استمع إلى الملخص
- تضارب المصالح الإقليمية والدولية يمنح دمشق فرصة للمناورة، حيث تسعى فرنسا لرفع العقوبات الأوروبية، بينما تسعى تركيا لتشكيل تحالف إقليمي ضد "داعش" و"قسد".
- غياب سياسة أميركية متكاملة يتيح لفرنسا وأوروبا فرصة، لكن "العامل الإسرائيلي" قد يعيق ذلك، حيث تسعى إسرائيل لإضعاف سورية. تعتزم باريس إعادة فتح سفارتها وتقديم مساعدات اقتصادية.
منذ سقوط نظام بشار الأسد قبل أكثر من شهرين، نشطت السياسة الفرنسية إزاء سورية في محاولة لانتزاع دور في إعادة تشكيل ملامح هذا البلد بعد عقود من الحكم الديكتاتوري، وسط تضارب في الأجندات الإقليمية والدولية المتدخلة في الشأن السوري. واستضافت باريس، أول من أمس الخميس، اجتماعاً وزارياً تشاورياً ضم دولاً أوروبية وعربية، إضافة إلى تركيا والولايات المتحدة التي تمثلت بمستوى أقل، ما يشير إلى أن التطورات السورية لا تحظى باهتمام كبير لدى إدارة الرئيس دونالد ترامب المشغولة بقضايا دولية أخرى، وبالشؤون الداخلية.
وعكست التصريحات الفرنسية خلال المؤتمر، خصوصاً كلام الرئيس إيمانويل ماكرون، نوعاً من التخبّط في السياسة الفرنسية إزاء سورية، إذ شدد ماكرون على نقطة واحدة اعتبرها أولوية أمام الإدارة في دمشق وهي محاربة "الإرهاب" أي تنظيم داعش، وضرورة إشراك "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) في هذه الجهود عبر دمج قواتها في الجيش السوري العتيد لأن لديها مقاتلين "أشداء ومتمرسين" في محاربة التنظيم. وقبل مدة، كان التركيز الفرنسي على ضرورة تحقيق أوسع مشاركة سياسية في السلطة الجديدة، وتمثيل المرأة و"الأقليات" وضمان الحريات، لكن يبدو أن باريس اكتشفت أن هذه المطالب تتشارك بها مع كل القوى الدولية الأخرى، وهي مطالب عامة لا يمكن ضبطها على أرض الواقع بدقة، فعمدت إلى محاولة استغلال علاقاتها الطيبة مع قيادة "قسد" لتكون هي العراب لانخراطها في الإدارة السورية الجديدة، سياسياً وعسكرياً.
ورقة "قسد" في سورية
ولا يخفى، بطبيعة الحال، أن ورقة "قسد" ليست بيد فرنسا، بل بيد الولايات المتحدة التي ترعى التنظيم سياسياً وعسكرياً، وستكون خيارات "قسد" تالياً أقرب للتوجهات الأميركية، وليس الفرنسية. غير أن ما يفسر "الحماسة" الفرنسية هنا هو محاولة مزاحمة اللاعب الأهم على الساحة السورية، وهو تركيا، التي تحث إدارة دمشق على التعامل بحزم مع "قسد" وتلوّح بخيارات عسكرية.
وقال المحلل السياسي محمد جزار، لـ"العربي الجديد"، إن تضارب المصالح الإقليمية والدولية في سورية قد يعقّد بعض الأمور أمام الإدارة في دمشق، لكنه يمنحها في الوقت نفسه فسحة للمناورة، ولعدم وضع كل أوراقها في سلة واحدة. وأضاف أن هذه الإدارة، إذ تتطلع بدورها لحسم موضوع "قسد" بأسرع ما يمكن بسبب حاجتها لطيّ الملف الأمني مقدمةً وشرطاً لانطلاق عملية التنمية وإعادة الإعمار، فإنها تسعى للموازنة بين هذه الرغبات المتناقضة بين القوى التي تقول إنها تريد تقديم المساعدة.
محمد جزار: الإدارة السورية تسعى للموازنة بين الرغبات المتناقضة للقوى التي تقول إنها تريد تقديم المساعدة
ورأى جزار أن الدور الفرنسي قد يكون فاعلاً بالتعاون مع ألمانيا لتسريع رفع العقوبات الأوروبية المفروضة على سورية، لكن في ما يخص إدماج "قسد" ومكافحة "داعش" لا تستطيع باريس تخطي الدور الأميركي، وقد يكون دخولها على الخط للمشاغبة على الموقف التركي، أو محاولة التأثير على الموقف الأميركي لعدم التخلي عن "قسد"، وسط مخاوف من أن يقوم ترامب، كما يلمح دائماً، بسحب القوات الأميركية من سورية، وترك الساحة لتركيا، خصوصاً إذا تمكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من إقناع ترامب بهذه الخطوة، وأخذ على عاتقه مجابهة "داعش" بالتعاون مع حكومة دمشق وبعض الدول الإقليمية.
وكان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قد دعا خلال زيارته بغداد في 27 يناير/كانون الثاني الماضي إلى تشكيل تحالف يضم بلاده والعراق وسورية والأردن لمواجهة "داعش" بغية سحب هذه الورقة من يد "قسد"، وإقناع إدارة ترامب بوجود بدائل أخرى غير الاعتماد على "قسد"، بما في ذلك عملية الإشراف على السجون التي تضم عناصر "داعش" التي تتولاها "قسد" في الوقت الحالي.
الاستفادة من الغياب الأميركي؟
ورأى المحلل السياسي غازي دحمان، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن فرنسا وأوروبا عموماً قد تستفيدان من عدم تبلور سياسة أميركية متكاملة حتى الآن حيال سورية، لتكون هي المبادرة في بناء هذه السياسة، وربما جر الأميركيين إليها في وقت لاحق. غير أن ما قد يعيق ذلك، برأي دحمان، هو "العامل الإسرائيلي"، لأن "عدم الاكتراث" الأميركي حيال سورية هو ميزة مزدوجة، فمن جهة قد يفسح المجال لتأثيرات إيجابية على القرار الأميركي من جانب أوروبا وتركيا، لكن من جهة أخرى يحمل مخاطر التأثير الإسرائيلي على القرار الأميركي في سورية. وأضاف أنه لم يعد خافياً أن إسرائيل غير مرتاحة للتطورات الأخيرة في سورية، وتعتبر أن الحكم الجديد الذي خلف حكم بشار الأسد لا يمكن الركون إليه مهما صدر عنه من إعلانات حسن نيّة تجاه الجيران، بالنظر إلى خلفيته الإسلامية الجهادية، ما يجعله مصدر خطر محتمل حالما يستتب الأمر له في البلاد، ولو بعد سنوات.
غازي دحمان: فرنسا وأوروبا عموماً قد تستفيدان من عدم تبلور سياسة أميركية متكاملة حتى الآن حيال سورية، لتكون هي المبادرة في بناء هذه السياسة
ورأى دحمان أن السياسة الإسرائيلية تقوم حالياً على محاولة إضعاف الدولة السورية إلى أبعد حد ممكن، على نحو مشابه لما كان عليه الحال في عهد نظام الأسد، أي دولة مفككة وضعيفة ومتحاربة، بحيث تظل منشغلة بنفسها، ولا تشكل على المدى البعيد أي خطر على إسرائيل. واعتبر أن إسرائيل تسعى لاستغلال إشكالية "قسد" لتحقيق هذا الغرض، أي خلق مواجهة مستديمة بين الأكراد والحكم في دمشق، مع حرمان الحكومة المركزية من موارد النفط الواقعة معظمها اليوم تحت سيطرة "قسد"، وهي موارد لا بديل عنها محلياً لحكومة دمشق.
وإضافة لاستغلال "قسد"، عمدت إسرائيل إلى التدخّل بنفسها في الأراضي السورية، عبر عمليات قصف واسعة وقضم أراضي، وتوغّلات شبه يومية، وبناء نقاط تمركز وتحكّم داخل الأراضي السورية. وذكرت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية، الخميس الماضي، أن الجيش الإسرائيلي سيبقى في سورية لسنوات، بدعم من ترامب، للحفاظ على منطقة عازلة، على الرغم من ضغوط مستمرة من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. وفي إطار الدبلوماسية الفرنسية النشطة حيال سورية، قالت الرئاسة الفرنسية إن باريس ستعيد قريبا فتح سفارتها في دمشق، وسوف تستقبل الرئيس السوري أحمد الشرع "في الأسابيع المقبلة" بعدما وجهت إليه دعوة خلال اتصال هاتفي بينه وبين ماكرون أخيراً. واعتبر السفير الفرنسي السابق لدى سورية ميشال دوكلو، في تصريحات نقلتها وكالة فرانس برس، أن الشرع "لم يرتكب حتى الآن أي خطأ، لكن الوضع يبقى هشاً وثمة تساؤلات حول الفترة التالية".
وتعرض باريس مساعدة حكومة دمشق في تحقيق "العدالة الانتقالية"، كما أعلنت أنها ستواصل ملاحقة رموز النظام السابق، وفي مقدمتهم بشار الأسد، لمحاسبتهم على جرائمهم بحق الشعب السوري، حيث كانت المحاكم الفرنسية أصدرت خلال السنوات السابقة العديد من الأحكام القضائية بحقهم، فيما أعلن ماكرون خلال مؤتمر باريس عن تقديم منحة لسورية بقيمة 50 مليون دولار، في خطوة تشجيعية كما يبدو قبل انعقاد مؤتمر بروكسل الشهر المقبل المخصص لجمع أموال من أجل مساعدة سورية اقتصادياً في المرحلة المقبلة. ومن الأهداف التي لم يخف القادة الأوروبيون رغبتهم في تحقيقها، إبعاد كل من إيران وروسيا كلياً عن الساحة السورية، وهو ما لاقى تحفظاً كما يبدو من القيادة السورية الجديدة، خصوصاً حيال روسيا التي تتعامل معها هذه القيادة ببعض الهدوء، وتجري مفاوضات غير معلنة مع موسكو لبحث مستقبل القواعد الروسية، والدور الروسي المحتمل في سورية في المرحلة المقبلة.