عودة موراليس إلى بوليفيا: انتصار يساري صلب

عودة موراليس إلى بوليفيا: انتصار يساري صلب

11 نوفمبر 2020
موراليس بين أنصاره في فيلازون ـ بوليفيا (Getty)
+ الخط -

اعتادت دول أميركا الجنوبية في العقدين الأخيرين على الخضوع للعبة الكراسي الموسيقية بين اليمين واليسار على رأس السلطة، خصوصاً في البرازيل والأرجنتين. وكان قدر كل ممثل لأي تيار منهما مغادرة منصبه، وحتى البلاد، فور سقوطه، سواء باحتجاجات شعبية أو بصناديق الاقتراع. لكن البوليفي إيفو موراليس بدا حالة نادرة واستثنائية في لاباز، ومع أن البعض يضعه في مصافّ أقرانه، كالرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز، والرئيس البرازيلي الأسبق لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، إلا أن عودته، أول من أمس الاثنين، إلى بلاده، اقترنت بفوز تلميذه وزير الاقتصاد في حكوماته لويس أرسي برئاسة البلاد، مرسخاً انتصاراً يسارياً واضحاً، وإن شدّد على عدم إقصاء أي طرف.


ناخبو بوليفيا لم يتمكنوا من الخروج من نهج إيفو موراليس

ومع أن فوز أرسي يُعدّ حدثاً بارزاً، خصوصاً لإسقاطه جبهة يمينية متكتلة ضده، بقيادة الرئيسة المؤقتة جانين آنييز، إلا أن عودة موراليس من منفاه، في المكسيك ثم الأرجنتين، هي الحدث الأبرز في أميركا الجنوبية. في الواقع، لم يكن أنصار موراليس قادرين على التفكير بإمكانية هزيمة آنييز وفريقها انتخابياً، تحديداً كارلوس ميسا ولويز فيرناندو كاماتشو، لكن تفشي فيروس كورونا، وتحوّل بوليفيا إلى بؤرة للفيروس، وتأثر الوضع الاقتصادي سلباً، مع ارتفاع نسبة العاطلين من العمل والفقراء، كلها أسباب دفعت إلى اصطفاف اليساريين خلف أرسي، الذي خاض الانتخابات باسم "الحركة نحو الاشتراكية". وساهم فساد آنييز، خصوصاً في استقدام أجهزة تنفس اصطناعية من إسبانيا لمواجهة الفيروس، في تذكير الناخبين بأن موراليس جاء في الأساس، في عام 2006، لمحاربة مثل هذه الطبقة، التي كرّست الفقر في بوليفيا.

بالتالي، لم يكن غريباً، وفقاً للمزاج الشعبي، استقبال موراليس بعد عبوره الجسر الحدودي الذي يربط مدينة لاكوياكا الأرجنتينية بمدينة فيلازون في بوليفيا. ولم يكن غريباً أيضاً "تجاهل" الناخبين مدى متانة العلاقة بين الرئيس الأسبق والرئيس الحالي، بل أيضاً عدم الاكتراث بفرضية أن "موراليس سيحكم من خلال أرسي". يريد البوليفيون عودة الأوضاع الاقتصادية إلى نصابها، خصوصاً أن الاختلافات هائلة بين مناطق جبال الأنديز والسهول الزراعية الغنية، وبين المدن والأرياف. وهي الخلافات التي أفرزت فوز موراليس في انتخابات عام 2006.

ولفهم كيفية عودة موراليس إلى لاباز، يمكن الاستناد إلى عامل أساسي، قدرته هو بالذات على تحقيق قفزات اقتصادية كبرى، جعلت من بوليفيا دولة تتمتع بنموٍ اقتصادي لم تعهده سابقاً. فقد عمل موراليس على تأميم قطاع الطاقة، وأقرّ قوانين في سياق العدالة الاجتماعية، مواجهاً جيشاً من الخصوم السياسيين، بقيادة مجموعة أوليغارشية صلبة في لاباز. وعليه، نما إجمالي الناتج المحلي ليبلغ مستويات غير مسبوقة تصل إلى 6 في المائة مع انخفاض معدل الفقر من 60 في المائة إلى 37 في المائة. ولم يكن منفّذ سياسة موراليس سوى أرسي، بصفته وزيراً للاقتصاد.

لكن الأمجاد الاقتصادية دفعت موراليس إلى الشعور بالأنانية. فبعد ولاية أولى بين عامي 2006 و2009، أُعيد انتخابه، بموجب دستور جديد أُقرّ في عام 2009، لولايتين متتاليتين، امتدتا بين عامي 2009 و2019. وبما أن دستور 2009 حصر عدد الولايات الرئاسية المتاحة لكل رئيس بولايتين فقط، سعى موراليس إلى إجراء تعديل دستوري جديد، يسمح له في الترشح مجدداً عام 2019. رفض البوليفيون ذلك في استفتاء شعبي في 21 فبراير/ شباط 2016، لكن موراليس حصل على حكم من المحكمة الدستورية (بثلاثة أصوات في مقابل صوتين)، ألغى بموجبه نتيجة الاستفتاء. فترشح لولاية جديدة في أواخر عام 2019 وفاز، غير أن البوليفيين رفضوا هذه النتيجة، ونظموا تظاهرات منددة بخرق موراليس للدستور. وعلى الرغم من أن الجيش والقوى الأمنية ساندوه طيلة ولاياته الثلاث، إلا أنهم طلبوا منه التنحّي ومغادرة البلاد.

بعدها، بدأ الحديث عن فساد موراليس وعن سيطرته على القضاء وعن عرقلته مسار مرحلة ما بعد تسلّم آنييز الرئاسة مؤقتاً، لكن معارضيه لم يتمكنوا من الإتيان بإثباتات، رغم إعلان السلطات البوليفية نيتها الادعاء عليه أمام المحكمة الجنائية الدولية، بتهمة "ارتكاب جرائم ضد الإنسانية". بل إن منظمة "هيومن رايتس ووتش" أفادت، في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، بأن الحكم الانتقالي في بوليفيا استخدم النظام القضائي لملاحقة أنصار موراليس. وذكرت المنظمة أن أنييز تحديداً استخدمت النظام القضائي ضد أكثر من مائة حليف للرئيس الأسبق، موجودين حالياً في المنفى. واتهمتها المنظمة بتقييد حرية التعبير والاستخدام المفرط للاحتجاز الوقائي، مضيفة أن البعض اتهم بـ"الإرهاب" لمجرد التحدث إلى موراليس عبر الهاتف.


الحكم الانتقالي في بوليفيا استخدم النظام القضائي لملاحقة أنصار موراليس

لكن الفوز اليساري لم يُشكّل ضربة قاضية للولايات المتحدة، أو تأكيد أن بوليفيا ستتحول إلى فنزويلا أخرى، ذلك لأن أرسي نفسه يُشكّل حلقة وصل بين واشنطن ولاباز، بما يوحي بأنه مهما كان دور موراليس مستقبلاً في البلاد، فسيكون استشارياً لا أساسياً. لكن العودة التي يُمكن وصفها بـ"الظافرة"، قد تفتح الأبواب أمام مسار مختلف في أميركا الجنوبية، بين أبناء القارة والولايات المتحدة، خصوصاً في عهد الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن. وربما قد تؤدي تجربة الولايات المتحدة مع الإكوادور، التي يحكمها حليف واشنطن "اليساري" لينين مورينو، في مكان ما إلى صياغة نوع من تفاهم ضمني مع البوليفيين. فأرسي شغل منصب وزير الاقتصاد والمالية العامة في بوليفيا منذ بداية حكم موراليس في 2006، وهو حاصل على شهادة الدراسات العليا في الاقتصاد من جامعة فارفيك في بريطانيا عام 1997، وقبلها على شهادة "الليسانس" في الاقتصاد من جامعة سان أندريس في لاباز، عام 1991. كما تخرّج كمحاسب من معهد التعليم المصرفي في بوليفيا في 1984، وبنى معظم حياته المهنية قبل الوزارة في مصرف بوليفيا المركزي (حتى 2006)، حين تبوأ منصب وزير الاقتصاد والمالية. حاضر آرسي في عدد من الجامعات الأوروبية والأميركية (هارفرد، جورجتاون وكولومبيا)، وله مؤلفات ومقالات اقتصادية عدة، كما حصل على شهادات فخرية عدة من جامعات وطنية. ولا يعني كل هذا سوى اعتراف دولي بقوة موراليس، وإيمان الناخبين بنهجه، رغم أخطائه الفردية.