استمع إلى الملخص
- خلال "الربيع العربي"، تولت قطر قيادة جامعة الدول العربية في 2011، وقامت بزيارة دبلوماسية إلى دمشق، لكن الجهود لم تثمر بسبب تعنت النظام السوري.
- شهدت الأزمة السورية تدويلًا بعد فشل الجهود العربية، مع استقالة كوفي عنان وتعيين الأخضر الإبراهيمي، لكن تعنت النظام واستمرار الخيار العسكري حال دون تحقيق تقدم.
يصدر كتاب "مذكّرات فاروق الشرع... الجزء الثاني 2000 - 2015" عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ويغطي فترةً من رئاسة بشار الأسد (2005 - 2015) استمر فيها الشرع في منصبه وزيراً للخارجية، ثم في منصب نائب رئيس الجمهورية، قبل أن يضطر إلى الاعتكاف بمنزله في 2013، وإصدار الأسد تعليمات بعدم التواصل معه. وبينما اعتُبر الجزء الأول شهادة تاريخية مهمة على مسار من الأحداث التي شهدتها سورية في تفاعلاتها الإقليمية والدولية، خصوصاً ما يتعلّق بالمفاوضات السورية - الإسرائيلية، في عهد حافظ الأسد، يقدّم الشرع في هذا الكتاب شهادته على أحداث لا تقل أهمية في عهد بشار، منها اغتيال رفيق الحريري واتهامات مسؤولين سوريين بالتورّط في اغتياله، ما أسهم في دفع الخروج السوري من لبنان، وأحداث عصفت بسورية مع اندلاع الثورة السورية (2011). وتنشر "العربي الجديد" فصولاً من الكتاب. وهنا حلقة ثامنة تتناول فشل الجهود العربية في معالجة الأزمة السورية ومن ثمّ تدويلها، وصولاً إلى اعتزال الشرع في ظلّ إصرار الرئيس الاسد على الحلّ العسكري الأمني.
----------------------------------------------------------------------------------------------------
وقعت جامعة الدول العربية خلال "الربيع العربي" في حضن مجلس التعاون لدول الخليج العربية بعد تردّي أوضاع الدول العربية الفاعلة فيها؛ العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003؛ وسورية منذ اغتيال رفيق الحريري عام 2005؛ وترسيخ الانفصال بين الضفة وغزّة منذ عام 2006. أما دول الاتحاد المغاربي فقد ضعف تأثيرها عربياً منذ أن أخفقت في لم شمل أقطارها، فضلاً عن أن السودان أصبح سودانَيْن في عام 2011. غير أن مجلس التعاون، الذي فاجأه وقوع الجامعة في أحضانه، لم يستطع أن يتدبّر أمرها، لا سيما أن السعودية بمساحتها الشاسعة وثروتها ونفوذها الواسع، انكفأت سياسياً واكتفت بأن سخّرت المال الوفير في التعامل مع "الربيع العربي" وتداعياته. فضّلت السعودية أن تجلس في المقعد الخلفي وتفسح المجال لقيادة الجامعة إلى دولة قطر التي رأت فيها مؤهلاتٍ قد لا تتوفر في الدول الخليجية الأخرى.
من بين مؤهلات دولة قطر المتعدّدة النجاح الاقتصادي الهائل الذي تحقّق في عهد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ووجود أكبر قاعدة فيها لحليفتها الولايات المتحدة، واندفاع قطر، في الوقت ذاته، إلى لقيام بأدوار مختلفة في الوساطة وتسوية النزاعات الخشنة، ممزوجة مع دور تنموي سخي، لا تضاهيها فيه أي من الدول الأخرى في مجلس التعاون (مثل اتفاق الدوحة بين الأطراف اللبنانية عام 2008، ودارفور وتشاد ومناطق نزاع أخرى، والحديث مع طالبان والفلسطينيين والإسرائيليين في أي وقت). كان التفويض السعودي مشفوعاً أيضاً باعتلال صحة وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، وغضب العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز من خذلان إخوانه لاقتراحه تحويل مجلس التعاون إلى اتحاد بين دول الخليج في أثناء انعقاد القمة الخليجية في الرياض نهاية عام 2011.
لم يكن في حينه بين المسؤولين القطريين من هو أكثر خبرة في المجالين السياسي والاقتصادي من الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني. فمن منظور السياسة العامة، شغل منصبي رئيس الوزراء ووزير الخارجية. أما من منظور الاقتصاد، فهو معروف لدى الأوساط العالمية المالية وفي الداخل القطري بأنه صاحب ثروة قادر على استثمارها وإدارتها من دون ضجّة. كان حمد بن جاسم قادراً أن يتولى (على سبيل المثال) استضافة اجتماع وزاري عربي وتحديد مكانه وزمانه.
فضّلت السعودية الجلوس في المقعد الخلفي وإفساح المجال لدولة قطر لقيادة الجامعة العربية إذ رأت فيها مؤهلات لا تتوفر في الدول الخليجية الأخرى
لم يكن تسلّم دولة قطر إبّان "ثورات الربيع العربي" رئاسة مجلس جامعة الدول العربية بدلاً من دولة فلسطين مجرد مصادفة. دعي الرئيس الفلسطيني محمود عباس ووزير خارجيته رياض المالكي إلى مأدبة غداء أقامها الشيخ حمد بن جاسم في القاهرة قبل ساعات من بدء الدورة الجديدة للجامعة. اقتنع الرئيس عبّاس بوجاهة الطلب القطري بأن تحل دولة قطر محل دولة فلسطين في رئاسة الجامعة اعتباراً من سبتمبر/ أيلول 2011.
أصبح تفويض مقعد القيادة في الجامعة لحكومة قطر أمراً واقعاً. كانت أول حركة دبلوماسية قام بها رئيس مجلس الجامعة توجهه إلى دمشق مصطحباً معه وزراء خارجية أربع دول عربية، هي الجزائر ومصر وسلطنة عُمان والسودان، إضافة إلى الدكتور نبيل العربي الأمين العام للجامعة، من أجل مقابلة الرئيس بشّار الأسد في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2011.
كان اللقاء في دمشق طويلاً على غير العادة بين الرئيس والوزراء العرب، وودّياً وإن تخلّلته بعض المماحكات. ويمكنني القول إن الشيخ حمد بن جاسم حاول أن يكون مهذّباً إلى أبعد الحدود؛ لأنه ارتبط هو وأمير دولة قطر بعلاقة خاصة مع الرئيس بشار الأسد عقداً. وكانت الزيارات المتبادلة والمتكرّرة بين دمشق والدوحة، وعلى أعلى مستوى، لا سيما بين الرئيس السوري وأمير دولة قطر لا تحتاج مواعيد وترتيبات مسبقة، وكان غير المعلن منها أكثر من المعلن.
كان الشيخ حمد بن جاسم يرغب أيضاً في أن يكون وسيطاً ناجحاً باسم الجامعة في حل الأزمة السورية. لكن الرئيس الأسد أخذ في هذا اللقاء المهم دور المستخفّ بأقواله، حتى لو جاء بعضها منسجماً مع طروحاته. فجعل من استحضار الولايات المتحدة قميص عثمان، متهماً الشيخ حمد خلال اللقاء بصلات خاصة معها، متناسياً خلال سنوات صداقته الطويلة مع قطر أنها تستضيف أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط. وهي لا تنزعج أساساً لوجود علاقة خاصة مع الولايات المتحدة لتعزيز دورها السياسي ومصالحها في تصدير الغاز بيسر وسلاسة إلى مختلف أنحاء العالم. كما تابع الرئيس الأسد غاضباً "في سورية لا يوجد سقوط أنظمة، إما أن تتفتّت سورية أو تبقى دولة"، مفترضاً أن الحاضرين سيكونون أشد حرصاً على بقاء سورية موحدة من رئيس جمهوريتها!
قرأت باعتباري رئيساً للجنة السياسية محضر الاجتماع بين الرئيس ووفد وزراء الجامعة، وكان محوره أن وفد الجامعة أتى ليحصل من الرئيس على الموافقة على المبادرة العربية لحل الأزمة السورية. صدر في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 (أي بعد عودة وفد الجامعة من زيارته إلى دمشق بأسبوع) خلاصات في مجلس الجامعة عن النقاط التي أخذها الوفد العربي خلال اللقاء من فم الأسد خلال المماحكات. من أبرزها وقف العنف من أي طرف كان، والإفراج عن المعتقلين، وسحب الجيش من المدن، وحرية الحركة للصحافيين والمراقبين العرب الذين قرّرت الجامعة إرسالهم في ديسمبر/ كانون الأول 2011.
وافق الجانب السوري على هذه النقاط خلال اللقاء، ولكن مع نية عدم الالتزام بالموعد ولا بالبنود التي يمكن تنفيذها بعد محاولته إفراغ كل بند من مضمونه. فضلاً عن أن الرئيس اعتاد الموافقة بلطفٍ مع محاوريه وجهاً لوجه في اللقاءات الرسمية على أن يتراجع عن الموافقة بعد مغادرة الوفد مطار دمشق الدولي.
انتقد أمير قطر بشدّة عدم التزام بشّار الأسد بالتعهد الذي قطعه بوقف إطلاق النار، وأرجع الموقف السوري إلى سيطرة الأجهزة الأمنية على القرار
سافر وفد سوري برئاسة وليد المعلم إلى الدوحة بطلب شخصي من أمير دولة قطر بعد لقاء الوفد العربي في دمشق بأربعة أيام. اجتمع الوفد بأمير قطر الذي انتقد بشدة موقف سورية بسبب عدم التزامها بالتعهّد الذي قطعه بشّار الأسد على نفسه بوقف إطلاق النار، وأرجع الأمير هذا الموقف صراحة إلى سيطرة الأجهزة الأمنية السورية على القرار.
كانت جامعة الدول العربية قد علّقت عضوية ليبيا مبكراً عام 2011 عندما طلب مندوبها الدائم عبد المنعم الهوني نفسه تعليق عضوية بلاده، لأنه كان معارضاً ليبيّاً في الأساس، في حين رفض المندوب الدائم لسورية يوسف أحمد تعليق عضوية بلاده في الجامعة لأنه التصرّف الطبيعي، فضلاً عن أن سورية من الدول المؤسّسة للجامعة من بين سبع دول. لكن مجلس الجامعة أقدم على تعليق عضويتها، على الرغم من الأخطاء التي ارتكبها في أثناء التعليق، وفي مقدّمتها الاسترشاد بالنموذج الليبي.
ليست تفاصيل ما أحاط بقرارات مجلس الجامعة منذ تعليق عضوية سورية اعتباراً من 16 نوفمبر 2011 وحتى تدويل الأزمة السورية بالأمر المثير، ويستطيع المرء الاطّلاع على القرارات العربية من مصادر عديدة.
لقد أصبح أي إجراء ضد سورية مرحّباً به من ممثلي الدول العربية باستثناء التحفظات من لبنان والجزائر والعراق، والتي لم تصل إلى حد الإصرار على إلغاء قراراتٍ تتعارض مع روح الميثاق. أما الدول العربية الأخرى فلم تشعُر أن في ذلك إساءة إلى سورية، حيث ترى أن النظام الذي يخرج عليه شعبه ويواجه الناس بالرصاص يستحقّ المقاطعة. إنها لحقيقة مرّة أن كل "ثورات الربيع العربي" اندلعت في أنظمة جمهورية، حيث فشلت مع الزمن في إحداث التغييرات المنشودة. لكن الأنظمة الملكية أيضاً ليست في منأى عن التغيير.
عندما وافقت دمشق على إرسال نائب وزير خارجيتها الدكتور فيصل المقداد إلى مقرّ الجامعة في القاهرة للتوقيع على بروتوكول التعاون مع بعثة المراقبين العرب في سورية، لم يكن مجلس الجامعة سعيداً بهذا التوقيع، وإنْ لم تخرج الدول العربية بتصريحاتٍ علنيةٍ تؤكد ذلك. لكنها كانت تنتظر انتهاء مهمّة بعثة المراقبين العرب بفارغ الصبر لتدويل الأزمة السورية، وإلقاء المسؤولية على النظام السوري الذي سيلقي كامل المسؤولية على العرب والمؤامرات الدولية.
تحينت الجامعة الفرصة لسحب المراقبين العرب من دمشق قبل أن يستكمل عدد عناصرها. وليس سرّاً أن تشعر السلطات بدمشق بالارتياح الضمني لقرار سحب المراقبين من دمشق، فلم تحرك ساكناً. حاولت جهدي بوصفي رئيساً للجنة السياسية تجنباً للتدويل أن أجد مخرجاً على الأقل للإبقاء على بعثة المراقبين العرب في سورية، التي تعرّض لها شبّيحة النظام بالشتائم والإهانات عند وصولها إلى مشارف محافظة اللاذقية. كان رئيس البعثة الفريق محمد مصطفى الدابي جادّاً في عمله، فضلاً عن التزامه القومي، حيث كان فخوراً بما أوصاه به الرئيس السوداني قبل سفره إلى سورية بقوله إنك تخدم آخر القلاع العربية في مواجهة العدو الصهيوني.
تدويل الأزمة السورية
استغلت اللجنة الوزارية في جامعة الدول العربية تقرير رئيس بعثة المراقبين العرب الفريق الدابي، الموثق بالأرقام والمعلومات، بعد قيامه بجولة واسعة في سورية رافقه خلالها ضبّاط عسكريون وأمنيون سوريون، وأرسلت تقريره إلى اللجنة العربية في القاهرة، ليرسله رئيسها حمد بن جاسم إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ومن المفارقات الغريبة أن تدويل الأزمة السورية ترافق مع اعتراضات شكلية، حيث إن وسائل الإعلام السورية دأبت على اتهام المعارضة وحدها بالتدويل الذي يرقى من وجهة نظرها إلى مستوى الخيانة، بينما كانت السلطة السورية منهمكةً بالاتصال مع الدول الأجنبية، لأن التدويل بمفهومها الأممي أفضل من التعريب. ومن هنا انطلق التهكم والسخرية من العرب و"العربان" و"الأعراب" حينذاك في بعض الأوساط في سورية، وهي عباراتٌ لم تدخل في القاموس السياسي لحزب البعث العربي الاشتراكي منذ تأسيسه، ولا في قاموس أي حكم سوري آخر.
سأل وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الرئيس بشّار الأسد: متى سينتهي الجيش السوري من قصف بابا عمرو في حمص؟ فأجاب خلال يومين أو أسبوع على أبعد تقدير
كان الاتحاد الروسي يؤيد حلاً سياسياً يجري بموجبه وقف إطلاق النار وسحب الجيش من المدن حتى مؤتمر جنيف (يونيو/ حزيران 2012). كان تحفّظه الأساسي في مجلس الأمن عام 2011 يتمحور حول اعتراضه على اتخاذ قرار شبيه بالقرار 1937 الخاص بليبيا عام 2011 الذي أسيء استخدامه أطلسياً من أجل الحرب على ليبيا، بدلاً من استخدامه أممياً لصنع السلام فيها. عدا ذلك، كان الروس لا يمانعون (من دون أن يصرّحوا عن رغبتهم) بتأدية دور الوسيط بين الحكومة السورية والمعارضة، أو بين سورية ومجلس الأمن. لكن الأخير لم يعر هذا الأمر ما يستحقه من اهتمام، لأن الدول الغربية دائمة العضوية غير معنية بأن تعطي روسيا هذا الدور، وسورية لا ترغب في أن تصبح روسيا وسيطاً بينها وبين المعارضة لأنها تريد أن تكون روسيا إلى جانبها فقط.
عندما زارنا وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في دمشق في يناير/ شباط 2012، سأل الرئيس بشّار الأسد: متى سينتهي الجيش السوري من قصف بابا عمرو في حمص؟ فأجاب خلال يومين أو أسبوع على أبعد تقدير. ثم سأله على مائدة الغداء من سيكون ممثلكم للحوار مع المعارضة، أجاب بتلكؤ نائب الرئيس فاروق الشرع، وحين وجد الرئيس متردّداً في ذكر الاسم، قال لافروف هل يزعجك أن أعلن اسمه في المؤتمر الصحافي، أجاب الرئيس بالموافقة على مضض "لقد أصدرنا قراراً جمهورياً بهذا الشأن!". ولكن لافروف أعلن في مؤتمره الصحافي الذي عقده في بهو القصر مباشرة بعد الغداء أن الرئيس الأسد كلف نائبه الشرع بتمثيل الدولة السورية في الحوار بين النظام والمعارضة. مرّت أسابيع وأشهر والرئيس لم يفِ بأي من الوعدين، فلا القصف على بابا عمر توقف، ولا الحوار جرى استئنافه بفاروق الشرع أو بغيره.
ردّاً على عدم التزام الموقف السوري، عقد في تونس في 24 فبراير/ شباط 2012 المؤتمر الأول تحت عنوان أصدقاء سورية، ثم عقد المؤتمر الرابع في مراكش في المغرب قبل نهاية عام 2012 حضرته أكثر من مائة دولة. وكانت روسيا في 14 إبريل/ نيسان 2012 قد صوّتت بوضوح في مجلس الأمن إلى جانب أميركا وبريطانيا وفرنسا لصالح القرار 2042، الذي سيتم بموجبه إرسال 30 مراقباً للإشراف على وقف إطلاق النار في سورية.
تبعه بعد أسبوع قرار آخر رقم 2043 في 21 إبريل/ نيسان 2012، أيدته موسكو، ونصّ على تطبيق خطة كوفي عنان الشهيرة بالنقاط الست. هذا الموقف الروسي أزعج السلطات السورية كثيراً، وجاء منسجماً مع موقف جامعة الدول العربية أيضاً، ومع موقف كوفي عنان نفسه الذي حظي تعيينه بترحيب الجانبين العربي والدولي.
وقعت مجزرة في غاية البشاعة في الحولة، وألقى النظام كامل المسؤولية على تنظيم القاعدة والمعارضة السورية، ورفض في الوقت ذاته السماح للأمم المتحدة بفتح أي تحقيق حول الأمر!
وفي أثناء ذلك، جرى تعيين الجنرال روبرت مود القادم من الصليب الأحمر الدولي رئيساً لبعثة المراقبين الدوليين في سورية الذين وصل عددهم إلى نحو 300. والجنرال مود نرويجي الجنسية وضابط مرموق استطاع أن يقيم علاقات ودية مع بعض أعضاء الحكومة السورية، فنجح في تثبيت وقف إطلاق النار فترة قصيرة، تنقل خلالها من محافظة درعا في الجنوب إلى محافظة إدلب في الشمال.
في 25 مايو/ أيار 2012، وقعت مجزرة في غاية البشاعة في الحولة (غربي حمص) وراح ضحيتها عشرات المدنيين من بينهم أطفال ونساء. فأدانتها روسيا والصين والدول الغربية في مجلس حقوق الإنسان. ووُجهت أصابع الاتهام إلى القوات الحكومية السورية ومجموعة من الشبيحة الموالية للنظام، إلا أن النظام ألقى كامل المسؤولية على تنظيم القاعدة والمعارضة السورية، ورفض في الوقت ذاته السماح للأمم المتحدة بفتح أي تحقيق حول الأمر!
بيان جنيف (30 يونيو 2012)
عين كوفي عنان في 23 فبراير 2012 مبعوثاً دولياً في سورية، وحاول بخبرته المعهودة أن يجمع "كبار القوم" المعنيين بالأزمة السورية فيما عرف بـ "مجموعة العمل من أجل سورية"، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة (هيلاري كلينتون) والاتحاد الروسي (سيرغي لافروف) والصيني (يانغ جيه تشي) والاتحاد الأوروبي (كاترين أشتون) وغيرهم من عرب وأجانب في جنيف بتاريخ 30 يونيو 2012. كانت نقاط التفاهم واسعة داخل المؤتمر بين المسؤولين الكبار والصغار، لا سيما حول النقاط الست لخطة كوفي عنان، في إطار حل سياسي. أما النيّات فكانت شيئاً آخر.
كان التباين الوحيد في نهاية المطاف الذي حال دون الوصول إلى خاتمة مرضية للجميع استحضار اسم الرئيس بشّار الأسد سلبياً او إيجابياً. هنا ظهرت عقدة "النجار" المتداولة شعبياً، والتي ردّدها المسؤولون الروس والأميركيون في أرجاء العالم، وذلك لتفشيل حل الأزمة السورية من أساسها، وليس لتنحية الرئيس السوري ذائع الصيت، ونقاط عنان الست، ذريعةً لفظيةً لا أكثر، لأن العالم يُصدر أحكامه، في النهاية، بالاستناد إلى الأقوال، فهي الدليل الدامغ الذي لا يظهر غيره في عالم اليوم.
مع ذلك، حُيّدت مسألة تنحية الرئيس من النص، وجاء القرار مطوّلاً من أبرز فقراته: "إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرّك في ظلها العملية الانتقالية. وأن تمارس هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية. ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكّل على أساس الموافقة المتبادلة".
كان بيان جنيف (2012) من وجهة نظر الرئيس النهائية كارثة ليس إلا. وما زلت أتساءل أين تكمن الكارثة في بيان يدعو لوقف إطلاق النار وسحب الأسلحة الثقيلة من المدن وتشكيل حكومة وحدة وطنية بين السلطة والمعارضة ولا يتعرّض لمنصب رئيس الجمهورية؟
عقد اجتماع مصغر في القصر ترأسه الرئيس لمناقشة بيان جنيف. كنتُ قد قرأت البيان وعرفت الملابسات كافة التي أحاطت بصياغته، ووجدته يفتح الأفق أمام خروج سورية من نافورة الدم. بدأ الرئيس الاجتماع بانفعال واضح، واعتبر البيان كارثة، والتفت إلى وليد المعلم الذي علق بأن بيان جنيف فعلاً كارثة لأنه صناعة أميركية. علقت: "أين الكارثة؟ إذا كان هناك نقطة في البيان لا تعجبنا، فبإمكاننا إطلاع الروس على هواجسنا، وهم باعتقادي لن يمانعوا لأن لهم اليد الطولى في صياغة البيان، ولمعرفتهم بكوفي عنان، الذي ما كان ليتبنّى النقاط الست الواردة في البيان لولا موافقة الروس عليها". كرّرت الأقوال. صمت الرئيس فصمت وزير خارجيته، لأن بيان جنيف من وجهة نظر الرئيس النهائية كارثة ليس إلا. ... وحتى هذه اللحظة، ما زلت أتساءل أين تكمن الكارثة في بيان يدعو لوقف إطلاق النار وسحب الأسلحة الثقيلة من المدن وتشكيل حكومة وحدة وطنية بين السلطة والمعارضة ولا يتعرض لمنصب رئيس الجمهورية؟
في 19 يوليو/ تموز 2012، أي بعد بيان جنيف بنحو ثلاثة أسابيع تقريباً، كان مجلس الأمن قد اجتمع وأعدّ مشروع قرار تحت الفصل السابع تقدمت به كل من فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، لكنه لم يمرّ بسبب الفيتو الروسي الذي يعني الإنقاذ الأولي للنظام الذي بدا في وضعٍ صعبٍ جداً.
تفجير خلية الأزمة
أستذكر وفاة العماد حسن تركماني رئيس خليّة الأزمة المروعة بتفجير مكتب الأمن الوطني في 18 يوليو 2012، مع وفاة أصدقاء آخرين وهم شخصيات مهمة في خلية الأزمة: العماد آصف شوكت الذي كان قد نقل من شعبة المخابرات العسكرية إلى الأركان، ووزير الدفاع العماد داود راجحة، واللواء هشام الاختيار رئيس مكتب الأمن الوطني. تمكّنت من رؤية الأخير لحظة احتضاره في غرفة العناية المشدّدة في مستشفى الشامي بدمشق، وإلى جانبه ابنه الشاب الذي كان أيضاً في الغرفة المجاورة لصالة الاجتماعات ساعة تفجير المكتب. ونجا الرابع وهو اللواء محمد الشعار وزير الداخلية، بسبب مغادرته قاعة الاجتماع قبيل دقائق معدودة من التفجير إلى الحمّام. شكلت لجنة تحقيق، لكن القيادة لم تبلغ فيما إذا وصلت إلى أية نتائج. وسبقتها بأسبوع محاولة تسميم عدد من أعضاء اللجنة التي لم تؤخذ من القيادة على محمل الجد رغم انتشار شائعات بأن الفاعل هرب إلى خارج البلاد.
كلفني الرئيس في آخر دقيقة أن أتولى بالنيابة عنه تشييع الشهداء (ضحايا التفجير) الأربعة إلى مثواهم الأخير في ضريح الجندي المجهول مع أن كل الترتيبات اتخذت على أساس حضوره، لا سيما أن أحدهم وهو آصف شوكت كان صهره زوج أخته الكبرى بشرى. قال لي الرئيس عبر هاتف مدير مراسم الرئاسة الموجود في أثناء مراسم التشييع إنه سيكلمني فيما بعد عن الأسباب التي منعته من المشاركة بالتشييع، وهو ما لم يحدُث، وأنا بدوري لم أسأله، لأنني لم أعد أراه كالسابق.
الفيل يا ملك الزمان
كان أعضاء القيادة القُطرية يتفقون معي في موقفي ضد الحل العسكري للأزمة. وقد طالبوني بأن يعقد الرئيس اجتماعاً معهم كي أعيد على مسامعه رأيي الدائم بضرورة الحل السلمي. فاشترطت عليهم أن يعبروا عن هذا الرأي حين أطرح الموضوع بوجودهم؛ لأن الرئيس كان عادةً يسمع رأيي على انفراد أو بالتوصيات التي كانت تصدر عن القيادة القطرية واللجنة السياسية التي كنت أرأسها. فوعدوا بذلك.
حين اجتمعنا مع الرئيس في القصر الجمهوري، طرحت مشكلة الحل العسكري وضرورة انتهاج حل سياسي للأزمة. وحاول أسامة عدي عضو القيادة القُطرية التأكيد على ما قلته، فقاطعه الرئيس وقال للجميع إنه لم يعد يثق بأداء وزارة الخارجية وأن الأسلوب الذي تنتهجه الخارجية لم يعُد مجدياً من دون أن يشرح ماذا يقصد. وأضاف: من الآن فصاعداً سأقوم أنا بالعمل من تحت الطاولة، لأن ذلك سيعطي نتائج أفضل. قالها وسط دهشة أعضاء القيادة لتغيير الموضوع، فران الصمت وانفضّ الاجتماع.
توقفوا عند الباب الخارجي للقصر يتساءلون عن أسباب هذا الموقف الغريب للرئيس. عبّرت عن استيائي لعدم مشاركتهم رغم تأييدهم في الاجتماعات الحل السلمي وأخبرتهم أن هذا آخر اجتماع للقيادة سأحضره.
وصفت استقالة كوفي عنان بالدراماتيكية بعد أن رأى أن الرئيس على الرغم من وعوده استمر في قتل شعبه، بينما المعارضة لم تبدِ استعدادها لانتقال سلمي يكون للرئيس الأسد دور فيه
استقالة كوفي عنان الصامتة
أعرف أن كوفي عنان مبعوث الأمم المتحدة قد أراق ماء وجهه لكي يوافق الرئيس بشّار الأسد على سحب الدبابات إلى خارج المدن السورية فقط. فلم يكن هناك من صدى لطلبه، كما لم يكن هناك أي التزام بما نصّت عليه نقاطه الست، وأدّى ذلك إلى استقالته في مطلع أغسطس/ آب 2012؛ أي بعد ستة أشهر فقط من تعيينه مبعوثاً إلى سورية. كان بطبعه قليل الكلام. ولذلك لم يعرف الكثير من الناس موقفه من الأزمة السورية، إلا بعد استلام الأخضر الإبراهيمي مهمّته الجديدة الدولية والعربية. عندها فقط نطق عنان بعد خروجه من سورية بما كان يفكر فيه بعد أن رأى، بوصفه أميناً عاماً سابقاً للأمم المتحدة، أنه كان يتعامل مع مهمّة في غاية التعقيد، من دون أن يتلقى دعماً دولياً أو من الحكومة السورية.
صرّح كوفي عنان، في 2 أغسطس 2012 لصحيفة نيويورك تايمز، أنه من دون تعاون دولي موحد وضاغط إضافة إلى جهد إقليمي، يستحيل إجبار الطرف السوري على الشروع بعملية سياسية. وفي مقالة نشرت مقتطفات منها صحيفة فايننشال تايمز اللندنية حمّل مسؤولية إخفاق مهمته إلى الحكومة السورية وللرئيس بشار الأسد بالاسم. لقد وصفت استقالته بالدراماتيكية بعد أن رأى أن الرئيس على الرغم من وعده بقبول النقاط الست، استمر بقتل شعبه، بينما المعارضة لم تبدِ استعدادها لانتقال سلمي يكون للرئيس الأسد دور فيه.
الأخضر الإبراهيمي
في 17 أغسطس/ آب 2012 عُيِّن الأخضر الإبراهيمي مبعوثاً خاصاً باسم جامعة الدول العربية والأمم المتحدة بعد استقالة كوفي عنان. كان في شبابه عضواً في جبهة التحرير الوطني الجزائرية ومثّلها في مؤتمر باندونغ عام 1955. شغل منصب وزير خارجية الجزائر. وله تجربة دبلوماسية طويلة ساعدته في معالجة العديد من النزاعات، نجح في حل بعضها وفشل في أخرى. كان يدرك، منذ بداية تكليفه، صعوبة حل الأزمة السورية، لأنه الوحيد من بين المبعوثين الدوليين الذي يعرف الداخل السوري، حيث كان أمين عام اللجنة الثلاثية الخاصة بالوجود السوري في لبنان في ثمانينيات القرن الماضي، فضلاً عن تسلمه الأمانة العامة للجنة الثلاثية التي تشكلت من المغرب والجزائر الخاصة بلبنان في نهاية الثمانينيات.
حاول الإبراهيمي خلال مهمّته أن يوسع اتصالاته بالسوريين وبي شخصياً. وفضّل أن يستشير الرئيس بشار الأسد قبل اللقاء بي؛ لأنني كنتُ آنذاك معتكفاً في منزلي بسبب موقفي، ولكن طلبه جوبه بالرفض من الرئيس نفسه. استغرب الإبراهيمي هذا الموقف، ورأى أن استشارة الرئيس لم تكن في محلها لأن ذلك يعني فشل مهمّته المبكر، فطلب مني عبر الهاتف أن أرسل مبعوثاً لإطلاعه على التفاصيل. كلفت الدكتور توفيق سلوم مدير الشؤون السياسية أن يجتمع مع مساعده مختار اليماني ليضعه بصورة لقاء الإبراهيمي مع الرئيس الأسد. نقل لي سلوم مضمون لقاء الإبراهيمي مع الرئيس، وأن الإبراهيمي لم يكن مرتاحاً للنتيجة التي تعني أنه إذا كان الرئيس غير موافق على اجتماعه بفاروق الشرع الذي اختاره الرئيس الأسد نائباً له، فكيف سيكون في إمكان الإبراهيمي العمل مع الشخصيات السورية الأخرى؟
لم يتبق سوى احتمالات بعيدة جداً لحل دولي، وإن جرى ستتم فيه التضحية بسورية بسبب تناقضات الدول الأجنبية المتورطة. قررت آنذاك عدم الذهاب إلى مكتبي والجلوس في المنزل، فلا آذان صاغية، ولا النصيحة باتت تجدي
حديثي إلى صحيفة الأخبار
أدليت بحديث صحافي مع إبراهيم الأمين رئيس تحرير صحيفة الأخبار اللبنانية نشر في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2012، لتوضيح موقفي للرأي العام، ومحاولة لقطع الطريق على الإشاعات التي أخذت تتزايد يوماً بعد يوم بحديثها إما عن انشقاقي أو عزلي أو خروجي من البلاد.
تحدّثت بصراحة وأوضحت حقيقة موقفي الذي كان يبدو غامضاً خارج القيادة، وشرحتُ وضع سورية على نحو عام من وجهة نظري. قلت في بداية المقابلة: "إن السلطة كانت تتوسّل في بداية الأحداث رؤية مسلح واحد أو قناص، الآن هي تشكو كثرة المجموعات المسلحة"، وإن "توفير الأمن واجب، لكن يختلف عن الحل الأمني للأزمة"، تساءلت: "هل يحقّ لأيٍّ كان أن يُدخل الوطن بعنق زجاجة لا يخرج منها إلا بكسره؟". صارحت الرأي العام بأن "الخط البياني للأحداث يأخذك إلى مكان غير مريح تسير فيه الأمور فعلاً من سيئ إلى أسوأ".
أقررتُ بعمق الكارثة السورية "كل يوم يمر يبتعد الحل، نحن يجب أن نكون في موقع الدفاع عن وجود سورية وليس في معركة وجود فرد أو نظام"، وأوضحتُ مسؤولية رأس الدولة عما يجري قائلاً: "هو لا يخفي رغبته بحسم الأمور عسكرياً بينما يعتقد الكثيرون أن لا بديل عن الحل السياسي ولا عودة إلى الوراء" في إشارة إلى رغبة الرئيس المستحيلة في الإبقاء على شكل السلطة الحالي من دون أي تغيير. "وإن فقدان الثقة بين هذين الطرفين (نظام الحكم والمعارضة)، وبالتالي استحالة جمعهما في حوار مباشر، سيفضي إلى تدمير وتفكيك مستمرين لا يستفيد منهما في هذه المرحلة إلا الاحتلال الإسرائيلي".
اتصل بي إبراهيم الأمين بعد عدة أيام من نشر مقابلة لي في "الأخبار" ليبلغني أن أعداد صحيفته مُنعت من دخول سورية، وفيما بعد عرفت أنه منع هو شخصياً من دخول سورية فترة
توقّعت "أن الشعب لن يقبل بتدخل الجيوش الأجنبية على أراضيه وستكون هناك مقاومة"، وأخيراً، دعوتُ إلى أن الحل يجب أن يكون سورياً من خلال تسوية تاريخية على قاعدة وقف إطلاق النار وتشكيل حكومة وحدة وطنية ذات صلاحيات واسعة.
أخذتُ في الحسبان كل الاحتمالات السيئة بعد حديثي الصحافي، لأن الحزب الحاكم لا يؤمن بحرية التعبير. صحيحٌ أنني لم أفكر بالانشقاق، ليس لأنني أحب بلدي أكثر من الذين يموتون من أجله، وإنما ليقيني بأن الدول التي يمكن أن أنشق إليها، لن تجعل سورية أفضل حالاً.
أثارت المقابلة ردوداً كثيرة من المعارضة والسلطة. اعتبر بعض المعارضة أنه لا يمكن لأحدٍ أن يصرح بمثل مضمونٍ كهذا ما لم يكن الموضوع متفقاً عليه، وهو دليل ضعف السلطة وأنها زائلة خلال أيام. أما الطرف الموالي فوصل إلى حد التلميح إلى أن موقفي من حل الأزمة يقترب من الخيانة. وكان أبرز توضيح للموقف الرسمي مما جاء في المقابلة ما ورد رسمياً في تصريح لوزير الإعلام عمران الزعبي بعد جلسة في مجلس الوزراء، هاجمني فيها بأن تصريحاتي "ليست إلا رأي من آراء 23 مليون سوري".
لقد قرّرت أن أقول ما قلته مهما كانت العواقب، لأضع الجميع أمام مسؤولياتهم في إنقاذ سورية من مخاطر مصيرية كنت أراها بوضوح. اتصل بي إبراهيم الأمين بعد عدة أيام من نشر المقابلة ليبلغني أن أعداد صحيفته مُنعت من دخول سورية، وفيما بعد عرفت أنه منع هو شخصياً من دخول سورية فترة.
العزل والعزلة
في بدايات 2013، كنت أدرك أن الخيار العسكري سائر حتى النهاية، حتى تدمير البلد، وأن الحوار السوري - السوري جرى اغتياله، والحوار السوري - العربي أفشل، فلم يتبق سوى احتمالات بعيدة جداً لحل دولي، وإن جرى ستتم فيه التضحية بسورية بسبب تناقضات الدول الأجنبية المتورطة. قررت آنذاك عدم الذهاب إلى مكتبي والجلوس في المنزل، فلا آذان صاغية، ولا النصيحة باتت تجدي. تلقيت عدة اتصالات لتغيير موقفي، بما فيها زيارة هيثم سطايحي عضو القيادة القطرية، الذي على الأغلب قام بها بعد استشارة رئيس الجمهورية، أو بتوجيه منه. ولفهم ما أفكر فيه، أبلغتُه أنه عندما يرتئي الرئيس إعادة عجلة الحوار السوري - السوري، ويزودني أو غيري بصلاحيات حقيقية لإنجاحه، فسوف أكون موجوداً فقط حينها.
أتذكّر زيارات عدد من الرفاق بعد قراري الانقطاع عن الدوام في مكتبي. زارني بعضهم أكثر من مرّة لإقناعي بالعودة، لكنني لم أغيّر من قناعاتي، لا لتعنّت في موقفي، وإنما لأن الحل المتبع أدخل البلاد في مأزقٍ لا يمكن الخروج منه، إلا عبر سلسلة من الإصلاحات المرفوضة من سلطة خفية لا ترى وجوه أعضائها في أي اجتماع حكومي أو حزبي، لكنهم يتصرّفون بمقدرات الحزب الحاكم والدولة كأنهم ورثتها الحصريون.
كل الذين زاروني لإقناعي بالعودة إلى مزاولة عملي في مكتبي لم يكونوا بطبيعة الحال أعضاءً في الحكومة الخفية. كان من بينهم الدكتور محسن بلال وكذلك ممن يحتلون مناصب رسمية عليا كاللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني الذي زارني في منزلي لإقناعي بالعودة، والدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية، التي أبلغتني على الهاتف أنها ترغب في زيارتي في مكتبي. لكن الخيار الذي اتخذته كان لا رجعة عنه.
لم أفكر بالانشقاق ليقيني بأن الدول التي يمكن أن أنشق إليها لن تجعل سورية أفضل حالاً
أبلغتُ كل من تواصلوا معي بأنه إذا كان الرئيس جاداً في قبول الحل السياسي، فما عليه إلا أن يُصدر قراراً معلناً بإعادة تشكيل هيئة الحوار الوطني وبالأسماء التي يريدها. لأن قبولي بغير ذلك، لا يضع أية ضمانات للحيلولة دون تحكّم أعضاء السلطة الخفية بمسار الأحداث، بل ستعتبر عودتي مصادقة حينها على قرارات لم أكن طرفاً فيها.
لم يكن الرئيس يقيم وزناً لأي عمل سياسي يمكن أن يرى السوريون فيه بديلاً من الطريق العسكري، حتى لو اخترع في مقابلاته مقولة "إن الحل السياسي سيكون موازياً للحل العسكري"، ففي العلوم الخطان المتوازيان لا يلتقيان.
كان استمرار وجودي في الحكم فترة أطول وغير محدّدة بحل سياسي واقعي سيعني موافقتي على هذا النهج المدمر للبشر والحجر، فضلاً عن أنه يمنح قتل السوريين نوعاً من التبرير الجماعي في الداخل السوري. "إذا سكت أهل الحق عن الباطل، توهم أهل الباطل أنهم على حقّ"، قال علي بن أبي طالب هذه الحكمة البليغة، التي تصلح لكل الأوقات والأزمان، منذ ألف وأربعمئة عام.