فتح بعد الانتخابات: تفتّت أم تيار تحرري؟

فتح بعد الانتخابات: تفتّت أم تيار تحرري؟

28 ابريل 2021
يراهن كثير من الفتحاويين على مروان البرغوثي لإصلاح الحركة (عباس مومني/فرانس برس)
+ الخط -

مشاركة حركة فتح في الانتخابات التشريعية والرئاسية وهي منقسمة على نفسها، أقرب إلى مغامرة بمستقبلها، لكنها مغامرة ضرورية من أجل تجديد شرعية الحركة من طريق صندوق الاقتراع، ومحسوبة حتى تسحب لجنة التنظيم المركزية شرعيتها "من خارج إطارها".
في الصورة الأكبر تحاول الحركة، بما في ذلك من تمرد على القيادة؛ بأشكال ودوافع مختلفة إنهاء تحكم الرئيس الفلسطيني محمود عباس ودائرته بالقرارات التنظيمية والسياسية معاً، حتى لو كانت النتيجة اكتساح حماس الانتخابات في الضفة الغربية، بما فيها القدس، التي ما زالت مشاركة أهلها خاضعة لقرار سلطة الاحتلال الإسرائيلي.
لكن إشكالية قيادة حركة فتح الرئيسية، وخاصة اللجنة المركزية، أنها تتعامل مع الانتخابات كحزب سلطة، حتى وإن كانت تتكئ في جزء من خطابها التعبوي على تاريخها النضالي، لكن الهدف يبقى الحفاظ على مكانتها على رأس سلطة دون سيادة ومقيدة بشروط الاحتلال، وأهمها التنسيق الأمني وسيطرة إسرائيل على "المقاصة" من ريع الضرائب، وتثبيت تبعية السلطة والشعب الفلسطيني معاً اقتصادياً.
صحيح أن مفهوم حزب السلطة قد طغى على خطاب الكوادر الفتحاوية وعقليتها، لكن هناك كوادر من الحركة، وعددها أكبر مما قد يظهر على السطح، وبغضّ النظر عن انقسامها بين القائمة الرسمية وقائمة ناصر القدوة، ترى الانتخابات وسيلة لإحداث تغيير في التنظيم، عبر تجديد القيادات واستبدال الخطاب المتخاذل بخطاب تحرري، أو من خلال التغيير من داخل التنظيم، منعاً لترسيخ انشقاق جديد في الحركة، أو من خلال اختيار قائمة الحرية، التي شكلها القدوة ومصدر قوتها هو مرشحها للرئاسة الأسير مروان برغوثي.
لا يمكن التغاضي عن وجود خط مغاير بين شباب الحركة، دون تضخيم دوره ودون تقزيم ما يحاول فعلها، فالانقسامات الحالية هي نتاج تراكم أزمة تاريخية كانت متأصلة بافتقار الحركة إلى تمثيل ومشاركة فعلية، حتى قبل اتفاقيات أوسلو، وغياب العقلية المؤسسية، وتغييب المشروع الوطني التحرري بعد أوسلو، الذي أفسد أطر الحركة القيادية مالياً وسياسياً، وربط الكوادر بالأجهزة الأمنية والعقلية الأمنية المعادية للحريات ولمشاركة الشعب الفلسطيني في القرار، وربط لقمة عيش مقاتلين سابقين ومناضلين من الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية وجيل جديد بالانصياع لأوامر المتنفذين. إذ تتصف كوادر الحركة بالوعي الوطني وتريد استرداد الخطاب الثوري، خاصة بين فئة الشباب، الذين وقفوا في مواجهة القطاع الأمني.
ما ارتكبته القيادة من تجريف وعي وشق لصفوف فتح، ابتدأ قبل أن نشهد الانقسامات الحالية، وقد تتحول هذه التناقضات والاتجاهات داخل صفوف الحركة إلى مشهد من المواجهات الخطيرة خلال الانتخابات، إذا لم تؤجَّل، أو على الأقل هي صدامات قد تصل إلى العنف في مرحلة قادمة، إذا لم تكن هناك ضغوط على القيادة لفهم مخاطر توظيف الأجهزة الأمنية في سبيل تثبيت احتكار السلطة.
سيناريو المواجهات كان دائماً قائماً، الفرق أن الانتخابات عمقت الأزمة ودفعت بالخلافات إلى حدية غير مسبوقة، لكن المواجهة الأكثر وضوحاً تتمثل بعودة تيار محمد دحلان، بموافقة من حركة حماس، إلى التحرك بقوة داخل قطاع غزة وإعلانه تشكيل قائمة المستقبل من كوادر معروفة، وبعضها لديه قاعدة شعبية، وإن كان من الصعب التكهن بها.
هذا المشهد يجعل من الانتخابات مسرحاً لمعارك متعددة لديها محاور عدة، أهمها استعادة الحركة لدورها كحزب سلطة، وصراع على قيادة فتح، وصراع آخر متصل مع تيار دحلان، الذي ناشد شرعية شعبية تحرج كل قيادات فتح وتجعل من قائمته ورقة تغير الموازين بين القوائم المتنافسة، إذ إن الصراع الداخلي في فتح يعني تشتيت الأصوات، وقد يجعل نوعاً من التحالف أو التفاهم مع تيار دحلان قبل الانتخابات أو بعدها، هذا إذا جرى تجنب مواجهات بين مؤيدي فتح وأنصار دحلان، قد تستفيد منه حركة حماس وتدخل على أساس الفصل بين المشتبكين بدور حمامة السلم الأهلي.
سيناريوهات التصادمات المحتملة ممكن تجنبها، وتتطلب نأي السطلة واللجنة المركزية عن استخدام القوة الأمنية في التجاذبات التنظيمية، وعمل كل ما يمكن لتجنب مواجهات في قطاع غزة، وهذا يتطلب تدخل شخصيات كبيرة ووازنة في المجتمع الفلسطيني، إذ لا يمكن تركها "لحكمة القيادة الفلسطينية" أو لطموحات دحلان أو للغضب المتراكم بين مؤيدي دحلان ومؤيدي القائمة الأخرى، وخاصة من مناصري عباس.
من اللافت عند الحديث مع كوادر الحركة وقيادات أجنحتها اعترافهم باحتمال تحقيق حماس فوزاً كاسحاً في الضفة الغربية نتيجة انقسام الحركة، بل يتنبأ بعضهم بذلك. لكن لم يتحول ذلك حتى الآن إلى عامل تهدئة، فالذين يقفون مع ناصر القدوة ومروان البرغوثي لا يجدون أي فائدة من إصلاح التنظيم "دون خضة" ودون تحدي سياسات عباس واللجنة المركزية وتحكمه بالقرار التنظيمي. أي نحن نشهد معركة حول "روح التنظيم" كما يعدّها بعض الفتحاويين، لكنها معركة كسر عظم سياسية من ناحية، ومعركة كسر سلطة عباس على التنظيم من ناحية أخرى.
لكن المعركة مهما كانت دوافعها، تضع كلاً من حماس وتيار دحلان، بدرجات متفاوتة، إلا إذا اختارا التفاهم الضمني قبل الانتخابات، ونوعاً من التحالف بعد الانتخابات، في موقع أقوى من قبل، إذ يكفي دحلان أن يسحب أصواتاً من قاعدة فتح، وأن يحصل على مقعد أو مقعدين في المجلس التشريعي، وأن يؤثر في انتخابات الرئاسة، فأي دخول في الجسم السياسي الفلسطيني يعطيه "شرعية" نسبية تكون مقدمة لبناء قاعدة أوسع.
لذا، لا يمكن استغراب حديث ناصر القدوة عن إمكانية التعامل مع كوادر تؤيد دحلان، وإن لم تكن مع دحلان نفسه، فالمقصود علناً هو استرجاع قواعد فتح، وإبعادها عن دحلان، لكن مجرد الحديث عن الموضوع هو اعتراف بوجود مهم نسبياً لتياره، وإن لم نعرف حجمه بعد في الساحة الفلسطينية، خاصة في غزة، نتيجة إهمال عباس للكثير من الكوادر الفتحاوية، وبحكم تدفق أموال ومساعدات طبية إماراتية، توزعها جماعة دحلان على أهل القطاع الذي يئن تحت حصار إسرائيلي قاتل، وبذلك نجح في زيادة تأثير الإمارات، المتحالفة مع إسرائيل.
ذلك كله لم يليّن مواقف قائمة فتح الرسمية وقائمة الحرية، مع ترحيب بعض القادة في الطرفين بمبادرة الأسرى، لكن الجميع يعرف أنها غير مقبولة من جانب عباس، فيما يتحدث المقربون من البرغوثي بتقدير عن جهود الأسرى، لكنهم يرونها غير قابلة للتطبيق. إذ إن اقتراح انتخابات على الطريقة الأميركية لرئيس ونائب رئيس منتخب تحتاج إلى موافقة المجلس التشريعي، وهذا لن يتم. لكن تكمن القصة الحقيقية في أن تيار مروان البرغوثي يصرّ وفقاً لمقربين منه، على تغيير نهج الحركة وخطابها وفق رؤية سياسية تحررية، كما وصفها أحد أهم المشاركين في وضع الرؤية.
لكن المعركة الانتخابية، إلى الآن، لم تشهد حواراً عاماً أو جدلاً واسعاً حول برنامج وطني، تحرري أو غير تحرري، وقد يكون ذلك لاحقاً. لكن الذي يطغى حالياً، هو الصراع التنظيمي والحوار غير الودود داخل حركة فتح، ومحدود داخل قائمة القدوة-البرغوثي، وفقاً لعدد من كوادر فتح الشابة الذين رفضوا الذهاب إلى معسكر القدوة-البرغوثي، إذ يتحدثون عن نقاشات داخلية غير رسمية بعيدة عن القيادات في الشهرين الأخيرين حول سبل الضغط على القيادة من أجل التخلي عن نهج أوسلو دون "شق الحركة".
اللافت أن هؤلاء الذين تواصلت معهم يعبرون عن استياء ومعارضة القيادة وعن خسارة عباس الكثير بعد تدخله بشطب أسماء من المرشحين على القائمة، بغرض تصفية حسابات تنظيمية أو خاصة، لكن ذلك لم يؤد إلى الهجرة نحو القائمة المنافسة، خوفاً من الفصل وعدم الثقة بقوة بقائمة القدوة، أو لأن البعض مسكون بتداعيات انشقاق فتح في عام 1983، الذي بدأ بمطالبات محقة بعزل المقصرين والهاربين من مواجهة الغزو الإسرائيلي في جنوب لبنان واجتثاث الفساد، لكنه انتهى بارتهان المنتفضين لإرادة المخابرات السورية.
يرى بعض مؤيدي مروان البرغوثي وناصر القدوة تقاطعات بين الاثنين، وليس بالضرورة اتفاق على الرؤية، بل يرفضون هذه المقاربة، إذ إنها في رأيهم تمرد "لولادة جديدة للحركة"، والمشاركة في الانتخابات هي وسيلة كسبها شرعية جماهيرية، لكن وجود تيار دحلان، وإذا ثبت أنه قوة انتخابية معضلة، خاصة إذا اضطر هؤلاء كما يدعو البعض إلى جذب أفراد من قائمته قبل الانتخابات وبعدها، فدحلان لن يبتعد عن مصالح الإمارات.
طبعاً، ليس جديداً أن تكون أطراف في فتح متأثرة أو حتى مرتهنة لسياسات خارجية، لكن حضور تيار دحلان في المعركة الانتخابية، يجعل الأمر علنياً وطبيعياً. قد يكون قبوله نتيجة لإحساس الفلسطينيين أن السلطة وحياتهم أصلاً رهينة لدى الاحتلال الصهيوني، فلم يبق سوى أطواق نجاة لتحسين وضعهم الحياتي، فهناك شعور واسع بأن التمايز بين أجنحة فتح لن يغير هيمنة إسرائيل على السلطة وعليهم، بغضّ النظر عمّن يكون فيها.
تيار مروان البرغوثي ومؤيدوه يرفضون ذلك، ويتحدثون عن خطة وطنية لفك تبعية الاقتصاد الفلسطيني عن إسرائيل، وعن التحرر من شروط أوسلو، لكن دون أن يطرح البرنامج لن يرى الناس جديته، حتى لو كان مروان البرغوثي هو القيادي الفتحاوي الوحيد الذي يتمتع بثقة وتأييد شعبي واسع، لكن ذلك لا يكفي لتغيير دور فتح أو انعتاقها من وهج السلطة، والسؤال الأهم هو كيف ستساهم المشاركة في الانتخاب بتطبيق رؤية تحررية؟
الخطاب الذي يعلنه القدوة لا يصل إلى حد تحدي أوسلو والمفاوضات، بل مجرد تغيير شروطها، إضافة إلى أن شخصية القدوة التي لا تقبل الحوار في محاور مهمة مثل حل الدولتين أو الدولة الواحدة وسبل المقاومة، أبعدت فتحاويين وغير فتحاويين، ممن تحدثت معهم قبل كتابة المقال، وهذا يحد أو قد يقوض إظهار تحالف البرغوثي - القدوة في قائمة الحرية كوسيلة لتغيير احتكار قيادة فتح والنظام الفلسطيني القائم.
لجوء قدرات شابة من داخل فتح إلى قائمة الحرية، سواء مشاركة أو مؤيدة، يعكس إلى حد كبير تداعيات الحسابات السياسية الضيقة على قرارات عباس التنظيمية، التي قامت بتهميش أو حتى تعريض هؤلاء لحملات وتهديدات دفعتهم نحو التمرد، وهذا يفسر إلى حد كبير وجود قيادات شابة واعدة في معسكر القدوة - برغوثي، ومن غير الصعب التكهن بمدى جاذبيتهم للأصوات، خاصة أن القدوة ليس وجهاً مألوفاً، أي أن البعض لا يعرف شكله بسبب طبيعة المواقع التي شغلها، وغير واضح تأثير كونه ابن اخت الشهيد ياسر عرفات بقوته الانتخابية، فمن المبكر الحكم.
نعود هنا إلى احتمال خسارة فتح في الانتخابات، وأعني الكتلة الرسمية وقائمة الحرية على وجه الخصوص، وانتصار ساحق لحماس، وخوف الكثير من الفتحاويين من هذه النتيجة، وهذه نقطة للتأمل العميق، وهي امتحان حقيقي للحركة، فهل الهدف هو الاحتفاظ بالسلطة أو الحفاظ على الحركة وتجديدها؟ على كل قياديي الحركة التفكير في ذلك، وفي تأثير التجاذبات بالوضع الفلسطيني داخل الوطن الفلسطيني المحتل وخارجه.
وماذا لو فازت حماس، فهل هذا ينهي الحركة أو سيطرتها على السلطة؟ المأزق هو أن تتحول ديمومة حركة فتح باستمرارها كحزب مهيمن على السلطة؟ ولن يحلها تأجيل الانتخابات الذي يقترحه البعض للخروج من المأزق. السبيل الوحيد الذي يخدم القضية الفلسطينية أن تطرح فتح أو أي جهة فاعلة، والمرشح بتقديم ذلك هو تيار البرغوثي، رؤية وطنية جامعة للشعب الفلسطيني، لا نقلل من تداعيات انهيار فتح، لكن الأولوية يجب أن تبقى قضية الشعب الفلسطيني، وبناء وعي وفكر مقاوم، وإلا فستكون مرحلة عبثية مدمرة من صراع مدمر على النفوذ والسلطة.

المساهمون