استمع إلى الملخص
- أصدر المجلس الرئاسي الليبي مراسيم لتعطيل قانون المحكمة الدستورية وتفعيل مفوضية الاستفتاء الوطني، مع دعوة لإجراء انتخابات مبكرة، مما يعكس تداخل المصالح السياسية.
- تأتي التحركات في سياق المبادرة الأممية لحل الخلافات الانتخابية، حيث تسعى الأطراف الليبية لتعزيز مواقعها، بينما تشير التحركات الدولية إلى توحيد السلطة السياسية والعسكرية.
في ظل أجواء سياسية مشحونة وتحديات اقتصادية جمّة في ليبيا، اتخذت حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، سلسلة إجراءات متلاحقة لاحتواء انتقادات متصاعدة حول إنفاقها المالي الواسع، في الوقت الذي يُنتظر فيه أن تعلن البعثة الأممية في ليبيا عن نتائج أعمال اللجنة الاستشارية باعتبارها خطوة أولى في مبادرتها السياسية التي أعلنتها في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
وجاءت إجراءات وقرارات الحكومة الأخيرة على خلفية إعلان المصرف المركزي عن حجم الإنفاق الحكومي للعام الماضي، الذي بلغ 224 مليار دينار (الدولار = 5٫46 دنانير)، ما أثار جدلاً واسعاً حول الهدر المالي الكبير، الأمر الذي دفع الحكومة إلى إصدار حزمة قرارات تحت عنوان "ترشيد الإنفاق"، شملت إلغاء 25 سفارة ومراجعة عقود شركات النفط المحلية وإعفاء نائب رئيس الوزراء رمضان أبو جناح من مهامه وزيراً للصحة وإحالته إلى التحقيق. وجاء تركيز إجراءات الحكومة في ملف ترشيد الإنفاق على السفارات وقطاعي النفط والصحة بسبب الاتهامات في توسعها بإيفاد الموظفين إلى السفارات وإنفاقها الكبير على قطاعي النفط والصحة.
ولم تقتصر قرارات الحكومة على إجراءات داخلية، بل امتدت إلى ساحة الصراع مع حكومة مجلس النواب في بنغازي، حيث وجّه الدبيبة مسار الاتهامات عبر تسليط الضوء على إنفاق حكومة مجلس النواب الذي بلغ 59 مليار دينار واصفاً إياه بـ"الإنفاق الموازي"، وطالب النائب العام بفتح تحقيق عاجل. وبالتوازي مع ذلك، شنّ الدبيبة هجوماً لاذعاً على رئيس مجلس النواب عقيلة صالح معتبراً إياه المسؤول عن هذا الإنفاق بسبب توقيعه على مصروفات الحكومة في الشرق، وتعزيز الانقسام الحكومي.
وبالتزامن مع قرارات الحكومة، أصدر المجلس الرئاسي الليبي، الذي يرأسه محمد المنفي، عدة قرارات بشكل مفاجئ على شكل مراسيم، شملت تعطيل قانون المحكمة الدستورية الصادر عن مجلس النواب وتفعيل مفوضية الاستفتاء الوطني لطرح القوانين على الاستفتاء الشعبي. وفي سياق قريب، أضاف رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة بُعداً جديداً للمشهد في ليبيا بدعوته، الاثنين الماضي، أعضاء المجلس الأعلى للدولة إلى تشكيل لجنة مشتركة بالمجلس لإجراء انتخابات مبكرة لمكتب الرئاسة في جلسة عامة بحضور جميع الأعضاء.
ويربط مراقبون بين تزامن إجراءات الحكومة ومراسيم المجلس الرئاسي باعتبار أنهما مكونا السلطة التنفيذية التي أفرزها اتفاق ملتقى جنيف عام 2021، بالإضافة إلى العلاقات التي تجمع أعضاء المجلس الرئاسي بالحكومة، كما يلفتون إلى الدعم الذي تقدمه حكومة الدبيبة لتكالة في صراعه على شرعية رئاسة المجلس الأعلى للدولة مع خصمه خالد المشري، الذي يعد الأكثر قرباً من سياسات مجلس النواب.
ويبدو أنّ هذه التحركات المتشابكة على علاقة بسياق المبادرة الأممية التي من المنتظر أن تُعلن، خلال الأيام القليلة المقبلة، عن نتائج أعمال اللجنة الاستشارية المكلفة بحلّ الخلافات في ليبيا حول القوانين الانتخابية، خاصة أن طبيعة القضايا الخلافية في القوانين الانتخابية شهدت تغييراً، فلم تعد متعلّقة بشكل أساسي بقضايا ترشح العسكريين وحاملي الجنسيات الأجنبية للانتخابات، بل بات الخلاف فيها متركزاً على الوضع الحكومي بوصفه عقبة رئيسية أمام الانتخابات، حيث جعل مجلس النواب بند وجود حكومة موحدة في البلاد شرطاً أساسياً لإجراء الانتخابات التي لن تحدث في ظل وجود حكومتين متنافستين.
وفي هذا الإطار، يرى الناشط السياسي جمعة شليبك، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ حكومة طرابلس وجدت نفسها في موقف دفاعي مفاجئ بعد إعلان المصرف المركزي عن قضية الإنفاق في توقيت حساس، فالمفترض أن يعلن المصرف عن حجم الإنفاق للعام الماضي في يناير/ كانون الثاني الماضي، لكن إعلانه تأخر إلى الأسبوع ما قبل الماضي، "ما قد يعكس تعمّد وضع الحكومة في وضع حرج لزيادة الضغط عليها"، وفق رأي شليبك.
ويفسر شليبك حزمة قرارات الدبيبة الأخيرة بأنها محاولة منه لاحتواء الأزمة عبر تقديم حكومته في صورة "الشفافية والمحاسبة"، خاصة من خلال عقد اجتماعات حكومية مباشرة عبر التلفزيون، في مقابل صمت حكومة بنغازي عن تفاصيل إنفاقها، معتبراً أنّ تحرّكات الدبيبة هذه تهدف إلى تقديم نفسه شخصيةً قادرةً على إدارة أي حكومة موحّدة في المستقبل القريب. وفيما يصف شليبك تحرّكات الدبيبة بـ"المناورات"، يرجح نجاحها "بالنظر إلى أنّ جميع الأطراف السياسية تعاني تآكل الشرعيات، وأن مبادرة الأمم المتحدة لن تشكّل خطراً كبيراً بالنظر على فشل مبادراتها السابقة".
وحول تزامن تحركات الحكومة وتحركات المجلس الرئاسي وتكالة، يرى شليبك أنه "تزامن مرتبط بمصالح الأطراف الثلاثة"، بل ويرى أنّ الحكومة هي منْ دفعت المجلس الرئاسي وتكالة للتحرك، من خلال مراسيم المجلس الرئاسي للكشف عن هشاشة الشرعية الدستورية لمجلس النواب وتعطيل قراراته بعرضها على الاستفتاء الشعبي. ويرجّح شليبك أن طرح تكالة مبادرةَ وفاق مع خصمه المشري هدفها توحيد المجلس وإعادته إلى المشهد شريكاً في العملية السياسية، ولكسر انفراد مجلس النواب بالقرارات السياسية.
بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا ستعلن خلال أيام عن نتائج أعمال اللجنة الاستشارية المكلفة بحلّ الخلافات حول القوانين الانتخابية
من جهة أخرى، يقدم أستاذ العلوم السياسية حسين الرقيق قراءة مختلفة معتبراً أنّ الدبيبة يعيش "أضعف لحظاته" وسط ارتباك واضح في إدارته، حيث ظهر في اجتماعاته الأخيرة وهو يوجه انتقادات حادة لوزرائه ويتهمهم بالتقصير، في تناقض بين حديثه عن الشفافية من جهة واعترافه الضمني بوجود إنفاق واسع من جهة أخرى، مشيراً إلى أن الدبيبة "ظهر وكأنه يريد تبرئة نفسه والتخلّي عن وزرائه".
ويرجّح الرقيق، في حديثه لـ"العربي الجديد"، عِلم الأوساط الليبية بأن البعثة الأممية في ليبيا تعمل على دفع الأطراف الليبية نحو تشكيل وجه سياسي جديد، وهو ما يفسّر حالة الارتباك التي تعيشها الحكومة ومجلس النواب الذي تعامل مع مراسيم المجلس الرئاسي رغم إعلانه سابقاً عن انتهاء ولايته، وفق رأي الرقيق.
ويلفت الرقيق إلى أنّ التحرّك الأممي يتزامن مع توجه دولي تقوده واشنطن لبناء سلطة موحدة قائمة على القوى المسيطرة على الأرض، مشيراً إلى أن زيارة السفينة الحربية الأميركية أخيراً إلى طرابلس وبنغازي "حملت خطاباً أمنياً واضحاً، كما أن واشنطن استضافت لديها شخصيات عسكرية من غرب وشرق ليبيا". ويرى الرقيق أنّ كل ذلك يعكس تبني واشنطن رؤية دولية جديدة بمقاربة أمنية عبر توحيد المؤسستين العسكريتين في شرق ليبيا وغربها، لتكون المدخل لتشكيل سلطة سياسية موحدة.
وفي هذا السياق، يرى الرقيق أنّ الدبيبة يحاول تعزيز أوراقه عبر التركيز على الملف الاقتصادي، لإدراكه أنه الملف المحوري في أي رؤية دولية للملف الليبي، وكذلك يعمل على ترميم تحالفاته العسكرية، كما حدث في استضافته وفداً من الزنتان في مصراتة، مطلع الأسبوع الجاري، لتحسين العلاقات مع اللواء أسامة الجويلي، قائد إحدى أكبر القوات العسكرية في أقصى غرب ليبيا.
ويرى الرقيق أنّ مسار العملية السياسية في ليبيا التي تقودها الأمم المتحدة "قد يطول أكثر مما يتوقع الكثيرون، فيما ستحدث في الأثناء تحولات جذرية في الوضع الأمني، ليأتي توحيد السلطة السياسية تتويجاً لهذه التحولات، وعليه، فجميع الأطراف تسعى للظهور من خلال الدفع بالقرارات المثيرة لتثبت نفسها في معركة ترتيب الأوراق قبل وصول البعثة الأممية إلى المراحل الأخيرة من مبادرتها، ولن تجد بدلاً من التعامل مع الأطراف التي ستكون وقتها عززت تحالفاتها على الأرض"، وفق قوله.