Skip to main content
غزة وعدوان مايو والحاجة لإنهاء النكبة
جهاد أبو سليم
"النكبة مستمرة" في قطاع غزة (محمد عابد/فرانس برس)

ما إن انجلى غبار العدوان الإسرائيلي عن قطاع غزة، حتى برزت تساؤلات كثيرة حول حاضر ومستقبل القطاع، بعد ما تعرض له أهله من قتل وتشريد وقصف على مدار أحد عشر يوماً من العدوان. يتساءل البعض عما هو قادم، وعما إذا كانت المواجهة الأخيرة تؤذن بحدوث تغيرات فورية تمس الأوضاع الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون في قطاع غزة بسبب سياسات الإغلاق والحصار الإسرائيلي. في واقع الأمر، تزداد الأوضاع المعيشية والاقتصادية تأزماً، ولا تظهر أي بوادر في الأفق لجهود إعادة إعمار من شأنها أن تخفف من وطأة الأوضاع على أهالي القطاع الذين بات عدد كبير منهم في عداد المشردين بعدما فقدوا بيوتهم بفعل القصف الإسرائيلي، ناهيك ببنية تحتية مدمرة، وظروف أسوأ بكثير مما عاشه أهل القطاع قبل عدوان الحادي عشر من مايو/ أيار 2021.

في ظل هذه الظروف الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون في قطاع غزة، وبعد كل عدوان تشنه إسرائيل على القطاع، تبرز أسئلة عديدة، عن مستقبل القطاع وأهله. قد يظن المرء أنه بعد وقوع عدوان بالنطاق الذي شهدناه، وبعد كل التضحيات التي قدمها الفلسطينيون في غزة وسائر فلسطين، فإن القطاع قد يكون على موعد مع انفراجة ما، تخفف على الفلسطينيين هناك، وتزيح عنهم بعض أوزار الحياة في قطاعهم المحاصر، الذي أنذرت الأمم المتحدة في عام ٢٠١٢ بأنه في طريقه ليكون "غير قابل للحياة" بحلول عام ٢٠٢٠.

اليوم، وبينما يلملم الفلسطينيون في قطاع غزة جراحهم، يتساءل بعضهم عن المخرج مما هم فيه، وعما إذا كان ثمة ضوء في نهاية النفق. ويزيد من وطأة هذه التساؤلات حجم الآلام التي عاشها أهل القطاع خلال العدوان الإسرائيلي، في ظل أداء غير مسبوق للمقاومة الفلسطينية، التي تمكنت من الضغط على "إسرائيل" بشكل لم تعهده الأخيرة منذ تأسيسها. فمنطقياً، بعد الأداء المشهود للمقاومة، وبعد إدخال "إسرائيل" في أزمة عميقة، توقع الفلسطينيون في القطاع تحسناً فورياً في الأوضاع التي تمس حياة الناس بشكل مباشر، كحرية التنقل والسفر، وتخفيف وطأة الإغلاق والحصار وآثارها على الاقتصاد والبنية التحتية.

لكن، بعد كل ما عاشه الفلسطينيون في القطاع واختبروه، تبدو أوضاع القطاع أبعد ما تكون عن أي تحسن. كما نجد عند النظر إلى الصورة الأكبر، أن الأوضاع في فلسطين عموماً تنذر بمزيد من التأزم، ومن المهم في هذا السياق أن لا يعزل قطاع غزة، وما يحصل فيه، عن سائر الأوضاع والتطورات الحاصلة في فلسطين كلها، حيث تستمر الاعتداءات الإسرائيلية على القدس، والشيخ جراح، وسلوان، ويستمر الاستيطان والقمع والتنكيل اليومي بحق الفلسطينيين أينما كانوا.

استطاع الفلسطينيون خلال انتفاضتهم في مايو/أيار استعادة قدرتهم على الحشد العام وتحدي الاحتلال في كل زاوية من زوايا فلسطين التاريخية بأشكال غير مسبوقة. وحتى مع دخول المقاومة المسلحة في قطاع غزة المواجهة، لم ينحسر المد الشعبي لانتفاضة الوحدة ولم تخمد شرارتها. ولكن انتفاضة الوحدة ذاتها لم تكن الحدث غير المسبوق فقط في أيار، فبالإضافة إلى ذلك، برزت شعارات جديدة، تعكس رغبة عارمة لدى جيل كامل من الفلسطينيين في استعادة حيز السياسة والمقاومة والتحليل وتخيل المستقبل. انعكس ذلك في بعض الشعارات التي رفعها الفلسطينيون خلال الانتفاضة، وعلى رأسها "آن للنكبة ألا تستمر".

برز هذا الشعار مكملاً لشعار "النكبة مستمرة" الذي رفعه الفلسطينيون على مدار العقود الماضية. ولكن بروز شعار "آن للنكبة ألا تستمر" خلال انتفاضة الوحدة عكس نضوج التحليل والرؤية والطموح السياسي لجيل من الفلسطينيين ظن كثيرون أنه لن يقدر على تكريس دوره في ظل حالة الجمود التي يشهدها النظام السياسي الفلسطيني برمته.

يوفر مفهوما استمرار النكبة والدعوة لإنهائها فهماً أكثر عمقاً للتجربة الفلسطينية تحت الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. فالنكبة لم تكن حدثاً وقع في الماضي وانتهى، بل أضحت سيرورة في امتداد وتطور على مدار عقود، حيث لم تتوقف "إسرائيل" عن السعي لإكمال ما بدأت الصهيونية بفعله قبل عام 1948 وما تستمر بالعمل عليه اليوم، أي التهويد الكامل لفلسطين التاريخية، والمحو الكلي لوجود الفلسطينيين فيها. عبر هذا السياق فقط يمكن فهم الواقع الحالي الذي يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال والاضطهاد في الشيخ جراح، والعراقيب، وسلوان، وفي الضفة الغربية، حيث يستمر الاستيطان، وفي قطاع غزة كذلك.

فقطاع غزة، كما هو اليوم، بمساحته الجغرافية، وبتعداد سكانه، وبالتحديات التي يواجهها قاطنوه، يشكل مثالاً واضحاً على معنى استمرار النكبة. فالقطاع، بمساحته الحالية، وبتركيبته السكانية، ولد من رحم النكبة، وتشكل كنتيجة مباشرة لها، حين قامت العصابات الصهيونية بغزو مساحات شاسعة من فلسطين، وطرد وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين من مدنهم وقراهم، وسرقة ممتلكاتهم ومصادرتها. في ذلك السياق، تشكل قطاع غزة، باعتباره الإقليم الجغرافي الوحيد الذي لم يغزُه الصهاينة من الساحل الفلسطيني، وهجر إليه أكثر من 200 ألف فلسطيني، بالإضافة إلى 100 ألف من سكان المدن والقرى الموجودة بين ثناياه.

يقوم قطاع غزة اليوم على مساحة 1 بالمائة من مساحة فلسطين التاريخية، ويعيش فيه أكثر من 2.2 مليون فلسطيني، أغلبيتهم من اللاجئين الذين هجروا من مدن وقرى متاخمة للجدار العازل الذي يفصل القطاع عن سائر فلسطين التاريخية. ومنذ ولادة القطاع، تعرض لسلسلة احتلالات عسكرية إسرائيلية أثخنت أهله بالقتل والأسر والجراح. ولزيادة الطين بلة، قامت إسرائيل باستيطان مساحات كبيرة من قطاع غزة بعد احتلالها له عام 1967، حيث أقامت مستوطنات يهودية على ربع مساحة قطاع غزة، لتزاحم الفلسطينيين في منفاهم المزدحم.

خلال العقود الماضية، بات قطاع غزة بمثابة دراسة الحالة لسياسات الإفقار التنموي المتعمدة والممنهجة على يد قوة استعمار استيطاني تسعى للمحو والإبادة البطيئة لضحاياها. ومع كون الخطاب حول الحصار المفروض على قطاع غزة اليوم يركز على جملة السياسات التي فرضت بعد انتخابات عام 2006 واستيلاء حماس على السلطة في غزة في صيف 2007، إلا أن جذور سياسات الإغلاق والحصار تعود إلى أقدم من تلك اللحظة بكثير، وخصوصاً في مطلع التسعينيات عندما عملت إسرائيل على توظيف سياسات الإغلاق كأوراق ضغط على الفلسطينيين لليّ ذراع الانتفاضة وعزل الجماعات الفلسطينية عن بعضها البعض.

فوق هذا كله، يعد قطاع غزة اليوم من أكثر الأماكن اكتظاظاً بالسكان في العالم، حيث يشتمل على إحدى أعلى نسب الكثافة السكانية على مستوى عالمي. يصل معدل الكثافة السكانية في القطاع اليوم إلى أكثر من 6000 إنسان في الكيلومتر المربع الواحد، وفي بعض مخيمات اللاجئين، مثل مخيم الشاطئ، تصل الكثافة السكانية إلى 170,000 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد. وفقاً لتوقعات الأمم المتحدة، من المرشح أن يتضاعف عدد سكان القطاع إلى 4.4 ملايين نسمة بحلول عام 2050، بما سيزيد معدل الكثافة السكانية إلى أكثر من 12,000 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد.

تشير هذه المعطيات إلى حقيقة مهمة، مفادها أن التحديات الجمة التي يواجهها القطاع اليوم، لا تختلف في جوهرها عن سائر التحديات التي يواجهها الفلسطينيون في كل مكان. ففي نهاية المطاف، ومهما تعددت السياقات، تبقى النكبة العامل المشترك الذي يجمع بين كافة تجارب الفلسطينيين في أماكن تواجدهم المختلفة. فاستمرار قطاع غزة بشكله "غير القابل للحياة"، على حد وصف الأمم المتحدة، نتيجة مباشرة لذات السياسات التوسعية والإبادية الصهيونية التي تسعى لاستيطان الضفة، ولطرد الفلسطينيين من الشيخ جراح وسلوان، والتي تهدم قرى النقب تارة تلو أخرى.

في المحصلة، قطاع غزة بحاجة ماسة لحلول فورية لقائمة طويلة من المشاكل التي يواجهها اليوم، مثل حرية الحركة والتنقل، والحق في المياه، والكهرباء، والتغذية، وما إلى ذلك. لكن في نهاية المطاف، يواجه القطاع تحديات وجودية، تتمثل في مدى قدرة القطاع كحيز جغرافي على استيعاب ساكنيه، وتوفير ظروف الحياة الإنسانية الكريمة لهم فيه، وإتاحة المجال للنمو السكاني الطبيعي داخل حدوده، وهي أمور لا يمكن للقطاع بمساحته وموارده شبه المعدومة تقديمها لساكنيه. وهنا تبرز الحاجة لإنهاء النكبة، لا كحاجة أخلاقية فحسب، حيث تكون العودة تكريساً لاستعادة الحق، بل كحاجة عملية وإنسانية، إذ لا يستقيم أن يعيش الفلسطينيون رهائن مخيماتهم للأبد، بينما يتنعم الإسرائيليون من بروكلين بفلسطين وخيراتها.