التاريخ، قارة موحدة بالحرية والديمقراطية"، على حد تعبيره، مقارناً ذلك بحقيقة غزو روسيا لأوكرانيا. هذا ما أشار إليه وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي أيضاً في مقال له مساء أمس في صحيفة ذا غارديان، قال فيه: "هناك لحظات في التاريخ حيث يتحول كل شيء، لكن مدى التغيير لا يُدرك إلا لاحقاً عندما ينقشع الضباب. هذه نقاط مفصلية تتطلب قيادة واضحة وعملاً جريئاً".
وأشار لامي إلى أنه بعد ثلاث سنوات من "حرب فلاديمير بوتين الوحشية، أصبحت هذه مرة أخرى نقطة مفصلية بالنسبة لبريطانيا"، مؤكداً أن التزام كير ستارمر بزيادة الإنفاق الدفاعي بشكل كبير في هذا البرلمان والبرلمان القادم يُظهر "زعامته من خلال الضباب". واعتبر وزير الخارجية أن "روسيا بوتين" تشكل تهديداً ليس فقط لأوكرانيا وجيرانها، بل لأوروبا كلها، بما في ذلك المملكة المتحدة، معلقاً على التحولات الجارية لدى الحليف الأقرب (الولايات المتحدة) بشكل متزايد نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مبرراً بسبب ذلك مطالبة أعضاء الناتو الأوروبيين بتحمل المزيد من العبء عن أمن القارة، إضافة لتضاعف التهديدات العالمية من الحرب التقليدية، إلى التهديدات الهجينة، والهجمات الإلكترونية.
ولاتخاذ هذا الخيار الصعب الذي "لا تتخذه أي حكومة"، قال لامي إنه كان يتعين على الحكومة خفض المساعدات الخارجية، لكن في نفس الوقت "حماية البرامج الأكثر حيوية في أسوأ مناطق الصراع في العالم في أوكرانيا، وغزة، والسودان". وأصاب هذا القرار جمعيات ومؤسسات الإغاثة البريطانية بالذهول. وقد قالت منظمة "أنقذوا الأطفال" إن هذا القرار "يمثل خيانة للأطفال الأكثر ضعفاً في العالم". وقالت حملة "وان" إن القرار من شأنه أن يخلق مشاكل ضخمة في ما يتصل بتسليم المساعدات الإنسانية الحيوية. وقالت شبكة المساعدات "بوند" إن هذا القرار من شأنه أن يخلّف عواقب مدمرة على ملايين الأشخاص المهمشين. وقال ديفيد ميليباند، رئيس لجنة الإنقاذ الدولية ووزير الخارجية العمالي السابق، إن هذا الخفض "ضربة لسمعة بريطانيا الفخورة كزعيمة إنسانية وإنمائية عالمية".
لكن هذه الأصوات الناقدة لخفض ميزانيات التنمية الدولية تبدو خافتة أمام الواقع الجديد في الساحة العالمية، وما تشعر به بريطانيا من تهديدات قادمة، وهو ما لفت إليه وزير الخارجية في مقاله بالقول: "علينا أن نكون واضحين بشأن قيمنا، ولكن نتعامل مع العالم كما هو، وليس كما نرغب أن يكون. هذه هي المبادئ التي توجه اختياراتنا خلال هذه الأوقات الخطيرة".
وفي السياق، اعتبرت المحررة السياسية في موقع سكاي نيوز بيث رغبي، أن هذا القرار "يُعدّ بمثابة اعتراف من الحكومة البريطانية بأن عائد السلام الذي حصلت عليه المملكة المتحدة وأوروبا بعد سقوط جدار برلين قد انتهى منذ فترة طويلة، وأن الأمة يجب أن تعيد الاستثمار الآن في دفاعها وأمنها، وإعادة بناء صناعتها الدفاعية، ووضع ذلك فوق الأولويات الأخرى".
من جهته، أشار المحرر السياسي في موقع بي بي سي كرس ماسون، إلى أن كير ستارمر يقلب بيان حزب العمال الذي خاض فيه الانتخابات، لمواجهة الواقع الجديد في أوروبا، وهو تحول استراتيجي كبير وفي الموقف السياسي، مشيراً إلى بيان الحزب في الصفحة 125، الذي يقول: "حزب العمال ملتزم باستعادة الإنفاق على التنمية عند مستوى 0.7% من الدخل القومي الإجمالي بمجرد أن تسمح الظروف المالية بذلك"، بينما الحزب ملتزم الآن بالقيام بالعكس تماماً، حيث خفض الإنفاق على التنمية بنفس المبلغ الذي وعد بزيادته. واعتبر ماسون أن هذا الإعلان "جاء في الوقت الذي يحزم فيه رئيس الوزراء البريطاني قمصانه لرحلته عبر المحيط الأطلسي للقاء دونالد ترامب يوم الخميس لتقديمه هدية قبل الزيارة".
ويشير العديد من التحليلات إلى أن القضية بالنسبة لبريطانيا لا تتعلق فقط بمجاراة الرئيس الأميركي الجديد وأهوائه في السياسة الدولية، بل تتعلق أيضاً بمدى اعتماد بريطانيا على نفسها عسكرياً مع تفريغ الجيش البريطاني على مدار العقود الأخيرة، الذي أصبح يعتمد بشكل متزايد على الولايات المتحدة لتنظيم وإدارة وتنفيذ العمليات في الخارج.
وفي هذا الخصوص، قال المحلل السياسي في مجال الدفاع فرانسيس توسا، في مقال له في صحيفة "ذا اندبندنت" قبل أيام: "لقد ضمرت قدرة المملكة المتحدة على تنفيذ عمليات سيادية مستقلة على مدى العقدين أو الثلاثة عقود الماضية. لم يعد بإمكان المملكة المتحدة الاعتماد على الولايات المتحدة. يمكن القول إن هذا مهم، إن لم يكن أكثر أهمية من لحظة مزلزلة مثل سقوط جدار برلين".
كما قال لاريسا براون، المحلل في مجال الدفاع في صحيفة "ذا تايمز"، إن المطلعين على الأمر "يشعرون بالقلق إزاء قدرات المملكة المتحدة إذا لم تكن المساعدات الأميركية قادمة"، مشيرًا إلى تصريحات أحد كبار مصادر الدفاع السابقين بأن المملكة المتحدة تعتمد إلى حد كبير على البيانات الأميركية، بما في ذلك تحديد الأهداف في ساحة المعركة، إلى درجة أن "أميركا إذا أصبحت حليفة لروسيا فإننا في ورطة، لأن ترامب قادر على تشغيلنا وإيقافنا جميعاً".
وذكر براون في مقاله أمس، عدداً من الأمثلة المتعلقة بقدرات بريطانيا العسكرية المعتمدة على الولايات المتحدة حول العالم، والتي من دون الأخيرة لا يمكن تشغيلها، معتبراً أن "الجيش البريطاني متأصل بعمق في الجيش الأميركي". وذكر مثلاً أن هناك 50 طائرة مروحية هجومية من طراز أباتشي أميركية الصنع في الخدمة، ولكن الولايات المتحدة يمكنها "إيقاف الصنبور على قطع الغيار والترقيات"، كما حذر المصدر المطّلع. وذكر براون عن مصدر سابق ثانٍ في الجيش البريطاني أنه "عندما ينتشر الجيش في مناورة متعددة الجنسيات، لا يتمكن من التواصل مع نظرائه في حلف شمال الأطلسي دون أن توفر الولايات المتحدة معدات الاتصالات". ووفقاً للمصدر الذي ينقل كلامه براون: "في نهاية المطاف، لا يمتلك الجيش القدرة اللوجستية لخوض حرب. سيوفر الجيش الأميركي هذه البنية الأساسية".
وفي يناير/ كانون الثاني من العام الماضي، قامت المدمرة "إتش إم إس دايموند" التابعة للبحرية الملكية بدوريات في البحر الأحمر، للمساعدة في الدفاع ضد هجمات الحوثيين. ولكن للقيام بذلك، كانت تعتمد بالكامل على سفينة إمداد أميركية للطعام والوقود والذخيرة، لأن البحرية ليست لديها سفينة تخزين قادرة على تزويدها بالتجديد في البحر. وتُشير الأرقام إلى أن القوة المدربة بدوام كامل في الجيش البريطاني سوف تنخفض إلى أقل من 70 ألف جندي هذا العام، وهو أصغر حجم منذ العصر النابليوني، فيما يعتقد المحللون أن حوالي 12 ألف جندي فقط يمكن نشرهم في أوكرانيا ليكونوا جزءاً من قوة حفظ السلام- ولا يمكنهم دعم هذه القوة إلا لمدة عام، بعدما كان الافتراض دائماً أن القوات البريطانية ستنتشر مع نظيراتها الأميركية.
وفي عام 2023، شكلت الولايات المتحدة 68% من إنفاق حلف شمال الأطلسي، وفقاً للإحصاءات التي جمعها معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام، مع تشكيل الدول الأعضاء الأوروبية في حلف شمال الأطلسي 28% فقط منه، والباقي من كندا وتركيا. وطالبت واشنطن بعد فوز ترامب الدول الأعضاء في تحالف الأمن بزيادة الإنفاق العسكري، داعية إلى إنفاق 5% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وهو أكثر من ضعف هدف الإنفاق الحالي للتحالف.