استمع إلى الملخص
- فشلت آلية "صندوق المساعدات الإنسانية لغزة" في تحقيق أهدافها، مما زاد من الأزمة الإنسانية بسبب إغلاق المعابر ووقف المساعدات، مع تحذيرات من كارثة وشيكة.
- أثارت التغييرات انقسامات داخل الحكومة الإسرائيلية، حيث لم يُشرك نتنياهو وزراء اليمين المتطرف، مما أدى إلى توترات قد تُحتوى بتقديم تعويضات استراتيجية.
بعد ضغوط دولية جدّية نتيجةً لمشاهد التجويع والمعاناة في قطاع غزة، بدأت الحكومة الإسرائيلية إجراء تغييرات في سياساتها المتعلقة بإدخال المساعدات الإنسانية والمواد الغذائية إلى القطاع. لم يأتِ هذا القرار من فراغ، بل يعكس أولاً تعثّر الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة وعجز الجيش عن حسم المعركة أو القضاء الكامل على وجود حركة حماس. كما يُظهر فشل إسرائيل في فرض شروطها في المفاوضات غير المباشرة مع الحركة. والأهم من ذلك أن القرار يُشير إلى وجود قلق إسرائيلي حقيقي من تفاقم الأضرار على الساحة الدولية، واحتمال فرض عقوبات أو ممارسة ضغوط تُرغم إسرائيل على السماح بدخول المساعدات.
لا حسم عسكرياً في غزة
تعثّر الحرب والحملات العسكرية الإسرائيلية المتكررة في قطاع غزة، وتحولها إلى حملة قتل وتجويع وتهجير دون أهداف عسكرية واضحة، ليس جديداً، بل بدأت مؤشرات هذا الفشل بالظهور منذ أشهر عدة. على سبيل المثال، كرّر رئيس الأركان إيال زمير، في نقاشات داخلية داخل المجلس الوزاري المصغّر، بحسب الصحافي حاييم ليفنسون في صحيفة هآرتس (21 يوليو/ تموز الحالي)، أن عملية "مركبات جدعون" قد استُنفدت بالكامل، وأنه لا بد من التوصل إلى صفقة تبادل أسرى ووقف لإطلاق النار.
عدم الحسم العسكري في قطاع غزة ترافق مع عدم قدرة إسرائيل فرض شروطها كافة على حركة حماس في المفاوضات، رغم ما اعتُبر مرونة وتنازلات قدّمتها "حماس". وقد وصف الصحافي عاموس هرئيل من "هآرتس" (25 يوليو) هذه الأجواء بالقول: "هذا المشهد الكئيب في المفاوضات تكرّر هذا الأسبوع أيضاً، كما في معظم الأسابيع خلال الشهرين الأخيرين. ومرة أخرى، وردت أنباء بدت مبشّرةً من واشنطن: البيت الأبيض أعلن أن ستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس الأميركي، سيتوجّه إلى المنطقة قريباً لدفع صفقة الأسرى إلى الأمام. لكن، بعد يومين فقط، خبت الآمال مجدداً. فبعد أسبوعين ونصف من تقدم طفيف جداً، أعلن ديوان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عن سحب فريق المفاوضات من الدوحة، عاصمة قطر".
عدم الحسم العسكري في غزة، ترافق مع عدم قدرة إسرائيل على فرض شروطها كافة على حماس
فشل السيطرة على آلية المساعدات
عدم حسم المعركة وفشل المفاوضات ترافقا أيضاً مع فشل بناء آلية جديدة لإدخال المساعدات إلى قطاع غزة. فقد أنشأت حكومة بنيامين نتنياهو في فبراير/ شباط 2024 ما يُعرف بـ"صندوق المساعدات الإنسانية لغزة"، بهدف تعزيز سيطرة إسرائيل على آليات توزيع المساعدات، ومنع وصولها إلى حركة حماس كما تدعي إسرائيل، وتقويض عمل منظومات الإغاثة التقليدية والفعّالة التي تقودها الأمم المتحدة، وفي مقدمتها وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، إلى جانب منظمات دولية أخرى.
في مطلع مارس/ آذار، خرقت الحكومة الإسرائيلية اتفاق وقف النار من خلال إغلاق جميع المعابر المؤدية إلى قطاع غزة، ووقف إدخال المساعدات الإنسانية عبر المنظمات الدولية، وقطع إمدادات الكهرباء عن القطاع.
على الرغم من إنشاء الصندوق في فبراير، لم يبدأ توزيع المساعدات عبره فعلياً إلا في أواخر شهر مايو/ أيار الماضي، وسط انتقادات حادة واتهامات بفشل آليات التوزيع الجديدة وتسببها في تعميق الكارثة الإنسانية في غزة.
لم تقتصر الأضرار التي لحقت بعمل المنظمات الدولية على الحدّ الكبير من قدرتها على الوصول إلى قطاع غزة وسكّانه، بل تجسّدت أيضاً في تأخير أو منع إدخال سلع ومواد حيوية، بما في ذلك المعدّات الطبية والمواد الغذائية الأساسية. وفي الأسابيع الأخيرة، صعّدت إسرائيل من وتيرة عمليتها العسكرية الهادفة إلى تدمير قطاع غزة. قبل نحو عشرة أيام، بدأت المؤشرات تتجه نحو سيناريو كارثي طالما حذّر منه خبراء ومؤسسات دولية: الوصول إلى "نقطة اللاعودة"، حيث تصبح الوفيات الناتجة عن سوء التغذية منتشرة بشكل واسع، ويصعب تدارك آثارها، ما ينذر بكارثة إنسانية طويلة الأمد.
تغيير السياسات
نتيجة لتراكم الأحداث وتزايد الضغوط الدولية، ومع التحذيرات الصادرة عن وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر والسفير الإسرائيلي في واشنطن يحييل ليتر، اللذين نبّها إلى احتمال حدوث انهيار دبلوماسي حاد وتبعات خطيرة في حال استمر الوضع على ما هو عليه، جاء التحوّل في موقف الحكومة الإسرائيلية، وفقاً للصحافي اليميني عميت سيغل، المعروف بقربه من دوائر صنع القرار (موقع ماكو - القناة 12، الأحد 27 يوليو).
في هذا السياق، أعلن الجيش الإسرائيلي، مساء الجمعة في 25 يوليو، عن بدء تنفيذ القرار الذي يشمل تحديد ممرات إنسانية تتيح حركة آمنة لقوافل الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة، بهدف إدخال الغذاء والدواء إلى قطاع غزة. كما أُعلن عن تنظيم "هدنات إنسانية" في المناطق ذات الكثافة السكّانية العالية، لتسهيل وصول المساعدات وتقليل الأضرار في صفوف المدنيين.
نبّه ساعر وليتر إلى احتمال حدوث انهيار دبلوماسي حاد وتبعات خطيرة في حال استمر الوضع على ما هو عليه
بهذا الإعلان، تُقرّ الحكومة الإسرائيلية والجيش، بشكل غير مباشر، بفشل محاولتهما فرض نظام بديل لإدخال وتوزيع المساعدات الإنسانية في القطاع. فقد أدركت إسرائيل هذه المرة أنها لا تستطيع تجاهل الغضب العالمي المتزايد من سياسات التجويع والإبادة الجماعية في غزة، ومن استمرار منع دخول المساعدات الأساسية.
النتائج السياسية الداخلية
يرى عدد من المحللين والصحافيين الإسرائيليين أن ما جرى في الأيام الأخيرة، من تغيير في سياسات إدخال المساعدات إلى قطاع غزة، يُعدّ اعترافاً صريحاً بفشل آخر لحكومة نتنياهو. في هذا السياق، كتب الصحافي ناحوم بارنياع في موقع "واينت" (الاثنين 28 يوليو) أنه "بعد مرور عام على الحرب، أو حتى قبل ذلك، كان على الحكومة والجيش أن يدركا أن الوضع في غزة قد انقلب رأساً على عقب: الفائدة المرجوة من قتال تخوضه خمس فرق عسكرية باتت ضئيلة إلى حدّ التلاشي، بينما الأضرار تتزايد بشكل خطير". وأضاف بارنياع، "بعد عامين، تلقّينا الضرب، وأكلنا السمك العفن، وها هم أصدقاؤنا في العالم يطالبون بطردنا من المدينة. الكارثة بلغت من الضخامة ما دفع بنتنياهو إلى إنزال الأعلام، وإيقاف العملية العسكرية، خلال ساعات النهار، والانصياع لمطالب الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، والبدء بإدخال المساعدات الغذائية. ومن شدة خوفه من ردّ فعل غاضب من (وزير المالية بتسلئيل) سموتريتش و(وزير الأمن القومي إيتمار) بن غفير، استسلم نتنياهو في الخفاء، كآخر الجبناء".
الجنرال الاحتياط يسرائيل زيف كتب في موقع "ماكو – القناة 12" (28 يوليو): "بعد فشل جميع المناورات ومحاولات مطاردة المسلحين المتبقين وتحقيق الحسم المنشود، وما تسبب به ذلك من سقوط المزيد من القتلى في صفوف الجنود، جاء الفشل الكامل في ما بات يُعرف بـ"حرب الغذاء"، التي تورّطت فيها إسرائيل بسذاجة. وها هي الآن تركض مذعورة في محاولة يائسة لإصلاح ما يمكن إصلاحه بعد أن وقعت الأضرار الجسيمة... استمرار الحرب، التي تحوّلت مبرراتها من تحرير الأسرى إلى حرب تجويع، ومن حرب "مبرّرة" إلى حرب "ملعونة"، قد محا حتى آخر ذريعة كانت لدى إسرائيل لتمديدها، وهي إعادة الأسرى. قد يكون من الممكن تبرير حرب طويلة ضد مقاتلين، لكن لا يمكن تبرير موت الأطفال جوعاً".
لم يُشرك رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وزيري اليمين المتطرف، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، في قراره إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة. وبحسب الصحافي عميت سيغل، فإن اتخاذ القرار من دون إشراك سموتريتش وبن غفير يكشف عن تصدّع حاد داخل الجناح اليميني في الائتلاف الحكومي.
في حال تم تجاوز الأزمة مع سموتريتش، فإن نتنياهو سيقدّم له تعويضاً استراتيجياً
فقد أقرّت مصادر في "الصهيونية الدينية" (حزب سموتريتش) وفي محيط رئيس الحكومة، وفقا لموقع "والا" الإخباري يوم الأحد 27 يوليو، بوجود أزمة بين وزير المالية ونتنياهو، على خلفية إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة. ومع ذلك، يقدّر الجانبان أن الأزمة الحالية سيتم احتواؤها في نهاية المطاف. وفقاً لـ"والا"، إذا لم تُحلّ هذه الأزمة، فقد يصل الأمر إلى حدّ تفكيك الحكومة. وأشار مصدر من التيار ذاته إلى أنه في حال تم تجاوز الأزمة، فإن رئيس الحكومة سيقدّم "تعويضاً استراتيجياً" يتعلق بسير المعركة في غزة، من شأنه أن يقود إلى حسم المواجهة.
يذكر في هذا السياق، أنه بحسب ما نشرت صحيفة هآرتس ليل الاثنين – الثلاثاء، فإنه من المتوقع أن يقترح نتنياهو على المجلس الوزاري للشؤون السياسية والأمنية (كابنيت) خطة لضم مناطق في قطاع غزة، في محاولة للإبقاء على سموتريتش ضمن حكومته. ووفقاً للخطة التي أشارت إليها الصحيفة، ستعلن إسرائيل أنها تمنح "حماس" أياماً عدة للموافقة على وقف النار، وإن لم يحدث ذلك، ستباشر بضمّ أراضي القطاع.
أما وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، فقد هاجم قرار الحكومة إدخال المساعدات بشكل علني ورأى فيه "خضوعاً لحملة الكذب التي تقودها حماس، وهو ما يعرّض جنود الجيش الإسرائيلي للخطر". وأضاف: "الطريقة الوحيدة للانتصار في هذه الحرب واستعادة الأسرى هي وقف كافة أشكال ما يُسمّى بالمساعدات الإنسانية، واحتلال كامل القطاع، وتشجيع الهجرة الطوعية".
على ما يبدو، فإن الأزمة بين نتنياهو وسموتريتش لم تتوسع لغاية الآن، بحيث أفادت وسائل إعلام إسرائيلية في 28 يوليو، أن وزير المالية أعلن لأعضاء "الصهيونية الدينية" أن الحزب سيبقى في الحكومة في هذه المرحلة. وقال سموتريتش: "في أوقات الحرب، لا يصح اتخاذ قرارات بدوافع سياسية"، مضيفاً أنه "سيكون تقييمنا بناءً على النتيجة، إخضاع حركة حماس. نحن نقود خطوة استراتيجية مهمة، ومن غير المناسب الإفصاح عن تفاصيلها في الوقت الراهن. خلال فترة وجيزة سيتضح ما إذا كانت هذه الخطوة ناجحة وإلى أين نتجه".
من غير المستبعد، استناداً إلى تصريحات بتسلئيل سموتريتش أن يكون قرار إدخال المساعدات إلى قطاع غزة بمثابة مناورة جديدة من قبل نتنياهو، تهدف إلى تخفيف الضغوط الدولية المتزايدة على إسرائيل، وكسب المزيد من الوقت، مع الاستمرار في الحرب وسياسة التجويع بوسائل وأدوات مختلفة. كما لا يُستبعد أن تكون التطمينات التي قدّمها نتنياهو لسموتريتش مجرد وسيلة لكسب الوقت ومنع تفكك الائتلاف الحكومي. الأيام المقبلة كفيلة بكشف السيناريو الأقرب إلى الواقع.
إلا أن ما بات واضحاً أن اضطرار إسرائيل إلى السماح بإدخال المساعدات يؤكد أنها ليست محصنة أمام الضغوط الدولية. فهناك حدود لجنون القوة والغطرسة، ويثبت ذلك أنه من الممكن إنهاء معاناة سكّان غزة ووقف حرب الإبادة، إذا توفرت الإرادة الإقليمية والدولية الجادة لذلك.