استمع إلى الملخص
- الأوضاع الاقتصادية والأمنية المتدهورة تجعل الاحتجاج مجازفة خطيرة، حيث تحولت الأولويات من بناء الدولة إلى البقاء على قيد الحياة، مع انتشار الفساد بين النخب الجديدة.
- جيل ما بعد الثورة يعيش في ظل مشاهد العنف والانقسام، مما يجعل الحديث عن مبادئ الثورة ترفاً، لكن روح فبراير تبقى حية في انتظار مصالحة وطنية تعيد الأمل.
مرّت الذكرى الـ14 لثورة 17 فبراير/ شباط الليبية، التي وافقت الاثنين الماضي، في أجواء باهتة طبعت مشهد الميادين والساحات التي كانت في السنوات الماضية تعج بحشود المحتفلين، لا في يوم ذكراها فحسب، بل لعدة أيام تسبقها، يرفعون الأعلام ويهتفون بالحرية. فهل الصمت والقلق مؤشر يعكس تضاؤل الأمل؟ وهل ما زال الليبيون يؤمنون بمبادئ هذه الثورة؟
بخلاف ما كان يأمل الليبيون، فقد تحوّل التنافس السياسي من حالة صحية ضرورية لإثراء أجواء الاختلاف إلى خلافات سياسية، سريعاً ما تطورت إلى انقسام شق البلاد بين حكومتين، حكومة في طرابلس تعترف بها الأمم المتحدة، وحكومة في بنغازي عينها مجلس النواب. لكن الأصعب من هذا التمزق والتشظي في مؤسسات الدولة أنه طاول شرعيتها في نظر المواطنين. فحتى الآن، ورغم مرور قرابة العقد ونصف العقد من عمر الثورة لم تجر أي انتخابات حقيقية يمكنها أن تحقق العدالة التي وعُد بها شهداء الثورة. والأنكى أن الليبيين لم يعودوا ينظرون لأطراف الصراع باعتبارهم خصوماً سياسيين بل متصارعين من أجل مصالحهم الخاصة التي حولت مبادئ وقيم الثورة إلى سلعة يتنازعون عليها.
في خضم ذلك، يعاني الليبيون من خناق اقتصادي متزايد، ليس أقله انهيار العملة المحلية ومنظومة الصحة والتعليم وضيق الخيارات، إلى جانب تدهور كبير في الوضع الأمني وانتشار الجريمة وملف المهاجرين ونفوذ المسلحين. ووسط كل هذا أصبح الخروج للاحتجاج وتصحيح مسار الثورة مجازفة لا تحتمل. فكيف يُفكر الناس في الاحتفال بذكرى الثورة وهم يخشون أي انفجار عشوائي مسلح؟لقد تحولت الأولويات لدى الليبيين من بناء الدولة إلى البقاء على قيد الحياة. وصار الحديث عن مبادئ الثورة وقيمها ضرباً من الترف في ظل تحول الفساد إلى ثقافة سائدة في أوساط النخب الجديدة التي كرست نظماً لاحتكار الثروة أكثر ظلماً من سابقاتها.
أما جيل ما بعد الثورة، فصار حديثهم عنها كرواية أو حكاية من الماضي الذي لا يعنيهم. فلم يعيشوا سوى مشاهد الاغتيالات والحروب ونفوذ المسلحين وتقارير مؤشرات تدني الاقتصاد وشبح التقسيم وغيرها من الصور، وهم مشغولون بضياع فرص التعليم اللازم والرعاية الصحية اللائقة وغيرها من ضرورات الحياة. كل ذلك صحيح، لكن في غضون ذلك قد يظهر وجه آخر لتراجع الاحتفاء بذكرى فبراير، فالثورة ليست مجرد حدث سنوي، بل مرحلة عصيبة لا بد أن تمر خلالها البلاد بعقبات وصعوبات، فليس الأمر تخلياً عن مبادئ الثورة وقيمها بل احتجاج ضمني وعدم رضا بما يحدث، لتبقى روح فبراير حيّة في ذاكرة من آمنوا بها، في انتظار لحظة مصالحة وطنية تعيد للثورة شرعيتها، ولليبيين أملهم الضائع.