مؤتمر مدريد: من حلم التحرير إلى وهم الدولة

مؤتمر مدريد: من حلم التحرير إلى وهم الدولة

28 نوفمبر 2021
حنان عشراوي وحيدر عبدالشافي وفيصل الحسيني مثلوا الفلسطينيين بالمؤتمر (برنارد بيسون/Getty)
+ الخط -

لم يكن قرار منظمة التحرير الفلسطينية، المشاركة غير المباشرة في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، متصلا بحلم إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة عاصمتها القدس الشرقية، بل جاء تحت ضغوط إجماع دولي وتهديدات عربية ودولية، وحرمان الفلسطينيين من تمثيل حقوقهم الوطنية، وتركها لأنظمة عربية.
عكس القرار الفلسطيني موازين القوى المختلة بعد قصف العراق وإضعاف بلاد الرافدين، وانهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، لكن القرار أيضا عكس غياب رؤية استراتيجية فلسطينية، سواء لتحرير كل فلسطين أو إقامة دولة فلسطينية على 20% من أرض فلسطين التاريخية.
صحيح كانت هناك أوهام لدى نخب فلسطينية داخل المنظمة الفلسطينية، أن انتهاء الحرب الباردة سوف تُبطل معارضة الولايات المتحدة لفكرة إقامة دولة فلسطينية، وسيادة حالة التخبط والانفراد بالقرار، وحالة من الإحباط التي دبت في كل العالم العربي بعد حرب العراق، بل وحالة استسلام بين بعض القيادات الفلسطينية التي خشيت من مقاطعة مدريد يعني انتهاء منظمة التحرير.
هنا لا نقصد نهاية القيادة فحسب بل عودة القضية الفلسطينية إلى الاحتواء الرسمي العربي، خاصة أن واشنطن كانت ترفض مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية، بتمثيل الأردن للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة، فالحديث عن تمثيل فلسطيني مستقل كان مرفوضا أميركيا وإسرائيليا، تعبيرا عن رفض الحقوق الوطنية الفلسطينية، فالأردن الرسمي يستطيع تمثيل السكان والتفاوض على شكل التسوية النهائية للضفة الغربية والقدس وغزة، لكن الأردن لن يستطيع تمثيل الحقوق التاريخية والوطنية المشروعة وأهمها حق العودة.
يجب التذكير بنقطتين هنا: أولا، أن الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة رفض مرارا أن يمثله الأردن، كناظم لصوته ومطالبه، ثانيا أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى حسمت مسألة التمثيل لصالح منظمة التحرير الفلسطيني، إذ كانت بمثابة تصويت شعبي أهم من قرارات القمة العربية في الرباط ومن اعتراف الأمم المتحدة بالمنظمة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ويجب التذكير أيضا أن قرار الأردن فك الارتباط الإداري مع الضفة الغربية جاء ردة فعل على الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
لكن الولايات المتحدة بعد الانتفاضة الأولى رفضت تمثيلا مستقلا للفلسطينيين، لأنها اعتبرت الهوية الفلسطينية تهديدا للشرعية الإسرائيلية، وأصرت منذ مباردة الرئيس دونالد ريغان "للسلام" عام 1982، أن تبدأ مفاوضات تقود خلالها الأردن وفدا أردنيا فلسطينيا مشتركا مرجعيته النظام الرسمي الأردني، وهو ما رفضه الفلسطينيون. لكن واشنطن عادت وقبلت نتيجة الانتفاضة ورغبتها باحتواء الغضب بعد حصار وتدمير البنى التحتية للعراق، وتأييد الفلسطينيين لمنظمة التحرير، قبل أن يكون هناك وفد مشترك، تم تعيين الشق الفلسطيني منه من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، وتكون المنظمة مرجعيته السياسية الوحيدة.
طغى حسم مسألة التمثيل في المفاوضات على الأجواء عشية مدريد، التي اتسمت بسيادة إحساس عربي رسمي ومن بعض النخب بالهزيمة، في جزء منه نتج عن وهم احتمال انتصار العراق على أميركا، والأهم تخلي الدول العربية عن فلسطين والعراق، ودخول أغلبها في الحرب مع أميركا بعد احتلال الكويت، لكن الغائب كان وضوح رؤية فلسطينية، فحتى حلم الدولة، وهما أو حقيقة كان بحاجة لرؤية، وهي كانت مفقودة، مما سهل أن تتدحرج القرارات كردود فعل وليس كفعل مبني على فهم أو مخطط استراتيجي.
غياب الفكر الاستراتيجي كان واضحا في جلسات المجلس الوطني في الجزائر التي أقرت شروط المشاركة في مؤتمر مدريد، إذ إن الغالب عليها الضغوط والاتصالات العربية والغربية للضغط على منظمة التحرير، بدلا من نقاش حقيقي ودراسات لتبعات المشاركة. ولعبت مصر الدور الرئيس بين الدول العربية للضغط باتجاه القبول، أما منظمة التحرير فكانت تحت وهم أو اعتقاد بأن شروط قبولها لقرار مجلس الأمن 242 الذي أضافت له شرطا في بياناتها، هو حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره وإقامة دولته الفلسطينية، كان كافيا لأن تكون مرجعية وهدفا لمحادثات مدريد وبعد ذلك لاتفاقيات أوسلو.
لا مؤتمر مدريد، ولا حتى اتفاقيات أوسلو كانت تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية، كان ذلك الوهم أو الهدف الفلسطيني لكن كل المرجعيات التي فرضتها إسرائيل وأميركا لم تكن تتحدث عن تنفيذ قرار 242، بمعنى الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي التي احتلتها عام 1967، بل عن أن المحادثات مبنية على قرارات الأمم المتحدة وليس تنفيذها، اي أن ما ينفذ هو ما يتفق عليه الأطراف تبعا لموازين القوى، القصد هنا أن الدولة الفلسطينية لم تكن جزءا من أي من هذه التصورات والمعادلات التي فرضتها إسرائيل وأميركا لما يسمى علميات السلام أو مفاوضات السلام.
جذور فكرة الدولة على جزء من أرض فلسطين نبتت في قرار التقسيم، الذي ينادى بدولتين عربية ويهودية على أرض فلسطين، حين انطلقت الثورة الفلسطينية، لم يكن ذلك في أهدافها ولا في رؤيتها بل دولة على كامل التراب الفلسطيني، إذ انطلقت قبل حرب 1967، لكنها عادت له بعد الاحتلال وخاصة بعد أن تجاهل قرار 242 حق الشعب الفلسطيني في الحرية والتحرر وتقرير المصير وحق العودة، فبعد الحرب العالمية الثانية وحركات التحرر ضد الكولونيالية ارتبطت فكرة التحرر بحق تقرير المصير وإنشاء الدولة، لكن في حالة فلسطين أصبح شرط إقامة الدولة على جزء من أرض فلسطين التاريخية بالقبول بالتخلي عن السيادة والحقوق الوطنية التاريخية الفلسطينية واستمرار المشروع الاستيطاني العنصري في فلسطين، مما جعله نقيضا للتحرر والاستقلال.
لكن أثناء نضالهم، كما الكثير من الشعوب، وجد الفلسطينيون أنفسهم في حلف مع المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي، والذي أصر وهو الحليف الأهم في مواجهة أميركا، على أن لا حل دون شرعية منبثقة عن الأمم المتحدة التي اعترفت بإسرائيل في القرار 181. ورأينا انعكاس ذلك في القبول فيما سمي ببرنامج النقاط العشر الذي تبنته منظمة التحرير في عام 1974، وساهم في زرع فكرة إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة وعاصمتها القدس في الوعي الفلسطيني. لكنه بدأ كحل مرحلي انتقالي للوصول إلى تحرير كامل فلسطين، ليتحول إلى هدف بحد ذاته خاصة بعد الغزو الإسرائيلي للبنان وخروج المقاومة الفلسطينية من أقرب نقطة إلى فلسطين.
لا أريد أن أقلل هنا من أهمية اعتراف دول بالدولة الفلسطينية، لأنه في حينها كان، وما زال، اعترافا بالهوية الفلسطينية، وكانت وما زالت إسرائيل ترفض وتحاول منع هذا الاعتراف الدولي، لأن المشروع الصهيوني لا يقبل أي اعتراف بالهوية الوطنية الفلسطينية العربية للشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية في أي قطعة من أرض فلسطين، لكن غياب رؤية فلسطينية واحدة والعقلية المستسلمة في منظمة التحرير التي خضعت لخدعة كبيرة؛ حق تقرير المصير الذي تحدده إملاءات وشروط أميركية وإسرائيلية هو ليس ممارسة لحق تقرير المصير بل عبارة عن استسلام وخضوع للمشروع الصهيوني.
حديث أميركا عن دولة فلسطينية، لا يعني دولة فلسطينية مستقلة أو تحرراً، بل كيان تفرضه وتسيطر عليه إسرائيل، فالتسمية هي طعم ليس أكثر، لكن المسألة الأكثر إلحاحا فلسطينيا لا تكمن في النقاش حول دولة أو دولتين، لأن دون العودة إلى مفهوم التحرر الوطني وبرنامج تحرر وطني لا فرق بين التسميات، إن كان دولة ممسوخة تحت شعار حل الدولتين أو دولة واحدة إسرائيل، فالأساس هو إحياء رؤية حركة تحرر وطني جوهره حق العودة لأنه شرط تفكيك المشروع الصهيوني.