استمع إلى الملخص
- مع انتخاب إبراهيم رئيسي في 2021، حاولت إيران فتح قنوات تفاوض مع الولايات المتحدة ورفع العقوبات، لكن الخلافات الداخلية أعاقت تحسين العلاقات الإقليمية. انتخاب مسعود بزشكيان في 2024 عزز الانفتاح رغم التوترات مع إسرائيل.
- تراجعت إيران عن دعمها المباشر لحزب الله والنظام السوري، مركزة على مصالحها الوطنية وتجنب التدخلات المكلفة، مع تحديات في تحقيق توازن داخلي بين القوى السياسية.
شكّل انهيار إيران وحزب الله العسكري في لبنان وسورية منعطفاً حاداً في مشهد الشرق الأوسط السياسي والجيوسياسي. وتجد الجمهورية الإسلامية نفسها مضطرة للتراجع عن طموحاتها الإقليمية والتقهقر إلى أراضيها ومصالحها الوطنية، في وقت تتصاعد فيه دعوات إسرائيلية للولايات المتحدة للتدخل عسكرياً.
أثّر الفشل العسكري في الساحتين اللبنانية والسورية أساساً على الحرس الثوري الإيراني والفصائل الأيديولوجية الأكثر تشدداً، التي تهيمن على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في إيران. وفيما يتحدث البعض عن احتمال "سقوط النظام" في المستقبل القريب، يخشى آخرون من صعود سلطة عسكرية أشد تطرفاً. من جهته، يسعى المرشد الأعلى علي خامنئي إلى التوصّل إلى تسويات، محاولاً إنقاذ نظام إسلامي يتهاوى تحت وطأة العقوبات الاقتصادية الأميركية والمعارضة الدولية لبرنامجه النووي، وبالأخص تحت ضغط المجتمع الإيراني.
فهمت القوى المحافظة خطورة المرحلة منذ وصولها إلى السلطة مع انتخاب إبراهيم رئيسي على رأس البلد في 2021، وشرعت في تغيير استراتيجيتها الإقليمية لفتح قنوات تفاوض مع الولايات المتحدة والتوصّل إلى رفع العقوبات الاقتصادية. غير أن الاختلافات داخل المعسكر المحافظ أعاقت مسار هذه الاستراتيجية الرامية إلى توطيد العلاقات مع دول الجوار، بدءاً بالسعودية، والابتعاد عن شبكة "الوكلاء" التي تشكّلت خلال الحرب العراقية -الإيرانية (1980-1988)، حتى وإن لم تُعطّل هذا المنعطف تماماً. وتعزز هذا التوجه في يونيو/حزيران 2024 مع انتخاب الإصلاحي مسعود بزشكيان رئيساً بمباركة المرشد خامنئي، في ظل انعدام بديل.
سقوط نظام الأسد والهزيمة العسكرية لحزب الله، أَمْلَيَا على إيران صياغة سياسة داخلية ودولية جديدة
بيد أن إسرائيل زعزعت - في ظرف أشهر قليلة - مشروع الانكفاء على الأراضي والمصالح الوطنية. فسقوط نظام الأسد في سورية - حليف إيران العربي الوحيد الراسخ منذ 1979 - والهزيمة العسكرية لحزب الله، أَمْلَيَا على الجمهورية الإسلامية صياغة سياسة داخلية ودولية جديدة تتجاوز البراغماتية البسيطة.
نجاحات عسكرية وإخفاقات سياسية
حقّق الحرس الثوري (الذي يُعرف باللغة الفارسية باسم "باسدران") نجاحات عسكرية عديدة في الماضي. فخلال الحرب العراقية-الإيرانية، تحوّلت هذه المليشيا السياسية ("سباه" بالفارسية) والتي تأسّست للتصدّي لمعارضي الجمهورية الإسلامية، إلى قوة نخبويّة في الجيش الوطني. وفيما اقتصر دور الجيش النظامي ("ارتش" بالفارسية) على الدفاع عن الأراضي الوطنية، لعب الحرس الثوري دور أداة استراتيجية "للدفاع المتقدم" خارج الحدود، معتمداً في ذلك على حزب الله والنظام السوري. وسرعان ما تجاوزت مهمّة الحرس الثوري الجبهة العراقية لتتّخذ طابعاً أيديولوجياً عالمياً ضدّ "الشيطان الأكبر" الأميركي وحلفائه الأوروبيين والإسرائيليين.
وبعد دعم الحركات الفلسطينية، أدى الحرس دوراً بارزاً في تأسيس حزب الله عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وسرعان ما تولى المحاربون القدامى مناصب قيادية في السياسة وإدارة الدولة وبطبيعة الحال في قطاع الأعمال، بعد انتهاء الحرب مع العراق. وتولى الحرس الثوري آنذاك مهام الرقابة السياسية والاستخبارات والقمع داخل البلاد، في حين تم تشكيل قوات خاصة تحمل اسم "فيلق القدس"، متخصصة في العمليات الخارجية.
واتّخذ التدخّل العسكري الإيراني في سورية بُعداً جديداً حين دعمت إيران بقوة نظام بشار الأسد ضدّ الثورة في 2011، خصوصاً مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق ثم في سورية. وكان يُنظر في طهران إلى هذا الجيش من الجهاديين السُنّة الذين يمقتون الشيعة، على أنه أداة بيد الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها السعوديين والإسرائيليين لإسقاط الجمهورية الإسلامية. وأدى "فيلق القدس" بقيادة اللواء قاسم سليماني دوراً محورياً بمساعدة مرتزقة أفغان ومليشيات عراقية، وبصورة خاصة حزب الله. ثم ظل الحرس الثوري على الأراضي السورية شأنه شأن القوات الخاصة الأميركية والروس بطبيعة الحال.
هاجر واستقرّ عدد كبير من عناصر الحرس الثوري في لبنان وسورية على مدى عشرين عاماً، بحجة حماية مقام السيدة زينب قرب دمشق، ومن ثم أطلق هذا التواجد الديمغرافي والاقتصادي والديني - مقروناً بالمشاريع السياسية لحزب الله في لبنان - العنان لأفكار توسّعية. فقد أوحى الانفتاح على البحر المتوسط للبعض بفكرة الثأر لمعركة "ماراثون" (معركة وقعت عام 490 ق.م بين الجيش الأثيني وحلفائه من جهة، والجيش الفارسي من جهة أخرى، وأسفرت عن هزيمة الأخير) وبناء استراتيجية متوسطيّة إمبريالية لإيران. وقد ندّدت الدول العربية السنّية بتشكيل هذا "الهلال الشيعي" واعتبره العديد من المحلّلين عنصراً محورياً في السياسة الخارجية الإيرانية. وصوّرت عقيدة "التهديد الإيراني" - التي يتبناها معظم المحللين الغربيين - إيران دولة إسلامية وإمبريالية، هدفها الأول زعزعة استقرار الشرق الأوسط ثم أوروبا، عبر البحر المتوسط.
هجوم مباشر على إسرائيل
في ديسمبر/كانون الأول 2024، أُطبق الفخ على الحرس الثوري، حيث لم يدرك مدى تغلغل "الموساد"، المتمركز جيداً في سورية، في صفوف حزب الله و"فيلق القدس"، كما لم يدرك تداعيات عجز نظام الأسد عن الخروج من الحرب. فقد أنسته أحلام الانفتاح على المتوسط أن الدولة الإيرانية الحديثة التي أسّسها الصفويّون في القرن السادس عشر لم تكن إمبريالية بل قوميّة بالدرجة الأولى، حريصة على حماية حدودها من الإمبراطوريات العثمانية والروسية والبريطانية المعادية. وإن كان النضال ضد عدو مُعَولم كالولايات المتحدة يبرّر استراتيجية "الدفاع المتقدّم"، فإن "فيلق القدس" حوّل هذه المعاقل البعيدة إلى رهانات استراتيجية. لذا كان التحّول مبهراً ليلة 13 إلى 14 إبريل/نيسان 2024، حين أُطلقت أكثر من 350 طائرة مسيّرة وصاروخا على إسرائيل من الأراضي الإيرانية دون الحاجة إلى ترسانة حزب الله. وأكّدت طهران بذلك قرارها بالدّفاع وحدها عن أراضيها ونظامها السياسي وبرنامجها النووي، دون الاستعانة بشبكة "الوكلاء".
وإثر هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حاولت إيران قدر المستطاع تفادي الدخول في حرب لا طائل منها، وسحبت أغلب مليشياتها من سورية ولبنان، تحسّباً لانسحاب منظم. كما أن التدمير الممنهج لمخازن الأسلحة الإيرانية الموجودة بسورية والمخصصة لحزب الله، دفع بشار الأسد إلى مطالبة الإيرانيين بالتستّر على نشاطهم. وهكذا لم يقاتل أعضاء الحرس الثوري الإيراني، بل فرّوا من البلد حين حرّر الثوّار القادمون من إدلب مدينة حلب ثم دمشق في ديسمبر 2024، ما جعل الهزيمة مخجلة أكثر. من جهته أعلن اللواء حسين سلامي، قائد الحرس الثوري، بكل فخر، أن آخر رجل إيراني غادر سورية هو من قوات "باسدران". وهو إقرار بالفشل مثير للشفقة.
نهاية "محور المقاومة"؟
وفي 11 ديسمبر الماضي، أعلن المرشد الأعلى علي خامنئي، وكأنه يحاول إنكار الواقع، أنه "كلما ازداد الضغط على محور المقاومة، اشتدّت وِحدته"، وأن "ما حدث في سورية هو نتيجة مؤامرة مشتركة أميركية-صهيونية"، قبل أن يعترف في 22 ديسمبر بأنّ إيران "لم تكن تحتاج إلى وسيط في المنطقة".
غياب التعليقات المعمّقة على أحداث لبنان وسورية يُظهر أن المصلحة العليا لإيران لم تعد في المقاومة أو التدخل المباشر
غير أن غياب التعليقات المعمّقة على أحداث لبنان وسورية يُظهر أن الصفحة قد طُويت، وأن المصلحة العليا للجمهورية الإسلامية لم تعد في المقاومة أو التدخل المباشر. حيث أدرك الجميع أن "محور المقاومة" قد تفكّك، ويأسف لذلك أكثر المناصرين تحمّساً للنظام، داعين إلى ثورة إسلامية جديدة. وينتقد هؤلاء بشدّة الرئيس الإصلاحي بزشكيان، الذي يؤكّد تشبثه بمقاومة إسرائيل، لكنه يؤجل أيّ تحرك إلى "اللحظة المناسبة" ويتقرّب في الأثناء من البلدان العربية. من جهتهم، يشعر معظم الإيرانيين بالارتياح لوقف هذه العمليات العسكرية والنفقات الخارجية، لكنهم يأسفون لاحتمالية عدم سداد القروض والنفقات في سورية، التي تبلغ بين 30 و50 مليار دولار، على مدى نحو خمسة عشر عاماً.
ويكشف الصمت القلق للإعلام والشعب وخطاب القادة الإيرانيين عن صدمة حادّة، فهزيمة الحرس الثوري، من دون خوض معركة، هي بمثابة مرحلة جوهرية في إضعاف الجمهورية الإسلامية. وهكذا، سقط القفل ليُفتح المجال لجميع الاحتمالات، من أحسنها إلى أسوئها.
يُضاف النقص الحالي في الكهرباء الذي يعطل البلاد بأكملها إلى قائمة الأزمات. وقد أصبحت الحاجة إلى التغيير الشامل تبدو ملحّة، لكن الإيرانيين متمسكون بالأمن وباستقرار الدولة. إنهم يعرفون تمام المعرفة ثمن الثورات ويقرون بغياب بديل، في حين أن القوى السياسية في المهجر بعيدة جداً عن الواقع. فقد رأى الإيرانيون كيف دمّرت الصراعات الداخلية إضافة إلى التدخّلات الخارجية أفغانستان والعراق وسورية ولبنان إلى جانب فلسطين، كما يخشون في الوقت نفسه من النجاحات العسكرية ومن الغزوات التي تحققها إسرائيل، ما يمكن أن يولّد صراعات إقليمية لا نهاية لها.
الحفاظ على توازن هش
من أين يأتي التغيير الذي لا يقود البلاد إلى التهلكة؟ هل لا يزال المرشد الأعلى يمتلك الأدوات والسلطة الأخلاقية الكافية لفرض اختياراته والتوصل إلى تسويات نهائية، وهو الذي له خبرة طويلة في إدارة الصراعات بين فصائل المتشددين والمحافظين والإصلاحيين؟ كيف ستكون ردّة فعل ملايين أعضاء الحرس الثوري السابقين والحاليين، وكل من يعتمد عليه سياسياً ومالياً؟ في يناير/كانون الثاني 2020، أثار اغتيال قاسم سليماني موجة حزن وطنية واسعة، لكنه كان لواءً منتصراً. أما اليوم، فالويل للمهزومين؟
من المبكر الحديث عن سقوط وشيك للجمهورية الإسلامية، فهزيمة الفصائل المحافظة الممثلة في "باسدران" لا تُغيّب حيوية القومية الإيرانية ولا الإجماع العام في إيران على ضرورة استقرار الدولة العريقة منذ آلاف السنين. في 1988، اضطر آية الله روح الله الخميني إلى قبول هدنة مع العراق للحفاظ على أمن الجمهورية الإسلامية، وفي 2015، وقّع علي خامنئي على اتفاق حول البرنامج النووي وهي "خطة العمل المشتركة الشاملة". كما أنه قرّر في 2024 تعليق القانون الجائر المتعلق "بالحجاب والعفة"، وهو قرار مهم، ويكشف اتخاذه من قبل مجلس الأمن الوطني -أعلى هيئة مسؤولة عن الأمن القومي والدولي- بمباركة المرشد الأعلى، عن هشاشة النظام وعدم رغبته في استفزاز مجتمع قادر على التمرّد كما حدث في عام 2022.
يمكن لإيران أن تتطلّع إلى تجاوز الأزمة الحالية، بعدما تجرّدت من التزاماتها تجاه "وكلائها" وانغلقت على أراضيها
يمكن أن ترافق هذا الانفتاح مفاوضات حول المسألة النووية، بموافقة المرشد الأعلى، تقوم بها حكومة إصلاحية يرأسها مسعود بزشكيان، معتمداً على محمد جواد ظریف، مهندس مشروع الاتفاق النووي لعام 2015. فهل يحلّ هذا الاتفاق المسألة النووية والتي باتت ثانوية، وهل يقدر على رفع العقوبات الاقتصادية؟ في تقدير الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب والشركات الأميركية، يمكن أن تصير إيران، بثروتها البترولية وسكانها التسعين مليونا ذوي المستوى التعليمي العالي، أرضاً اقتصادية خصبة وجداراً في وجه الطموحات الصينية. فإيران تحتاج هذه النهضة الاقتصادية لكي تصبح قوة إقليمية قادرة على المساهمة في تأمين المنطقة، إلى جانب السعودية، وحتى في حل القضية الفلسطينية، في حين أعلن ترامب أنه زاهد في أي مشروع تغيير نظام أو صراع مسلّح في المنطقة.
يمكن للجمهورية الإسلامية أن تتطلّع إلى تجاوز الأزمة الحالية، بعدما تجرّدت من التزاماتها تجاه "وكلائها" وانغلقت على أراضيها، على الرغم من تردّد الفصائل المحافظة الإيرانية وعداء الكثير من مستشاري ترامب الموالي لطموحات إسرائيل. يبدو كل شيء جامداً حالياً في طهران، فالمرشد علي خامنئي يحاول الإبقاء على توازن هش بين معارضة راديكالية تؤججها إخفاقاته الخاصة، ومحافظين منتهزين، أو إصلاحيين براغماتيين، بالإضافة إلى 90 مليون مواطن إيراني يتطلعون إلى تغييرات عميقة، بانتظار دونالد ترامب.
يُنشر بالتزامن مع "أوريان 21"
https://orientxxi.info/ar