- تزامنت العملية مع توترات بين المجموعات المسلحة واشتباكات عنيفة أدت إلى مقتل عبد الغني الككلي، قائد جهاز دعم الاستقرار، وانهيار قوته بعد هجوم قوات اللواء 444 واللواء 111.
- تسيطر أربع قوى مسلحة على طرابلس، وتتنافس على النفوذ داخل الدولة. مقتل الككلي يثير تساؤلات حول من سيملأ الفراغ ومصير شبكته، مما يشكل تحدياً للحكومة في إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية.
عاد الهدوء الكامل إلى أرجاء العاصمة الليبية طرابلس، فيما أعلنت وزارة الدفاع في حكومة الوحدة الوطنية، صباح اليوم الثلاثاء، عن أنّ عملية عسكرية نفذتها في العاصمة طرابلس "انتهت بنجاح"، وأنها "أعطت تعليماتها بإكمال خطتها في المنطقة بما يضمن استدامة الأمن والاستقرار"، دون أن توضح طبيعة هذه العملية العسكرية ونتائجها. وجاء الإعلان في أعقاب عملية عسكرية خاطفة لم تتجاوز ثلاث ساعات نفذتها قوات وزارتي الدفاع والداخلية بالحكومة، تمت خلالها السيطرة على مقرات "جهاز دعم الاستقرار"، أحد أبرز التشكيلات المسلحة التي هيمنت على المشهد الأمني في العاصمة لأكثر من عقد، وإنهاء وجوده.
وعقب الإعلان كتب رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، الذي يشغل أيضاً وزير الدفاع، تدوينة على حسابه في موقع فيسبوك، أشاد فيها بجهود وزارتي الداخلية والدفاع "على ما حققوه من إنجاز كبير في بسط الأمن وفرض سلطة الدولة في العاصمة"، مضيفاً أنّ "ما تحقق اليوم يؤكد أن المؤسسات النظامية قادرة على حماية الوطن وحفظ كرامة المواطنين، ويُشكل خطوة حاسمة نحو إنهاء المجموعات غير النظامية، وترسيخ مبدأ ألّا مكان في ليبيا إلا لمؤسسات الدولة، ولا سلطة إلا للقانون".
ورغم أنّ بيان الدبيبة لم يذكر جهاز دعم الاستقرار صراحة، إلا أنه يعكس بين سطوره تاريخ علاقة معقدة بين السلطات والمجموعات المسلحة التي شكلت عصب المشهد في العاصمة طرابلس منذ العام 2012، إذ تتحالف حيناً مع الحكومات، وتتمرد عليها حيناً آخر.
كما أعلنت الجزائر عن قلق بالغ إزاء التطوّرات والاشتباكات المسلّحة التي شهدتها طرابلس، ووصفتها بأنها "هدر لمقومات البلد"، وأفاد بيان للخارجية الجزائرية أن "الجزائر تتابع ببالغ القلق والانشغال، تجدّد الاشتباكات المسلحة بين الليبيين في مدينة طرابلس، وما خلّفته من خسائر في الأرواح ومن هدر لمقومات هذا البلد"، داعية إلى الحوار خياراً وحيداً لفضّ الخلافات.
وبدت ملامح التصعيد واضحة، مساء الاثنين، مع انتشار كبير لآليات جهاز دعم الاستقرار، التابعة للمجلس الرئاسي، حول مقراته في منطقة أبوسليم، وسط العاصمة، بينما كانت سيارات مسلحة تابعة لقوتي العمليات المشتركة ومكافحة الإرهاب، التابعتين لوزارة الداخلية بالحكومة، تتنقل وسط أرجاء العاصمة، خاصة في الأحياء القريبة من أبوسليم.
وفي محاولة لاحتواء التصعيد، انعقد اجتماع موسع بين قادة المجموعات المسلحة في طرابلس بمقر كتيبة التكبالي، جنوب شرق طرابلس، بحضور عبد الغني الككلي، قائد جهاز دعم الاستقرار، لكن مناوشات حدثت بين حراسات هؤلاء القادة وتصاعدت سريعاً إلى اشتباكات قُتل خلالها الككلي وحراساته، وفقاً لما أدلى به مصدر أمني تابع لمديرية أمن طرابلس لـ"العربي الجديد"، وآخر طبي أكد مقتل الككلي ووصول جثته إلى أحد مستشفيات العاصمة.
وعقب مقتل الككلي، الذي لم يُعلن عن وفاته حتى الآن وملابسات ظروف مقتله، شنت قوات اللواء 444 قتال واللواء 111 مجحفل، التابعين لوزارة الدفاع، وقوة العمليات المشتركة وقوة مكافحة الإرهاب، التابعين لوزارة الداخلية، هجوماً على مقرات جهاز دعم الاستقرار، بدءاً بمقراته الرئيسية وسط أبوسليم وفي مشروع الهضبة، وامتداداً إلى مقراته الأخرى في حي الأكواخ وطريق المطار وغرور، وانتهت بالسيطرة عليها بالكامل وسط انهيار متسارع لقوة الككلي التي فقدت توازنها بسبب الانتشار السريع ومقتل قائدها.
خريطة القوى في طرابلس
وتسيطر على طرابلس أربع قوى مسلحة تهيمن على مشهدها، وهي "جهاز قوة الردع الخاصة" المتمركزة في قاعدة معيتيقة شمالي العاصمة، و"اللواء 444 قتال" جنوبي شرقها، و"اللواء 111 مجحفل" جنوبي غربها، بينما كان "جهاز دعم الاستقرار" يسيطر على الوسط. وفيما يتبع جهازا الردع ودعم الاستقرار للمجلس الرئاسي، يتبع اللواءان 444 و111 لوزارة الدفاع بالحكومة. وعلى الرغم من هذه التبعية إلا أن هذه القوى تحتفظ بقيادات مستقلة وموازنة خاصة، بل وتتنافس على النفوذ داخل مؤسسات الدولة، فقوة الردع تتحكم في مطار معيتيقة وتعد الجهة الأبرز في تنفيذ عمليات الاعتقال بأوامر المحاكم والقضاء وتدير سجوناً خاصة بها، بينما كان الككلي، عبر جهازه، يتنفذ داخل مؤسسات الدولة الأخرى ويوجه قرارتها، خاصة في وزارة المالية وجهاز الأمن الداخلي وشركة الاتصالات، بل وفي مؤسسة النفط.
ولم تكن سيطرة الككلي على أبوسليم جديدة، بل نتاج مسار طويل يعكس تحولات المشهد المسلح في طرابلس منذ العام 2012، فبعد إسقاط نظام العقيد الراحل معمر القذافي، تشكل المجلس العسكري لطرابلس للإشراف على تنظيم سلاح الثوار، لكن سرعان ما تشكلت العشرات من المجاميع المسلحة بتأثير من المتغيرات السياسية وقتها، كان من بينها كتيبة شهداء أبوسليم بقيادة الككلي. وفي 2014، توحدت هذه التشكيلات ضد كتائب منحدرة من مدينة الزنتان، غرب طرابلس، وشنّت ضدها حرباً عرفت بـ"عملية فجر ليبيا" بسبب علاقتها باللواء المتقاعد خليفة حفتر؛ الذي كان حاول وقتها تدبير انقلاب في العاصمة، وبسبب فاعلية الككلي في هذه الحرب وانضمام مجاميع مسلحة أخرى إلى جانبه، تمكن من فرض نفسه إلى حد شرعنة قوته من قبل حكومة الوفاق الوطني السابقة تحت مسمى "جهاز الأمن المركزي".
وازداد بروز الككلي في وسط طرابلس بعد مشاركته الفاعلة في إفشال هجوم حفتر العسكري عامي 2019 و2020 ضمن عملية "بركان الغضب"، إذ نجح الككلي في توظيف مشاركته بوصفه قائدا بارزا في صد عدوان حفتر، فدعّم قوته وطوّرها إلى حد اعتماده عام 2021 من قبل السلطة الجديدة، المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، جهازا أمنيا اختار له اسم "جهاز دعم الاستقرار" ومد نفوذه من غريان (غرب طرابلس بنحو 90 كيلومتراً) إلى زليتن (شرق طرابلس بنحو 150 كيلومتراً).
لم تكن سيطرة الككلي على أبوسليم جديدة، بل نتاج مسار طويل يعكس تحولات المشهد المسلح في طرابلس منذ العام 2012
ووسط صراع نفوذ التشكيلات المسلحة، تمكّن الككلي من التنفذ في مفاصل مؤسسات الدولة الحساسة، وتحوّل من قائد مجموعة مسلحة بارزة إلى لاعب رئيسي في تعيين شاغلي المراكز القيادية في مؤسسات الدولة، ودعم تعيين مقربين منه في وزارة المالية ومؤسسة النفط، بل صارت بعضها تتبعه بشكل مباشر كجهاز الأمن الداخلي.
وعلى الرغم مما يدفع به مراقبون حول الأسباب التي تقف وراء تصفية الككلي، مثل تواتر أنباء عن تقاربه مع معسكر حفتر، حيث ظهرت له صور تجمعه بنجل حفتر، بلقاسم، ومدير مكتب حفتر الخاص خيري التميمي، إلا أنّ أسئلة تطرح في الأثناء حول من يملأ الفراغ الذي تركه، ومصير شبكته المسلحة من غريان إلى زليتن، وآلياته العسكرية ومقاتليه، ومصير الملفات الجنائية المرتبطة به، فتقارير خبراء الأمم المتحدة ذكرته في العديد منها على أنه أبرز المسؤولين عن الانتهاكات الواسعة وامتلاكه سجوناً خاصة مارس فيها التعذيب والإخفاء القسري.
ويبرز التحدي الأكبر أمام الحكومة في إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والتشكيلات المسلحة، فإن نجحت في تفكيك أكبر مليشيات العاصمة، كيف يمكنها وقف حالة تدوير الوضع المسلح في العاصمة، فالككلي نفسه شارك في إنهاء وجود مجموعات مسلحة قوية كانت جزءاً من مشهد العاصمة المسلح، مثل كتيبتي النواصي وثوار طرابلس، عندما حاولتا الاتفاق سرّاً مع رئيس حكومة مجلس النواب فتحي باشاغا لتمكينه من دخول طرابلس، وحل الككلي محلهما ما عزز نفوذه أكثر.