استمع إلى الملخص
- قمة سرت الثانية (أكتوبر 2010) تضمنت تغييرات في سرت وقرارًا باستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية دون شرط تجميد الاستيطان، وفشلت محاولات جمع الرئيسين الأسد ومبارك.
- تميزت القمتان بالتوتر واللامبالاة تجاه قضايا مثل تقسيم السودان، واستغل القذافي القمم لتعزيز مكانته، لكن أحداث 2011 أظهرت تغييرات جذرية في العالم العربي.
يصدر كتاب "مذكرات فاروق الشرع ... الجزء الثاني 2000 - 2015" عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ويغطي فترةً من رئاسة بشّار الأسد (2005 - 2015) استمرّ فيها الشرع في منصبه وزيراً للخارجية، ثمّ في منصب نائب رئيس الجمهورية، قبل أن يضطرّ للاعتكاف بمنزله في 2013، وإصدار الأسد تعليمات بعدم التواصل معه. وبينما اعتُبر الجزء الأول من الكتاب شهادةً تاريخيةً مهمةً على مسار من الأحداث التي شهدتها سورية في تفاعلاتها الإقليمية والدولية، خصوصاً ما يتعلّق بالمفاوضات السورية - الإسرائيلية، في عهد الرئيس حافظ الأسد، يقدّم الشرع في هذا الكتاب شهادته على أحداث لا تقلّ أهميةً في عهد بشار، منها اغتيال رفيق الحريري واتهامات مسؤولين سوريين بالتورّط في اغتياله، ما أسهم في دفع الخروج السوري من لبنان، وأحداث عصفت بسورية مع اندلاع الثورة السورية (2011). وتنشر "العربي الجديد" فصولاً من الكتاب. وهنا حلقة خامسة تتناول قمّتَي سرت، الأولى التي استمرت فيها الخلافات العربية العربية، والثانية التي سادتها لا مبالاة تجاه ملفّات حاسمة
قمة سرت الأولى
عقدت القمّة العربية الدورية في سرت في نهاية مارس/ آذار 2010، برئاسة الزعيم الليبي العقيد معمّر القذافي تحت شعار "القدس ودعم صمود غزة"، الذي ملأ ساحات المدينة وشوارعها صوراً عملاقة له ولأقواله "التاريخية" حول فلسطين. غاب عن القمّة صديقُه الرئيس المصري محمد حسني مبارك، الذي كان يومها يتلقى العلاج في أحد المستشفيات الألمانية، وكذلك العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز، متعمّداً عدم المشاركة في هذه القمة، بسبب وقوع مشاحناتٍ ومماحكاتٍ بينه وبين معمّر القذافي خلال انعقاد قمّة الدوحة في عام 2009.
شعر القذافي بنوعٍ من الإحباط في بداية القمة لغياب الزعيمين المصري والسعودي، بعد أن عاد من نيويورك منتشياً، حيث ألقى خطابًا حماسيّاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة صفّقت له الوفود طويلاً عندما طالب بإلغاء حق النقض (فيتو) في مجلس الأمن، ومزّق ميثاق الأمم المتحدة أمام ممثلي مختلف دول العالم، وقذف به في وجه رئيس الجمعية العامة، وكان يشغل هذا المنصب وزير خارجية ليبيا. كانت الأمم المتحدة بأعضائها الذين تجاوز عددهم 160 دولة سعيدة بمعظمها بخطابٍ جسورٍ للقذافي أمام الجمعية العامة، الذي يطالب فيه بإلغاء حق الفيتو.
تنفس أمير قطر الصعداء عندما سلّم القذافي رئاسة القمة وتخلص من عبء قمّتين عربيتين عقدهما في الدوحة في العام 2009، شهدت الثانية منهما مشادّة كلامية بين الملك عبد الله بن عبد العزيز والقذافي
كان لافتاً في مدينة سرت الليبية، مسقط رأس القذافي، أن المقاعد الخلفية في مؤتمر القمّة، قد امتلأت بشخصيات ليبية موالية لقائد ثورة الفاتح من سبتمبر، كانت تصفّق معجبة بقائدها وبكل ما يقول، وتظهر صورها على الشاشات العملاقة المنصوبة على جدران القاعة الواسعة، كأن المؤتمر كله يصفّق له، فالزعيم الليبي وحده – كما يردّد القذافي – ولا أحد غيره، يحظى بهذه الشعبية والولاء في سِرت موطن قبيلته.
اقترح أمير قطر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، في كلمته الافتتاحية في قمّة سرت التي سلم فيها الرئاسة إلى معمّر القذافي، تشكيل لجنة اتصال عليا برئاسة رئيس القمّة، أي القذافي وأربعة أو خمسة أعضاء آخرين ينتخبهم المؤتمر، تكون مهمّتها إصلاح العمل العربي المشترك، الذي يعاني أمراضاً مستعصية وخطيرة. كان جدول الأعمال الذي وزّع على الوفود في قمّة سرت شاملاً ومفتوحاً، لم يترك شاردة ولا واردة إلا أقحمت في القائمة الموزعة على المشاركين. هذه هي رغبة القذافي. تقدّم الرئيس اليمني علي عبد الله صالح الذي وجد الباب مفتوحاً له بمبادرة وحدوية بين الدول العربية على المنوال الأفريقي وبوحي من تطلعات القذّافي الاتحادية. ورأى عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية ألا تكتفي القمّة بالحوار بين الدول العربية، بل أن يضطلع هذا الاتحاد بمحاورة دول الجوار العربي، وفي مقدّمتها تركيا وإيران، اللتان "بيننا وبينهم مصالح حيوية مشتركة وخلافات مائية أو حدودية".
أمام هذه الزحمة في جدول الأعمال والمقترحات التي بدأت تتوالى على منصّة الرئاسة، اقترح الزعيم الليبي إما تمديد المؤتمر يوماً إضافيّاً، أو تأجيل القمة كي تعقد مجدّداً قبل نهاية عام 2010، فالمواضيع المطروحة عديدة وأيام المؤتمر محدودة. جاء التصفيق فوراً للاقتراحين من الصفوف الليبية الخلفية. اقترح عمرو موسى بعد أن همس في أذن معمر القذافي، المنتشي والجالس في وسط المنصة، متسائلاً بصوت مسموع لقربه من الميكرفون: لماذا لا تعقد في العام الواحد قمتان عربيتان، أيها الأخ القائد، واحدة عادية والأخرى تشاورية. سر الأخ القائد، فأومأ صوب أمين عام الجامعة موافقاً بصوت عالٍ، فأصبح تحويل القمّة إلى قمتين أمراً لا مفر منه.
كانت سورية حريصة على نجاح قمّة سرت الدورية عرفانًا بجميل القذافي الذي شارك في قمّة دمشق في مارس 2008، في حين قاطعها العاهل السعودي والرئيس المصري معاً لأسبابٍ متصلة بتداعيات اغتيال رفيق الحريري وذيول حرب تموز 2006. وجرى التعبير عن هذا الحرص السوري تجاه ليبيا بتكليفي مع وفد سوري ضم فيصل المقداد وبثينة شعبان للقيام بجولة عربيةٍ إلى دول المغرب العربي قبيل موعد هذه القمّة الدورية – التي نحن بصددها - لتشجيع قادتها على المشاركة في قمة سرت؛ لأن العلاقات بين الدول المغاربية لم تكن على ما يرام. ما أتذكّره من هذه الجولة، أن جميع القادة الذين زرناهم أومأ بالحضور دون التزام واضح. وتصادف أن الطائرة التي أقلّتنا إلى أغادير لمقابلة الملك محمد السادس كادت أن تهوي وهي تحاول الهبوط في مطار أغادير، الذي جرى تشييده على سفوح جبال أطلس، متأرجحة في ليلٍ ماطر لا ترى عبر نوافذ الطائرة المدينة ولا أين تقع أنوار مهبط الطائرة.
قاطع العاهل السعودي والرئيس المصري قمة سرت الأولى لأسباب متصلة بتداعيات اغتيال الحريري وذيول حرب تموز 2006
عُدنا إلى ليبيا لنضع القذافي في صورة نتائج جولتنا في المملكة المغربية وموريتانيا والجزائر وتونس. أطلعنا القذافي، وهو يستمع من دون اهتمام واضح إلى نتائج الجولة، على مخطّط لإعادة هيكلة القمم العربية وإجراء التعديلات المطلوبة على ميثاق الجامعة التي كان قد صمّمها له عمرو موسى عندما زاره قبلي منذ عدة أيام للإعداد للقمّة العربية في سرت. طلب القذّافي من حرّاسه الشخصيين إحضار طاولةٍ أمامي ونشر عليها مصوّرات مخططة بالألوان لمجالس الجامعة. وبدأ يشرح: كل وزارة من الوزارات العربية لديها مجلس خاص في اجتماعات الجامعة، والمجلس يتناول مختلف الشؤون التي تتعلق بتلك الوزارات من استيراد الأسلحة إلى التعامل مع أسعار المواد الغذائية. كل مجلس من مجالس الجامعة له رئيس وزراء، ورؤساء الوزارات يجتمعون مع وزرائهم المعنيين دوريّاً، ونتائج الاجتماعات تعرض على رئيس القمّة العربية الذي "كان الله في عونه" ويقصد نفسه. ونظر طويلًا إلى سقف الخيمة الملونة بألوان أفريقية زاهية، وتابع بأنه لا يجوز لرئيس القمة أن يتخلى عن هذه المسؤولية حتى تظهر حصيلة الاجتماعات للمجالس واللجان كلها، مهما أخذت من الوقت. اكتشفت حينها أن القذافي يخطط لكي يكون رئيسًا للقمم العربية، وأن ما سمعته بأنه غضب من الزعماء الأفارقة عندما رفضوا العام الماضي التمديد لرئاسته القمة الأفريقية في أديس أبابا لم يكن مجرّد إشاعة.
تنفّس أمير قطر الصعداء عندما سلّم القذافي رئاسة القمّة وتخلص من عبء قمّتين عربيتين عقدهما في الدوحة العام الماضي 2009، الأولى كانت طارئة إبّان العدوان الإسرائيلي على غزة ولم يتوفر لها النصاب المطلوب، والثانية عادية حصلت خلالها مشادة كلامية بين الملك عبد الله بن عبد العزيز والقذافي. كانت المشادّة بين الزعيمين من طراز الطرائف التي يُعجب بها المخرجون السينمائيون، فيحولونها إلى مسلسلات تلفزيونية أو مسرحيات كوميدية. عقدة القصة تظهر للجمهور حيث فهم الواحد الآخر عكس ما كان يقصده الأول، فلا يكتشف أيٌّ منهما حقيقة نيّات الطرف الآخر، إلا بعد فوات الأوان وبعد حصول القطيعة. لكن أمير قطر جمعهما في اليوم نفسه لاحقاً، وقبل مغادرة الملك عبد الله، ولكن ما في القلوب ظلّ في القلوب كما يبدو.
كان انسحاب الملك عبد الله بن عبد العزيز فجأة في قمّة الدوحة العام الماضي تعبيرًا عن احتجاجه على مداخلة القذافي التي أرادها مدخلًا للمصالحة على طريقته الخاصة، وليس انتقادًا للملك السعودي. تسمّر القذافي للحظة في مكانه مندهشًا وهو يستمع يومها إلى الشتائم الموجهة إليه من العاهل السعودي بدلًا من الترحيب بما قاله القذافي، ثم غادر مقعده والدهشة واضحة على قسمات وجهه إلى خارج القاعة، وعلق رئيس القمة الجلسة. لكن أحداً من القادة المؤتمرين لم يحاول المصالحة بينهما. حاولتُ أن أقنع الرئيس بشّار بأن يقوم بدور لتوضيح ما كان يقصده صديقه القذافي، لكنه لم يتحمّس للقيام بذلك، وقال وما شأننا في ذلك!
لنعد إلى قمّة سرت، والتي تأجلت بلا مشاوراتٍ وبلا تصويت، ولكن من دون أن تلقى استحسان أحد، لا سيما الفلسطينيون منهم، سواء كانوا مشاركين في المؤتمر من السلطة في رام الله، أو مراقبين عن بعد من غزّة. فالقمة لم تتّخذ قراراً بالمساعدة المادية ومقدارها خمسمئة مليون دولار. ومن ثمّ، حُرم الفلسطينيون من دعم صمود أهالي القدس، ومن رفع الحصار عن غزة.
ولم يناقش أحد مقترح علي عبد الله صالح الاتحادي، حتى إن بعض القادة الذين تكلّموا مع الصحافيين داخل قاعة المؤتمر ضاعت أصواتهم وسط الضجة واللغط. هكذا انتهت قمّة سرت الأولى.
بعد الخلاف السعودي الليبي في الدوحة حاولت إقناع بشّار الاسد بأن يوضح للملك عبد الله ما قصده القذافي، لكنه قال: وما شأننا في ذلك!
قمّة سرت الثانية
عقدت قمّة سرت الثانية التشاورية في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2010، بعد مرور حوالى ستة أشهر على انعقاد قمّة سرت الأولى الدورية. اللافت للنظر أن أموراً كثيرة تغيّرت في سرت ما بين القمّتين خلال الشهور الستة المنصرفة أو الفارطة (بحسب القاموس المغاربي). لاحظتُ، في مقدّمة التغييرات، زيادة عدد الصور الملوّنة بأزياء مصممة خصّيصاً لقائد ثورة الفاتح من سبتمبر، لا سيما أن رداءه المزركش بألوان زاهية أصبح يتغيّر في اجتماعات الصباح عن لقاءات المساء. وشمل التغيير أيضًا شعارات القمة، فلم نلحظ شعار "دعم صمود القدس" الذي كان موجوداً في كل تقاطعات الشوارع في قمّة سرت الأولى، واستعيض عنه بأقوال مختارة للزعيم القذافي. كان اللافت أيضاً بعد عودتنا إلى مقرّات الضيافة نثر ورود الجوري داخل الفيلات على أغطية الأسرّة وفوق الوسائد وفي الحمّامات الرخامية، وكان العمل على إزاحتها عن الشراشف والوسائد بعد يوم عمل طويل وعشاء رسمي لا يسهّل الخلود إلى النوم.
أصبح إعطاء الطلبات المرغوبة لتناول وجبة الإفطار في اليوم التالي واجباً يزاوله عدد من الشبان، يرتدون بزّة سوداء وربطة عنق على شكل فراشة بلون قرمزي. يخبرك هذا الشاب مثلاً، وهو يمسك قلماً ودفتراً، بأن طلبات الطعام ستأتي بسرعة لوجود زوارق تحيط بسفينة تركية لإعداد الطعام، وهي عائمة قبالتنا هنا على شاطئ سرت الهادئ، فاطلبوا ما تشاؤون فلن يطول وصول طلباتكم، لأن الزوارق طوربيدية سريعة. تذكّرتُ تلك السنوات التي كنتُ أزور فيها ليبيا في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وكيف أنني والنزلاء معي لا يستطيعون أن يطلبوا طعام الفطور إلى الغرف. فمن يريد شيئاً في الصباح عليه أن ينزل إلى مطبخ الفندق بنفسه، فالشعار الذي كان يستقبلك في تلك الأيام الغابرة من مطار طرابلس إلى الفندق: "نحن شركاء لا أجراء".
شدّ اهتمامي في التغيير أيضاً، ولكن من زاوية سياسية، اتخاذ وزراء الخارجية المكلفين بالتحضير لقمّة سرت الثانية قراراً باستئناف المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل من دون ذكر شرط تجميد الاستيطان الذي لم يتجاهله حتى الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال زيارته القاهرة عام 2009.
فور وصولي إلى سرت عشية انعقاد القمة الثانية برفقة الرئيس بشّار، جاءني إلى مقرّ إقامتي مندوبنا الدائم لدى جامعة الدول العربية يوسف أحمد، وجاء بعده مباشرة نائب وزير الخارجية فيصل المقداد، وقد شاركا معاً في اجتماعات وزراء الخارجية وفداً برفقة وزير الخارجية وليد المعلم للإعداد للقمّة، وأبلغاني فحوى المداولات ومشاريع القرارات التي اتفق عليها الوزراء لرفعها إلى القمّة صباح اليوم التالي. تحدّثوا عن مجريات ما حصل أمس في اجتماع لجنة مبادرة السلام العربية التي يرأسها وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم. وكيف اتُخذ قرار استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين من دون أي شروط لذلك، وبخروج متعمد لوزير الخارجية وليد المعلم من قاعة الاجتماع.
لم أشاهد أن أحداً من السياسيين يستخدم لغة الجسد كما استخدمها الشيخ حمد بن جاسم ووليد المعلم، بحسب وصف يوسف أحمد وفيصل المقداد اللذيْن أبلغاني أن بن جاسم غمز بطرف عينه الوزير المعلم كي يخرج من الاجتماع الوزاري بإيماءة منه لتمرير قرارٍ بغياب سورية يدعو السلطة الفلسطينية إلى استئناف المفاوضات مع إسرائيل بتفويض عربي. مرّ القرار بالإجماع ومن دون تحفّظ من أي وزير عربي بمن فيهم الوزير السوري.
كان استئناف تفاوض الفلسطينيين مع إسرائيل يومئذ مشروطاً بإيقاف الاستيطان، وهو شرط لم يستطع حتى باراك أوباما نفسه، كما قلت، تجاوزه والقبول به رغم معرفة الجميع بالعلاقة الاستراتيجية الخاصة التي تربط الولايات المتحدة بإسرائيل، ولكنه تجاوز هذا الشرط لاحقاً. صدر قرار الموافقة على التفاوض مع إسرائيل من دون إيقاف الاستيطان عن القمة أيضًا، لأن أحداً من الزعماء العرب بمن فيهم الرئيس السوري لم يعترض على البيان الختامي حين تلاه عمرو موسى في المساء. ظننتُ أن الرئيس لم يطّلع على الأمر. كنتُ قد طلبت من المقداد وأحمد أن يبلغا الرئيس بما حصل، لأن من الضروري أن يستمع منهما مباشرة لكي يكون في صورة القرارات التي ستُعرض على مستوى الرؤساء والملوك عند وضعها أمامه في اليوم التالي. تأكّدت خلال حديثي مع الرئيس بأنه قد استمع منهما فعلاً إلى ما جرى ولم يعلق سلبيّاً ولا إيجابيّاً، فاستنتجتُ أن المعلم لم يتصرّف من بنات أفكاره.
قلت لبشار لم أرَ لامبالاة في القمم العربية كما شاهدت في قمة سرت الثانية، خاصة عندما طرح الرئيس السوداني احتمال تقسيم السودان
تطرّقت في حديثي مع الرئيس الأسد ونحن في الطائرة باتجاه دمشق إلى أن الرئيس السوداني عمر حسن البشير ناشد في مداخلاته الأخيرة في القمّة بأن الجنوب قد ينفصل عن شمال السودان وقد يصبح السودان سودانيْن، موجّهاً كلامه إلى القادة العرب بأن يهبوا لمساعدته. كان الرئيس البشير جادّاً؛ لأن الموضوع كما قال أكبر منه ومن السودان. لكن لا أحد من القادة العرب حاول أن يستوضح منه أو يسأله ما المطلوب من الدول العربية لإنقاذ السودان من التقسيم؟ قلتُ للرئيس الأسد: لم أر طوال العقود الماضية لامبالاة في القمم العربية كما شاهدت في قمة سرت الثانية، وخاصة عندما طرح الرئيس السوداني احتمال تقسيم السودان.
تشكّلت اللجنة الخماسية التي كان قد اقترحها أمير قطر في قمّة سرت الأولى لتطوير منظومة العمل العربي المشترك برئاسة القذافي وعضوية الشيخ حمد بن خليفة، والرئيس العراقي جلال طالباني، والرئيس حسني مبارك، وعمرو موسى. لم يحظ الرئيس الأسد بعضوية اللجنة الخماسية. كانت العلاقات بينه وبين الشيخ حمد في مجالات المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والمالية على أفضل ما يرام، لكن لا بد من أن شيئًا ما قد حصل بينهما في الأيام الأخيرة.
كان غياب الودّ بين الرئيسين الأسد ومبارك مزعجاً للقذّافي منذ قمة دمشق، حيث قال خلال رئاسته قمّة سرت إنه لا يجوز أن يستمر هذا الخصام بين "ابني بشار" وبين حسني. حاول خلال الجلسات في المؤتمر أن يجمع بينهما، فوجئتُ بوزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط يأتي إلي ويقول إن الرئيس مبارك ينتظر الرئيس الأسد هناك، وأشار إلى المكان المخصّص للرئيس مبارك مترئسّاً الوفد المصري واستعدادهم لوضع كرسي بجانبه للرئيس الأسد ليتبادلا أطراف الحديث. اقترحتُ على أبو الغيط أن يكون اللقاء طبيعيّاً ولائقاً بين الرئيسين في إحدى الغرف المعدّة لمثل هذه الاجتماعات في المؤتمر والقريبة من هذا المكان، لكن الرئيس مبارك - بعد جهود أبي الغيط غير المُجدية - رفض أن يتزحزح عن كرسيه قيد أنملة.
طلب القذّافي من أحمد قذاف الدم، الذي كان مشرفاً على تحرّكات الزعماء العرب، أن يرتب لقاءً ولو شكليّاً بين الرئيسين في صالة الشرف عند المغادرة، لكن مبارك أمر بالتوجّه مباشرة إلى طائرته وعدم المرور إلى صالة الشرف، حيث كان بانتظاره في الصالة أبو بكر يونس ممثلاً للقذافي في توديع رؤساء الوفود. كان الأسد ينتظر مبارك في الصالة مع يونس، حيث جاء قذّاف الدم وأبلغنا همساً بأن الرئيس مبارك عنيد، وارتأى أن يذهب إلى طائرته مباشرة.
ملك الملوك
كاد القذافي "ملك ملوك أفريقيا غير المتوّج" أن يخرج من جلده منتشياً طوال الوقت بعد أن اختتم العام الماضي 2009 بالتصفيق المدوي له في الجمعية العامة للأمم المتحدة كما ذكرت، وبعد أن عُقدت عام 2010 قمّتان عربيتان في سرت مسقط رأسه، وأعقبهما قمّة ثالثة في اليوم التالي أفريقية – عربية خطط لها مسبقاً وشارك على هامشها بعض القادة الأوروبيين. كان من الطبيعي أن يكون قائد ثورة الفاتح من سبتمبر هو رئيس هذه القمم كلها والمتحدث الأول فيها، يقول فيها ما يشاء من دون أن يعترضه أحد.
قرأتُ بعد اختتام أعمال قمّة سرت تعليقاً ساخراً على أحد المواقع الإلكترونية حول ما ظهر في القمّة التشاورية جاء فيه: "قمّة سرت، مكانك سرت". ليت هذا التعليق الرصين رغم نبرته الساخرة كان في مكانه، لأن الذي كتبه لم يعرف أن العالم العربي لن يبقى في مكانه، بل سيهتز قريباً بكل من عليه. لا أحد يستطيع شطب الأحداث المزلزلة عام 2011. إن التاريخ يتغيّر لكنه لا ينتهي.