قمة الأطلسي: ترميم البيت الداخلي

قمة الأطلسي: ترميم البيت الداخلي

14 يونيو 2021
بايدن: الدفاع عن الشركاء في الحلف واجب مقدس (فرانسوا موري/فرانس برس)
+ الخط -

على الرغم من المراجعة الضرورية التي ينادي بها قادة دول عدة داخل حلف شمال الأطلسي (ناتو)، منذ مدة، لاستراتيجية الحلف في القرن الـ21، طغت العودة الأميركية، اليوم الإثنين، على ما عداها في القمة الـ31 للحلف المؤلف من 30 دولة، والتي انعقدت لثلاث ساعات فقط في بروكسل. ومع العودة الأميركية، بدا الرئيس جو بايدن وكأنه يحاول إعادة ضخّ الحياة في جسم هذا التحالف العسكري، الذي تأسس في العام 1949، على الرغم من بقائه التحالف العسكري الأقوى في العالم. وسعى بايدن، من بروكسل، إلى استنهاض الحلفاء لمواجهة التحديات الجديدة، وتمكن بشكل أو بآخر، من إزالة صورة عن الحلف زرعها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، لأربع سنوات متتالية سابقة، حين صوّره كمؤسّسة بيروقراطية، أو مدرسة لا يدفع طلّابها ما يتوجب عليهم لها.

الحلف، الذي ودّع اليوم رمزياً أطول حروبه، في أفغانستان، يفترض أن يكون خطاب بايدن، أو الخطوط العريضة التي رسمها البيت الأبيض في ما خصّ رؤيته لاستراتيجية الحلف المقبلة، عشّية القمة، منطلقاً لورشة عمل جديدة داخله، لتطبيق أجندة "الناتو 2030"، بعدما أصبح المفهوم الاستراتيجي لـ2010 بالياً. ويتوقع اعتماد المفهوم الجديد في قمة العام المقبل، ويواجه الحلف حول ذلك تحديات عدة، أهمها اضطراره، من أجل ديمومة وجوده، أن يرصد منطقة المحيطين الهادئ والهندي، لمراقبة الصين، بعدما أصبحت أولوية أميركية، وسط خشية من تحوله إلى منظومة سياسية، بالإضافة إلى ما يترتب عليه لإبقاء وزيادة الردع في وجه روسيا، فضلاً عن "التحديات الهجينة"، والدفاع التكنولوجي السيبراني الذي وضعه الأميركيون على رأس أجندته. ولا يزال على الأعضاء في الحلف أن يبذلوا الكثير من العمل للتوافق، واستعادة الثقة، فيما يسابقهم الوقت، وفيما تسعى أميركا، على الرغم من إبدائها حسن النية، لبناء تحالفات عالمية أوسع.

بايدن: الصين وروسيا لا تتصرفان بالطريقة التي كنا نأملها

وأكد الرئيس الأميركي جو بايدن، اليوم، من بروكسل، على أهمية حلف شمال الأطلسي بالنسبة إلى الولايات المتحدة، متعهداً باستمرار دعم واشنطن لحلفائها خلال القمة. وقال بايدن: "أريد أن تعرف كلّ أوروبا أن أميركا هنا"، مؤكداً أن الدفاع عن الشركاء في الحلف "واجب مقدس". وأشار إلى المادة الخامسة من تعهد الحلف الجماعي (أي اعتداء على عضو في الحلف هو اعتداء على الحلف)، محذراً من التحديات التي يواجهها الـ"ناتو" في التعامل مع الصين وروسيا. وقال: "أعتقد أنه خلال العامين الماضيين، أصبح هناك إدراك متزايد أن لدينا تحديات جديدة. لدينا روسيا التي لا تتصرف بالطريقة التي كنّا نأملها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصين". وكان بايدن قد شدّد عشية القمة، من لندن، على أن بلاده "مؤمنة بأن حلف الأطلسي أساسي للحفاظ على أمن أميركا لما تبقى من القرن الـ21". وأبدى ثقته إثر قمة مجموعة السبع، بأن بلاده استعادت مصداقيتها مع الحلفاء.

وكان الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، الذي زار واشنطن في 7 يونيو/ حزيران الحالي، والتقى بايدن، قد حصل من الأخير خلال الزيارة على اتفاق حول "المفهوم" المتعلق باستراتيجية الحلف المقبلة، في مواجهة خصم تقليدي، هو روسيا، التي تزداد أنشطتها التي يصفها الغرب بـ"العدائية" في المنطقة، و"الخطر" الجديد المتمثل بالصين. وكان الأميركيون قد تدرجوا في توصيف "الخطر الصيني"، منذ أن أطلق الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما سياسة الاستدارة شرقاً، ثم وصف إدارة ترامب في أول مراجعة للأمن القومي في عهدها، الصين بأنها "منافس" للولايات المتحدة، و"قوة رجعية تسعى إلى القضاء على الازدهار والأمن الأميركي". وترسم إدارة بايدن اليوم معالم لصراع متعدد الجوانب مع الصين، يتداخل فيه السياسي والأيديولوجي والاقتصادي، بالعسكري والتكنولوجي.

وأكد مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، أمس الأحد، أن البيان الختامي للقمة لن يتضمن فقرات كثيرة عن الصين، في وقت أشارت فيه تقارير عدة إلى رغبة أميركية بتوصيف الصين كـ"عدو" في البيان. وخلص البيان الختامي للقمة، اليوم، إلى أن "سلوك الصين ومحاولتها إثبات وجودها وطموحاتها المعلنة، تشكل تحديات منهجية للنظام العالمي المحكوم بالقواعد، وفي مجالات مرتبطة بأمن التحالف".

وشدّد ستولتنبرغ، اليوم، على أنه "لن تكون هناك حرب باردة جديدة مع الصين"، لكنه أضاف أنه سيتعيّن على الحلفاء الغربيين "التكيف مع التحدي المتمثل في تصاعد نفوذ بكين". وقال ستولتنبرغ: "نحن لن ندخل في حرب باردة جديدة، والصين ليست خصمنا وليست عدونا. لكننا في حاجة إلى أن نواجه معاً، كحلفاء، التحديات التي يطرحها صعود الصين على أمننا". وأضاف: "نحن نشهد زيادة كبيرة في قوة الصين. إنها تستثمر في القدرات النووية والأسلحة المتطورة، ولديها موقف عدائي في بحر الصين، ولا تشاركنا قيمنا، كما تظهر حملة القمع في هونغ كونغ واستخدام تقنية التعرف إلى الوجوه لمراقبة السكان الصينيين". ورأى أن "الصين تقترب منا، في الفضاء الإلكتروني، وفي أفريقيا، وفي القطب الشمالي. إنها تستثمر في أوروبا للسيطرة على البنى التحتية الاستراتيجية"، مشيراً إلى ضرورة مصادقة قادة الحلف على بيان "يظهر موقف الحلفاء الواضح" تجاه الصين. واستبق ستولتنبرغ القمة بالتشديد أيضاً على أن الحلف يهدف إلى تنحية انقسامات حقبة ترامب جانباً، موضحاً أن "قادة ناتو يجتمعون اليوم في لحظة محورية بالنسبة لتحالفنا، واليوم سنفتح فصلاً جديداً في علاقتنا عبر الأطلسي". وفي ما خصّ روسيا، ذكّر ستولتنبرغ بأن القادة يريدون أيضاً إعادة التأكيد على "نهج المسار المزدوج" للحلف تجاهها، والذي يتضمن الردع العسكري، مثل نشر قوات التحالف في دول البلطيق وبولندا. وكان ستولتنبرغ قد أشار عشية القمة، في مقابلة مع صحيفة "دي فيلت" الألمانية، إلى "التعاون المتزايد الملاحظ لروسيا والصين أخيراً على الصعيدين السياسي والعسكري"، معتبراً أنه "بعد جديد وتحدّ خطير لحلف شمال الأطلسي".

ستولتنبرغ: لن ندخل في حرب باردة جديدة مع الصين

من جهتها، أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، قبيل القمة، أن زعماء دول الـ"ناتو" سيناقشون مسائل عدة، بما فيها التحديات الناجمة عن روسيا والصين، مشددة على ضرورة مواجهة حملات روسيا المعلوماتية المضللة، وسبل العمل مع أوكرانيا وجورجيا اللتين تسعيان إلى التقارب مع الحلف بشكل أكبر. وأوضحت ميركل أن "المسائل على أجندة القمة تهمنا جميعاً. أولاً روسيا، ولكن أيضاً منطقة الهندي – الهادئ، حيث تزيد الصين من إجراءاتها. التحديات الهجينة تزداد أهمية: الهجمات السيبرانية، وخصوصاً بما يتعلق بروسيا، التضليل".

ومن زاوية أوروبية، يقدر تقرير "ناتو 2030" أن على الحلف تشجيع الاتحاد الأوروبي على تعزيز قدراته الدفاعية، طالما أنها منسقة مع الولايات المتحدة والحلفاء غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهي مسألة إشكالية حاول ستولتنبرغ التوصل من واشنطن إلى وعود وتعهدات ملموسة حولها، بما يُساهم أيضاً في تقاسم الأعباء المالية. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي اعتبر خلال العام الماضي أن حلف الأطلسي في حالة موت سريري، قد أكد من جهته عشية القمة، أن على الـ"ناتو" تحديد أعدائه بوضوح. ويبقى الأوروبيون، رغم التفاؤل بالعودة الأميركية، حذرين ومنقسمين بشأن إعادة التوجيه الاستراتيجي التي يريدها الأميركيون. وحول ذلك، ثمة نقطتان شائكتان: تمويل الدفاع والصين، وهو ما أقر به ستولتنبرغ نفسه، عبر تأكيده وجود "تقاربات وخلافات". وقال قصر الإليزيه إن "قلب حلف الأطلسي هو أمن المنطقة الأوروبية الأطلسية. الآن ليس الوقت المناسب لتخفيف جهدنا في هذا الإطار"، متحدثاً عن ضرورة "بناء قواعد للسلوك بين الحلفاء". ويأتي ذلك علماً أن فرنسا تحاول منذ مدة فرض نفسها كقوة عظمى في منطقة الهادئ - الهندي، وهي أجرت أول مناورات مشتركة لها مع اليابان والولايات المتحدة وأستراليا في المنطقة في شهر مايو/ أيار الماضي، بعنوان "جان دارك 21". وقدّر النائب الأوروبي أرنو دانجان، في حديث لـ"فرانس برس"، أن "بايدن سيبدي انفتاحه على تطوير الدفاع في أوروبا، لكن ذلك لن يكون مجانياً. سيكون الأميركيون أكثر تطلباً من الأوروبيين لضبط أولوياتهم في آسيا والمحيط الهادئ". وترى أوروبا، أيضاً، أنها أصبحت أكثر عرضة للخطر، بعد انسحاب الولايات المتحدة من معاهدات عدة أبرمت مع موسكو، بشأن القوى النووية. وهذا الأمر عبّر عنه قادة كثر داخل الحلف، خصوصاً من الدول في الشرق، الذين حذّروا، اليوم، بشدة، من الخطر الروسي. 

وعلى الرغم من جميع التحديات، يعول قادة حلف شمال الأطلسي على استعادة الأعضاء الـ30 بريق تحالفهم، الذي عكّره ترامب، والسياسات التي انتهجها البيت الأبيض بين العامين 2017 و2020، والتي زرعت بذور الشكوك الأوروبية الأميركية المتبادلة، لا سيما مع ازدياد الأنشطة المعادية لروسيا خلال حقبة ترامب. وبعيداً عن الدول الكبرى، شعرت دول صغيرة عدة، بما فيها في اسكندينافيا والبلطيق، بغياب الحليف الأميركي، الذي كان وزير الخارجية الأميركي السابق أنتوني بلينكن قد سعى، في مايو الماضي، إلى تأكيد عودته، بزيارته كوبنهاغن وأيسلندا وجزيرة غرينلاند، مؤكداً على أهمية التحالف، ومبدياً الرغبة القوية بنشاط "أطلسي" في المنطقة القطبية الشمالية.

سعت القمة للتخلص من إرث وصدمة دونالد ترامب

ويعوّل الأميركيون على أن تكون قمة الـ"ناتو" الـ31، قد نجحت في رفع "معنويات" الأوروبيين، وآمالهم في تبدل الخطاب الأميركي وعودة الانسجام على ضفتي الأطلسي. وفي هذا الصدد، توقع مدير مركز الدراسات العسكرية في جامعة كوبنهاغن هنريك أوبريتينباوخ، كما نقل عنه التلفزيون الدنماركي "دي آر" اليوم، أن تسمح القمة "بالتخلص من إرث وصدمة ترامب، فالعلاقة الجيدة مع الولايات المتحدة حاسمة لأمن أوروبا، وقد أثّرت عليها تصريحات ترامب تماماً، كتصريح ماكرون عن الموت الدماغي للحلف". في المقابل، أكدت الباحثة في المعهد الدنماركي للدراسات الدولية "دييس" كريستن نيسن أن "حذراً أوروبياً تشكل خلال السنوات الماضية، وأن إرث ترامب لن يختفي". ورأت أن "الحلف عاش أزمة وجودية غير مسبوقة في عهد ترامب، ما خلق حالة شكوك في أسس وجوده، وتضاؤل الإيمان باستمرار الضمانات الأمنية التي اعتبرتها أوروبا مسلماً بها". ورأت نيسن أنه "على الرغم من اتفاق الجانبين على جعل الأمور أكثر سلاسة، إلا أن الخوف لا يزال ذهنياً، ما يجعل التوجه الأوروبي يكبر نحو التركيز على تطوير الدفاع الذاتي تحت مظلة الاتحاد الأوروبي"، مستبعدة أن "يضع الجميع بيضهم في سلة حلف شمال الأطلسي، من الآن فصاعداً، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بتأمين أوروبا". ورأى مراقبون أوروبيون أن الانشغال الأميركي بالتحدي الصيني لواشنطن والتركيز على شرق آسيا، يزيد من قلق الأوروبيين. لكن نيسن رأت أن "واشنطن والاتحاد الأوروبي، ومن خارجه من الحلفاء في ناتو، باتوا أكثر تقارباً، وبالتدريج، في ما خصّ خروج أوروبا من حياديتها تجاه بكين"، التي مدّدت أذرعها الاقتصادية والاستثمارية في أوروبا في سنوات حكم ترامب.