فلسطينيو 1948 تحت وطأة الحرب على غزة: العدو من الداخل

24 نوفمبر 2024
تحاول شرطة الاحتلال قمع تظاهرة في أم الفحم، 15 نوفمبر 2024 (مصطفى الخروف/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- منذ أكتوبر 2023، تعرض الفلسطينيون في أراضي 1948 لحملة قمع سياسي وأمني من السلطات الإسرائيلية بسبب احتجاجاتهم ضد الحرب على غزة، شملت اعتقالات وملاحقات قانونية بتهمة دعم "الإرهاب".

- الحرب على غزة أظهرت هشاشة المواطنة للفلسطينيين في إسرائيل، مع محاولات لسن قوانين تقليص حقوقهم، وكشفت عن نظامين قانونيين مختلفين يعكسان سياسات الفصل العنصري.

- تصاعدت الكراهية والعنف تجاه الفلسطينيين من المجتمع اليهودي، مما يهدد بانفجار اجتماعي، وأوصى الخبراء بضرورة التعامل مع الفلسطينيين كمواطنين وفرض قيود متساوية على حرية التعبير.

في مقالةٍ سابقةٍ أشار كاتب هذه السطور إلى أنه مُنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يوم "طوفان الأقصى"، وإعلان إسرائيل حرب الإبادة الجماعيّة، والتدمير الشامل على قطاع غزّة، يتعرّض الفلسطينيّون في أراضي 1948 لملاحقةٍ سياسيةٍ بذرائع أمنيةٍ، ولحملة قمعٍ شعواء لحرية التعبير المُقيّدة أصلًا. ووفقًا لتقريرٍ صادرٍ عن مركز "عدالة" الحقوقي" تتطرّق معطياته إلى الفترة بين 7 أكتوبر و13 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، يُعتبر هذا القمع نتاجًا لجهودٍ منسقةٍ وواسعة النطاق بين المكاتب الحكومية، والمؤسسات الإسرائيلية المتعدّدة، والجماعات اليمينية المتطرفة، إذ تستهدف جميعها الفلسطينيين وغيرهم ممن يحتجّون ضدّ سياسة الحكومة الإسرائيلية في غزّة، كما يتهم كل من يعبر عن رأيه، سواء فعل ذلك على منصات التواصل الاجتماعي، أو عن طريق الوقفات الاحتجاجية بدعم تنظيماتٍ مُعرّفةٍ كـ"إرهابيةٍ"، وفق القانون الإسرائيلي، وبـ"التحريض على الإرهاب".

سبرت غايات هذه الملاحقة في بيانات قوىً سياسيةٍ عديدةٍ في أراضي 1948، كان أبرزها، وفي طليعتها حزب التجمّع الوطني الديمقراطي، الذي عقد مؤتمره العام في خضم الحرب، في يونيو/حزيران 2024، ونوّه في بيانه الختامي بأنّه علاوةً على التحريض والترهيب تجاه المجتمع الفلسطيني في الداخل، بدأت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بحملة ملاحقةٍ واسعةٍ داخل المجتمع الفلسطيني، لمنع أي تعاطفٍ أو دعمٍ لغزّة، حتى لو كانت مجرد تغريداتٍ على وسائل التواصل الاجتماعي، ضدّ قتل الأبرياء والدمار. في السياق ذاته، اعتقلت الشرطة الإسرائيلية عشرات الأشخاص، ولا سيّما من المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، أو الفنانين بحجة نشر تغريداتٍ داعمةٍ أو متعاطفةٍ مع غزّة. كان من الواضح أنّه كلما طال أمد الحرب زدادت الهجمات والقمع تجاه المجتمع الفلسطيني، وتوجيه الرغبة في الانتقام تجاه كل من هو فلسطيني، واشتدت محاولات إعادة صوغ قواعد التصرف السياسي لهذا المجتمع بموجب ما يحدّده "الإجماع الصهيوني".

يمكن القول إنّ الدلالات التي ينطوي عليها السلوك الإسرائيلي هذا حيال الفلسطينيين في أراضي 1948 تحمل إجاباتٍ عن أسئلةٍ تخُصّ الراهن والماضي القريب وربّما البعيد، وليس هذا فحسب إنّما أيضًا تتيح إمكان تحليل ما يمكن أن يحدث في المستقبل وتوقعه. لعلّ أولى الدلالات التي يتعيّن التوقف عندها، هي أنّ الأدوات المستخدمة في التعامل مع الفلسطينيّين في أراضي 1948 بوقت الحرب تشي بأن المؤسسة الإسرائيلية تتعامل معهم على أنّهم أعداءٌ محتملون. بالإضافة إلى ذلك بيّنت الحرب على قطاع غزّة هشاشة المواطنة الممنوحة للفلسطينيّين في إسرائيل، وخضوعها التامّ إلى الدوافع والحاجات الأمنيّة، وحاجات الإجماع الصهيونيّ وشروطه، كما أنّ الحرب أفضت، ولا تزال تفضي، من خلال المبادرة إلى محاولة سنّ قوانين جديدةٍ، ما زالت في طور التشريع (تقتضي منّا أن نتوقف عندها لدى إقرارها بصورةٍ نهائيّةٍ)، تسعى إلى محاولة محو هامشٍ سياسيٍّ أتاح للفلسطينيين في إسرائيل ممارسة أبسط حقوقهم المدنيّة، وإلى محاولة فرض حدودٍ جديدةٍ للتعبير والعمل السياسيّ والحزبيّ.

ورد في توصيةٍ أخرى أنّه يتعيّن على "سلطات الدولة عدم التعامل مع المجتمع الفلسطيني بصفته عدوًا داخليًا"

أمّا الدلالة الثانية فتتعلّق بالتحليل القانوني لسياسات القمع والفصل العنصري، هنا يتعيّن التذكير بأنّ إسرائيل شنت الحرب على قطاع غزّة بعد نحو عامين ونصف العام مما وصف بأنّه "أحداث مايو/أيّار 2021"، التي تحمل فلسطينيًا اسم "هبّة الكرامة" (اندلعت الهبّة على خلفية عملياتٍ إسرائيليةٍ تهدف إلى إخلاء عائلاتٍ فلسطينيةٍ من بيوتها في حي الشيخ جرّاح في القدس، فقد عايش الشباب الفلسطيني الاحتجاج ضدّ إخلاء السكان الفلسطينيين، ونالهم من قمع الشرطة هناك، واستفزاز المستوطنين ما نالهم. وساهمت مشاركة فلسطينيي الداخل في احتجاج حي الشيخ جرّاح وتصاعد هذه المشاركة وانكشافهم للقمع الإسرائيلي للاحتجاجات، سواء أكانت احتجاجاتٍ فلسطينيةً أو يهوديةً ضدّ إخلاء السكان، في زيادة الاهتمام والانتماء لهذه القضية في صفوف المجتمع الفلسطيني في إسرائيل. وبدأت قضية الشيخ جرّاح تأخذ اهتمامًا متزايدًا في صفوف الفلسطينيين في الداخل بموازاة ربطها مع مسألة السيطرة على بيوتهم في المدن الساحلية، حيفا ويافا وعكا وفي اللد والرملة). إذ يظهر التحليل القانوني، الذي أجراه خبراء عدّة في المجال، وجود نظامين مختلفين لتنفيذ القانون وتطبيقه، واحد للعرب الفلسطينيين وآخر لليهود، ومن ضمن ذلك كيفية تعامل الشرطة والنيابة العامة، ومعالجة الملفات من جانب المحاكم والأحكام القاسية، التي أصدرتها وغيرها. وظهر ذلك عقب التوقف عند وسائل الرقابة والملاحقة، التي تم استخدامها خلال الهبّة، سواء على شبكات التواصل الاجتماعي، أو في الحيّز العام وقمع الحقّ في الاحتجاج وحرية التعبير، هذا كلّه تردّد صداه بقوّةٍ أكبر وأخطر في فترة الحرب على قطاع غزّة. ويُشار في هذا السياق إلى أنّه عند التعمّق في بنود لوائح الاتهام، التي قدمت ضدّ الفلسطينيين في أراضي 1948، والمرتبطة بمشاركتهم في "هبّة الكرامة"، يتّبيّن أنّ النيابة الإسرائيلية العامة مثّلت ذراعًا أخرى لإحكام القبضة على الفلسطينيين في الداخل، إذ تعاملت معهم بكونهم "العدو من الداخل"، الذي قام بفتح جبهةٍ إضافيّةٍ ضدّ الدولة في أثناء خوضها الحرب مع "العدو من الخارج"، وفقًا لتوصيف جرى استخدامه من جانبها.

ارتباطًا بسياق الأحداث هذا، وبغية تسليط الضوء على الدلالة الثالثة، يقوم "مركز أكورد" (هو، كما يكتب على موقعه، منظمةٌ اجتماعيةٌ أكاديميةٌ تعمل على تطوير وإتاحة المعرفة الأكاديمية المبتكرة في علم النفس الاجتماعي، من أجل تعزيز علاقات المساواة والتسامح والاحترام بين مختلف الفئات الاجتماعية في إسرائيل وكذلك بين المجتمع الإسرائيلي والمجتمعات المجاورة في المنطقة) منذ عام 2021، كلّ بضعة أشهرٍ بمراقبة "مستويات الكراهية، وانعدام الثقة بين المجموعتين، اليهودية والفلسطينية". وبحسب المركز كشفت البيانات بعد الحرب عن زيادةٍ كبيرةٍ جدًا في كراهية اليهود تجاه الفلسطينيين: بينما كان مستوى الكراهية تجاه الفلسطينيين قبل الحرب 2.5 (على مقياس من 1 إلى 6)، بلغ بعدها أعلى من 4. ما يشير إلى معطيين آخرين مثيرين: ارتفاع درجة تأييد اليهود للعنف ضدّ الفلسطينيين من 1.37 في مارس/آذار 2023 إلى 1.89 في أكتوبر 2023 (في المقابل، انخفض خلال هذه الفترة دعم الفلسطينيين للعنف ضدّ اليهود)؛ وقفزت درجة تأييد اليهود للخطاب العدواني ضدّ الفلسطينيين على شبكات التواصل الاجتماعي من 1.5 إلى 2.25، على المقياس نفسه، خلال هذه الفترة (شهد هذا التوجه أيضًا انخفاضًا في الدعم من الفلسطينيين). يقول القيمون على المركز إن معنى هذه المعطيات هو "التطبيع أو التفهم أو التسامح مع عنف اليهود تجاه الفلسطينيين في إسرائيل".

كما يشير هؤلاء إلى أنّ كثيرين من الجمهور الفلسطينيّ "يعيشون شعورًا بالعجز شبه كاملٍ، ويقولون لأنفسهم: في مواجهة مثل هذا التطرف الكبير للمجتمع اليهودي، والاضطهاد في أماكن العمل والجامعات، من الذي سيحمينا؟ شرطة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير!"، هذه تجربةٌ لديها أيضًا الكثير من إمكانيات الانفجار. كذلك، فإنّ مئات آلاف الأشخاص ممنوعون من التعبير عن مشاعرهم الأساسية: يجب على الفلسطينيين في إسرائيل ألا يقولوا أنّهم ضدّ قتل أو معاناة الأطفال أو الأبرياء في قطاع غزّة، وهذه تجربةٌ صعبةٌ سيكون لها عواقبها على العلاقات بين اليهود والفلسطينيين.

إضافةً إلى "مركز أكورد" حازت هذه الأجواء اهتمام "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب (INSS)، الذي أظهرت استطلاعاتٌ أجراها في صفوف الفلسطينيين أن 57% من المستطلعة آراؤهم في نوفمبر 2023، و67% من هؤلاء في ديسمبر/كانون الأول 2023 يفترضون أنّ "الدولة تنتهك حقّهم في التعبير تحت ستار الحرب". كما كشف استطلاعٌ آخرٌ أنّ نحو 50% من الفلسطينيين يفضلون الامتناع عن التعبير عن آرائهم بشأن الحرب، وإبداء تعاطُفهم، علنًا، مع الفلسطينيين في قطاع غزّة خوفًا من العقوبات. في ضوء هذه المعطيات قدّم المعهد عددًا من التوصيات، التي توضّح جوهر السلوك العام الذي لجأت إليه إسرائيل حيال الفلسطينيين في أراضي 1948.

في أولى هذه التوصيات يقرّ المعهد الإسرائيلي لأبحاث الأمن القومي بأنّ الحقّ في التعبير هو أساس النظام الديمقراطي، على الرغم من إقراره في الوقت عينه بأنّ هذا الحقّ ليس مطلقًا، وخصوصًا في أوقات الطوارئ، إذ يمكن فرض قيودٍ على هذا الحقّ، خصوصًا في مجال منع التحريض وتشجيع "الإرهاب"، من أجل "الحفاظ على أمن الدولة". إلّا إنّ هناك، بين هذه الضرورات القاطعة، درجاتٌ كثيرةٌ من النشاطات التي يجب السماح بها ديمقراطيًا. وهناك حاجةٌ أيضًا إلى فرض القيود على حرية التعبير بطريقةٍ قائمةٍ على المساواة، والامتناع عن الإفراط في إنفاذ القانون، وهو ما يؤدي إلى إجراء تحقيقاتٍ جنائيةٍ واعتقالاتٍ من شأنها أن تؤدي إلى إحباطٍ، وإلى اندلاع الاحتجاجات. وفي هذا الصدد يتعيّن على جهات إنفاذ القانون أنّ تكون مهنيةً، وأن تتعامل مع كلّ قضيةٍ بصورةٍ منفردةٍ. كما يجب السماح بالتجمهرات القانونية، بصورةٍ تناسبيةٍ، لا تتضارب مع حالة الطوارئ القائمة.

علاوةً على التحريض والترهيب تجاه المجتمع الفلسطيني في الداخل، بدأت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بحملة ملاحقةٍ واسعةٍ داخل المجتمع الفلسطيني

وورد في توصيةٍ أخرى أنّه يتعيّن على "سلطات الدولة عدم التعامل مع المجتمع الفلسطيني بصفته عدوًا داخليًا"، كما أنّ "الانتهاكات المحتملة للنظام العام تتطلّب استجابةً شرطيةً مدنيةً". وقال في توصيةٍ ثالثةٍ إنّه يجب أن يؤخذ في الحسبان أيضًا، في ظل الأجواء المتوترة، أن تقوم عناصر من اليمين الصهيوني المتطرف، ذات التوجه المعادي للفلسطينيين بوضوحٍ، بتنفيذ القانون بنفسها، ومواجهة مجموعاتٍ فلسطينيةٍ بادعاءات حماية اليهود. وأشير على نحو خاص إلى أنّ التسلح الواسع، خلال الأشهر الأخيرة، قد يغذي العنف بين اليهود والفلسطينيين. وفي رأي المعهد، يتمثّل دور الشرطة وجهات إنفاذ القانون، في هذا الصدد، في كبح من تصفهم بأنّهم "فئاتٌ متطرفةٌ" من الجانبين، والحؤول بينها وبين "جرّ المجتمع إلى أعمال شغبٍ".

إجمالًا بالوسع ملاحظة جزئيتين في كلّ ما يخص تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين في أراضي 1948 إبان الحرب على غزّة، هما:
الأولى، جزئيّة النظرة الإسرائيلية العامة حيالهم، التي لا تنفك ترى فيهم عدوًا داخليًا وطابورًا خامسًا ومثار قلقٍ استراتيجيٍ، ما يستلزم استمرار التعامل معهم بمقاربةٍ أمنيةٍ فقط. والجزئية الثانية، هي التنائي عن الاستثمار في التربية على مناهضة العنصرية حيال الفلسطينيين والعرب عمومًا، كما تثبت ذلك التقارير الإسرائيلية الرسمية على نحو دوري، بما يخدم تكريسها ضدّهم باعتبارهم جنسًا بشريًا أدنى، غير مستحقٍ لأيّ حقوقٍ جماعيةٍ. وبموجب ما يقرّ به حتّى عددٌ كبيرٌ من الباحثين الإسرائيليين فمن الخطأ الجسيم الاعتقاد بأنّ المؤشرات إلى تغلغل فكرة دمج فلسطينيي الداخل في الاقتصاد الإسرائيلي داخل صفوف جهاتٍ مسؤولةٍ كثيرةٍ، بمن فيها بعض صناع القرار، من شأنها أن تنطوي على مؤشرٍ إلى استبطان فكرة استحقاقهم حقوقًا جماعيةً.

لا شكّ في أنّ أحد أبرز الأمور التي برهنت عليها الحرب، لدى قراءة تداعياتها من وجهة نظرٍ إسرائيليةٍ، أنّ الفلسطينيين في الداخل ما زالوا هدفًا لسياسة القمع والاستعلاء والاستعداء الإسرائيلية. ولا يجوز القول في أيّ حالٍ إنّها هي من أعادتهم هدفًا، لأنّهم لم يغادروه أصلًا، حتّى في ذروة التعبير عن "لهاث" إسرائيل وراء دمجهم اقتصاديًا، ومن ثمّ سياسيًا، مع وجوب ملاحظة أنّ محاولات الدمج الأخير، كما تبدّت في الآونة الأخيرة، لم تغادر غايتها الأداتية الصرفة، وبالتأكيد لن تغادرها برسم الحرب الأخيرة.