مجزرة داريا... القصة الكاملة في الذكرى العاشرة

لندن

ديمة ونوس

avata
ديمة ونوس
ديمة ونوس
27 اغسطس 2022
واشتهرت بمنازلها المميزة التي يسمونها "الشناشيل"
+ الخط -

عشر سنوات مرّت، ولم تلتئم جراح أهالي داريا، كما هو حال أهالي حي التضامن والغوطة ومخيّم اليرموك، وغيرها من المناطق التي اقتحمتها قوات النظام السوري. 

وفي كل مرة تُنشر فيها أحداث توثيقية جديدة لمجزرة، على غرار التقرير الذي أطلقه أول من أمس الخميس المجلس السوري البريطاني بعنوان: "داريا بعد عقد من الزمن: توثيق مجزرة"، يشعر السوريون وكأن مجزرة جديدة قد حدثت للتو. وتكفي صورة لإشعال تلك الذاكرة السوداء من جديد، وإحياء رائحة الموت فيها، وذلك الشعور بعدم الجدوى، وبالتوق إلى العدالة والمحاسبة والمساءلة.

ويوثق التقرير مجزرة داريا التي ارتكبها النظام السوري والقوات الموالية له خلال الفترة بين 20 و26 أغسطس/آب 2012. ويكشف التقرير، المكون من 47 صفحة، أن "حكومة الأسد، بمن في ذلك الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري والمخابرات الجوية والشبيحة، وبدعم من حزب الله والمليشيات الإيرانية، شاركت في هجوم ممنهج ضد السكان المدنيين في داريا في الفترة بين 20 و26 أغسطس 2012". 

ويوثق التقرير، الذي أعدّه سوريّون فقط، مقتل أكثر من 700 شخص، 514 منهم تمّ التعرف إلى هوياتهم، بينهم ما لا يقل عن 36 امرأة و63 طفلاً.

الشاهد والمغيث والناجي

تواصلت "العربي الجديد" مع أحد الناجين من المجزرة قبل 10 سنوات، والذي اكتفى بالتعريف عن نفسه باسم محمد، ويتواجد منذ سنوات خارج سورية. 

ويقول، لـ"العربي الجديد"، إنه نجا من الموت لكن ذاكرته لم تنج بعد، وربما لن تنجو. 3650 ليلة من الكوابيس. ينام ست ساعات، يستيقظ خلالها ست مرات هارباً من مشاهد الموت والتعذيب الذي تعرّض له خلال اعتقاله في فرع المخابرات الجوية. 

محمد: عائلات بأكملها أعدمت بالرصاص أو قطّعت بالسواطير

محمد كان ناشطاً في الهلال الأحمر، وتهمته توزيع المعدّات الطبية والمواد الغذائية وإغاثة "الإرهابيين"، وخرج من المعتقل فيل المجزرة بنحو شهر ليكون شاهداً عليها.

ويروي، لـ"العربي الجديد"، وقائع المجزرة كأنها تحدث للتو، فهو الشاهد والمغيث والناجي، ولا تزال آثار الأشلاء عالقة على يديه، إذ كان مع آخرين مسؤولاً عن نقل الجثث من موقع المجزرة إلى مقبرة جماعية حفروها خلف مسجد أبو سليمان. 

يقول: "لم ننم ولا لحظة لأربعة أيام. حفرنا بالبلدوزر قطعة أرض تابعة للأوقاف بعد أن سمح لنا رئيس البلدية رحم الله سيف الدين جعنينة باستخدامها. كانت الأعضاء تتناثر من الجثث التي انتشلتها، يسقط منها المخ أو العين أو اليد والساق. حفرنا أربعة قبور بعرض 3 أمتار وطول 20 متراً. فصلنا بين الرجال والنساء بشرشف زيّناه بالورود".

يحكي محمد كيف جمّعوا الجثث في مسجد أبو سليمان، والتقطوا لها صوراً ليتعرّف إليها لاحقاً أهل داريا ممن فقدوا عزيزاً خلال تلك الأيام الأربعة. 

وخلال حديثه تكثر عبارة "الله يرحمه"، أرفقها محمد برئيس البلدية ومختار الحي وزميل له في الهلال الأحمر، وناشط وصاحب مقهى وآخرين. كلّهم ماتوا، إما تحت التعذيب أو في المجزرة أو اختفوا. 

ويقول: "ما إن بدأ جيش النظام والشبّيحة بالانسحاب صباح أول أيام العيد (25 أغسطس 2012)، حتى انسحبنا وراءهم بحثاً عن الجثث. عثرنا على المئات منها في الشوارع وأقبية العمارات والشقق السكنية والأزقة، كلّهم قضوا في إعدامات ميدانية أو مجازر جماعية، عائلات بأكملها أعدمت بالرصاص أو قطّعت بالسواطير. شاهدنا آثار القتل بشتى الآلات، من السيف إلى البلطة والساطور والأحجار والقنابل والرشاشات".

يروي محمد تلك التفاصيل كأن المجزرة حدثت للتو. يقول إن استعادة هذه الوقائع تنقذه من الموت. كأنه إن نجا، بات الحديث عن تلك الأيام الأربعة هو المهمة الوحيدة المتبقية له، والدافع الوحيد للبقاء. يقول إنه بلغ سن التقاعد لكنه رفض أن يتقاعد لأنه يخاف من الصمت والسكون. يعيش اليوم بمساعدة 16 دواء بدأ بتناولها تباعاً منذ أن نجا قبل عشر سنوات.

يتذكّر محمد قصة عائلة شهاب التي قتلها النظام مرّتين. يستعيدها وكأن القتل لمرة واحدة لا يكفي لتزويد العدالة بالدلائل على تورّط النظام بالدم السوري. 

يقول: "عائلة شهاب قتلت كلّها أثناء عملها في إحدى الأراضي الزراعية. كانوا يحرثون الأرض، فماتوا قصفاً. كفّناهم وأقمنا الصلاة على أرواحهم فرداً فرداً في المقبرة. لكن طائرات النظام لمحت تجمّعاً فقصفت الأكفان وتبعثروا. لكننا دفنّاهم بعد أن قتلوا مرتين".

ثم يحكي قصة عائلة موسى السقا التي اختبأت في قبو مبنى مهجور، فاقتحم عناصر جيش النظام القبو وأعدموهم بالرصاص. شاب واحد من العائلة في العشرين من عمره نجا. أصابته رصاصة في يده وساقه لكنه تمدّد تحت جثة أخيه فظنّوه ميّتاً. حفيد لم يبلغ بعد يومه العاشر، نجا وعلا بكاؤه. فقتله الضابط دعساً بقدمه كي لا "يعيش يتيماً". 

ولن ينسى محمد كمية الدماء في محل فرّوج (الدجاج) حيدر، جانب مطعم الشاميات، قرب ساحة التربة، بمحاذاة سوبرماركت الزردة. يزور محمد المكان بذاكرته، ويحرص على تقديم أدق التفاصيل الجغرافية كي لا تتوه الذاكرة، ولمعرفة أين حصلت المجزرة وكيف.

محل الدجاج كان على بعد خطوات من مدخل داريا حيث نصب جيش النظام حاجزاً، عند مفرق طرق يصل مناطق المعضّمية وصحنايا والفصول الأربعة ودمشق بداريا. قام الجيش بتوقيف كل العابرين ذلك الصباح، وبعضهم أتى من مناطق أخرى محاصرة بغرض شراء خبز من فرن داريا. 

جمّعهم الجيش، وقد بلغ عددهم 52 شخصاً، بينهم نساء، وفلسطيني وأردني ومصري. أمرهم بداية بالتجمهر ثم بالهتاف تأييداً للقائد "بالروح بالدم نفديك يا بشار". ثم تم إدخالهم إلى محل الفرّوج وحشروهم هناك لبضع دقائق. ثم أعدموهم كلّهم ضرباً بالرصاص.

"الدم كان 25 سنتمتراً في المحل". رموا الجثث في شاحنة مبرّدة لنقل البضائع، ونقلوهم إلى مستشفى المواساة الحكومي، حيث التقط التلفزيون الرسمي صوراً لهم على أنهم "الإرهابيون" الذين قتلهم "الجيش الباسل في عملية تطهير".  ثم "تواصل مدير المستشفى (لا يذكر اسمه) مع رئيس البلدية، وطلب منه إرسال أحد أبناء داريا ليعود بالشاحنة والجثث المحملة بها". محمد هو المكلّف بهذه المهمة. والضابط الذي فتح باب الشاحنة وأمر محمد بالتعرف إلى الجثث، حشره معهم وأغلق الباب لساعتين. "كانت ثلاجة الشاحنة معطّلة والجثث متحلّلة، ولم أتخلص من رائحة الموت حتى هذه اللحظة". 

عندما غطى سيل الدماء المستشفى

لا تختلف رواية الممرضة سماح عن رواية محمد إلا بهوية القتلى. تحكي، لـ"العربي الجديد"، كيف استقبلت في بيتها هي وزوجها مصاباً مدنياً قبل المجزرة بأسابيع. لفظ أنفاسه في بيتهم ولم يستطيعا إسعافه. قرّرت حينها أن تتعلّم التمريض والإسعافات الأولية. تطوّعت في مستشفى داريا الوطني (الحكومي) وتدرّبت على التمريض متغلّبة على خوفها من مشاهد الحروق والدم والأطراف المبتورة.

أثناء المجزرة كانت محاصرة مثل الأطباء والممرضين والجرحى في المستشفى بسبب القصف واقتحامات قوات النظام تالياً، لا تعرف شيئاً عن عائلتها وطفليها. كانت تمشي في أروقة المكان وبيدها "ممسحة" لتخلي لنفسها الطريق وسط سيل الدماء، وقد تحوّلت الأرضية السيراميك البيضاء إلى اللون الأحمر بسبب أعداد ضحايا القتل والقصف التي كانت تصل.

ياسمين نحلاوي: سيكمل السوريون في توثيق معاناتهم

"لم يكن المستشفى مجهّزا لكارثة كهذه. والشهداء كانوا أرتالاً في الممرات، والناجون من بينهم ينازعون ولم نستطع إنقاذهم كلهم". تبكي سماح إذ تستعيد تلك المشاهد عندما راحت تعبر بين الجثث وتحاول التعرّف إلى هويات أصحابها، خوفاً من أن تعثر على أحد أفراد عائلتها. ثم اضطروا إلى إخلاء المستشفى بسبب الغارات، فلجأوا إلى مستشفى ميداني بصحبة الأحياء من المدنيين. 

أكثر ما يوجع ذاكرة سماح هو ضياء المقاتل في "الجيش الحرّ" الذي تعرّفت إليه في المستشفى الميداني، عندما أتى مهرولاً في محاولة لإنقاذ رجل مسنّ أصيب بالقصف. لكنه في المرة الثانية عاد إلى المستشفى مبتور الساقين، وقد تعرّض للقصف أثناء محاولته إنقاذ المدنيين. 

تبكي سماح بحرقة، إذ تروي لـ"العربي الجديد" كيف جاءتهم تحذيرات من أن جيش النظام والشبّيحة باتوا على بعد شارعين من مكان تواجدهم، فاضطروا لإخلاء المكان حاملين معهم ما استطاعوا من أجساد المصابين. إلا أن ضياء لم تسعفه قدماه المبتورتان على الهرب، فظلّ هناك عندما دخل الجيش المكان. تقول: "أتمنى فعلاً أن يكون ضياء قد قتل في المستشفى، ولم يقتادوه إلى فرع أمني حيث سيتعرّض للمزيد من التعذيب".

وكما محمد يلحق أسماء أصدقائه بعبارة "الله يرحمه"، تحكي سماح عن تلك اليوميات المريعة التي عاشتها، وعندما تذكر زوجها تقول: "نجا تلك المرة، ونجا أيضاً هذه المرة". لأنه لاحقاً لم ينجُ، حيث خطفه الجيش عند حاجز وادي بردى وأعدمه.

ما لن تنساه سماح هو رائحة داريا خلال المجزرة وبعدها: "رائحة موت وتعفّن ودم". لن تنسى أيضاً أن عدد المدنيين الذين حاولت إسعافهم كان يبلغ أضعاف عدد العسكريين. لن تنسى أن ابنها الذي كان في السابعة من عمره لم ينجُ من الخوف حتى هذه اللحظة وقد بلغ السابعة عشرة.

صور مريعة وقاسية وموجعة

وتقول القانونية والمختصة بالقانون الدولي ياسمين نحلاوي، وهي محققة أساسية في مشروع المجلس السوري البريطاني الذي تطلّب العثور على أكبر عدد ممكن من الشهود الناجين، لـ"العربي الجديد" إنهم "اختاروا داريا كنقطة انطلاق لمشروعهم التوثيقي لأنها عُرفت كمنطقة بمعارضتها السلمية لنظام الأسد". 

وتضيف: "اخترنا المجزرة لأنها كانت نقطة محورية حدّدت لاحقاً مصير المدينة التي تعرّض أبناؤها للقصف والقتل والتعذيب والاعتقال والتهجير". مع العلم أن العمل على التقرير استغرق سنتين من اللقاءات والتوثيق وتجميع الصور والفيديوهات التي حرص الكثير من الناجين على التقاطها خوفاً من ضياع الحقيقة.

وعما قد يكون قد أنجزه المشروع، ترى ياسمين نحلاوي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "اكتساب ثقة الشهود كان نقطة مهمة في طريق التوثيق بشكل عام". 

وأقسى ما عاشته خلال عملها هو مراجعة آلاف الصور والمقاطع المصورة التي وصلت إليهم من الناجين، "كلّها مريعة وقاسية وموجعة إلى حد رهيب". إلا أن هذه الصور والفيديوهات "تدلّ على وعي كبير بين صفوف الناجين، الذين خاطروا لالتقاطها لمعرفتهم بأهمية التوثيق في سبيل تحقيق العدالة". 

لكن نحلاوي تقول إن التجربة البشعة التي عاشتها عبر الصور والروايات لا تقارن بما تعرّض له الناجون وبما عاشوه عدة مرات، فهم عاشوا الموت والخوف، ويستعيدونه كل يوم بذاكرتهم ومن خلال روايتهم لما حدث. وتؤكد أنه رغم القيود التي يفرضها المجتمع الدولي أو "الفيتو" الروسي "سيكمل السوريون في توثيق معاناتهم والظلم الهائل الذي تعرّضوا له". 

لا كشف لأسماء متورطين في المجزرة

وبخلاف التحقيق الذي نشر قبل نحو ثلاثة أشهر عن مجزرة التضامن، والذي كشف هوية أحد المتورّطين (أمجد يوسف)، لم يذكر تقرير المجلس السوري البريطاني أسماء المتورّطين، مكتفياً بأسماء الجهات الأمنية والعسكرية المسؤولة عن المجزرة. 

تقول ياسمين: "إنهم تعرّفوا إلى هوية بعض المتورّطين، لكنهم حرصوا على عدم ذكرها بسبب عدم يقينهم من صحة المعلومات". ليس فريق إعداد هذا العمل التوثيقي واهماً، فالطريق إلى العدالة طويل وشاقّ.

لكن الناجين لم يفقدوا الأمل بعد بحسب ياسمين، وكل ما يحلمون به اليوم إلى جانب تحقيق العدالة والمحاسبة، هو أن يطلق سراح المعتقلين من أهلهم وأن يعودوا إلى بيوتهم.

ذات صلة

الصورة
من ضربة روسية في إدلب، أكتوبر 2024 (عزالدين قاسم/الأناضول)

سياسة

بدأت "هيئة تحرير الشام" وفصائل المعارضة السورية، معركة واسعة النطاق غربي حلب ضد قوات النظام والمليشيات الإيرانية، وجهّزت لها عسكرياً وإعلامياً.
الصورة
النازح السوري محمد كدرو، نوفمبر 2024 (العربي الجديد)

مجتمع

أُصيب النازح السوري أيمن كدرو البالغ 37 عاماً بالعمى نتيجة خطأ طبي بعد ظهور ضمور عينيه بسبب حمى أصابته عندما كان في سن الـ 13 في بلدة الدير الشرقي.
الصورة
فك الاشتباك جندي إسرائيلي عند حاجز في القنيطرة، 11 أغسطس 2020 (جلاء مرعي/فرانس برس)

سياسة

تمضي إسرائيل في التوغل والتحصينات في المنطقة منزوعة السلاح بين الأراضي السورية ومرتفعات الجولان المحتلة، في انتهاك لاتفاقية فك الاشتباك الموقعة عام 1974.
الصورة
فلسطينيون يحملون طفلاً أصيب بقصف إسرائيلي في مخيم جباليا 7 نوفمبر 2024 (فرانس برس)

سياسة

في مجزرة جديدة للاحتلال الإسرائيلي، استشهد أكثر من 36 مواطناً فلسطينياً بينهم 15 طفلاً، وأصيب العشرات بقصف إسرائيلي لمنزل في جباليا البلد شمالي قطاع غزة
المساهمون