عودة النازحين إلى الخرطوم رهن استئناف الدولة مهامّها واستتباب الأمن
استمع إلى الملخص
- تسعى الحكومة السودانية لإقناع السكان بالعودة من خلال استعادة الخدمات الأساسية وتوفير حافلات مجانية، لكن المخاوف الأمنية ونشاط العصابات المسلحة تعيق عودة الحياة الطبيعية.
- يرى المحللون أن سكان الخرطوم هم الأكثر تضرراً من الحرب، وعودة الحكومة من بورتسودان قد تشجع السكان على العودة، لكن استمرار الحرب يظل عائقاً رئيسياً.
تحاول الحكومة السودانية إقناع سكان الخرطوم بالعودة إليها عقب فرارهم منها، بعد اندلاع الحرب بين الجيش السوداني ومليشيا قوات الدعم السريع في 15 إبريل/نيسان 2023، لكن لا يزال مئات الآلاف من سكان الخرطوم خارجها، نازحين داخلياً أو لاجئين في دول الجوار، رغم استعادة العاصمة بالكامل من قبضة "الدعم السريع" في 20 مايو/أيار الماضي، وتحرير مدنها الثلاث، الخرطوم، وبحري، وأم درمان، والتي تشكل معاً ما يُعرف بالعاصمة المثلثة.
ومن أجل إقناع سكان الخرطوم بالعودة إليها، تعمل السلطات على توفير الخدمات، عبر استعادة عمل محطات المياه والكهرباء التي دُمرت بفعل المعارك، إلى جانب توفير حافلات مجانية لعودة نازحي العاصمة من الولايات الأخرى. وقد شكلت الحكومة لجنة عليا من كبار المسؤولين لتهيئة البيئة من أجل عودة سكان الخرطوم إليها. كما زارها في الأيام الماضية رئيس مجلس السيادة، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان ورئيس الحكومة كامل إدريس وعدد من الوزراء، لكن عدم انتقال مؤسسات الدولة من العاصمة الإدارية بورتسودان إلى الخرطوم يبقي على تردد واسع بين السكان، وسط مخاوف من تدهور أمني وخدمي، فضلاً عن التشكيك بقدرة الحكومة على تأمين الحد الأدنى من الأمان والاستقرار.
وكانت الرصاصة الأولى للحرب انطلقت من العاصمة الخرطوم، وتحديداً في منطقة المدينة الرياضية جنوبي المدينة، حيث كانت تعسكر قوة لـ"الدعم السريع"، معلنة اندلاع الحرب السودانية، التي تسبّبت في نزوح ما يزيد عن 8.5 ملايين شخص داخلياً، وعبور نحو أربعة ملايين آخرين الحدود إلى البلدان المجاورة، بحسب بيانات منظمة الهجرة الدولية.
معاناة سكان الخرطوم
وقد عانى سكان الخرطوم من ظروف صعبة طوال الأشهر الأولى للمعارك، حيث غادرها معظمهم، بينما علق آخرون لأسباب مختلفة، وظلوا فيها تحت وطأة الجوع والمرض وانقطاع المياه والكهرباء واعتداءات قوات الدعم السريع التي سيطرت على أجزاء واسعة منها. وقررت الحكومة السودانية، بعد خروج البرهان من مقر القيادة العامة للجيش في أغسطس/ آب 2023، اتخاذ مدينة بورتسودان الساحلية، أقصى شرقي السودان، عاصمة إدارية ومقراً للقائد العام للجيش بدلاً عن الخرطوم.
أعلن محمد عبد الله أنه سينتظر عودة الحكومة للخرطوم للتأكد من أن الأوضاع باتت فعلاً تحت السيطرة
وبعد تحرير العاصمة، التي شهدت دماراً كبيراً نتيجة المعارك العنيفة، تباطأ سكان الخرطوم في العودة إليها، خلافاً لبقية المدن الأخرى التي سارع أهلها بالعودة لها عقب تحريرها من قبضة "الدعم السريع"، ما دفع حكومة الولاية والحكومة الاتحادية إلى مطالبة المواطنين بالعودة إلى منازلهم، مع تعهدات بتهيئة الظروف المناسبة لذلك.
وعلى وقع تلك الدعوات، تجول في الخرطوم عدد من كبار المسؤولين في الحكومة، على رأسهم البرهان، الذي هبط بطائرة مدنية في مطار الخرطوم الدولي السبت الماضي، إلى جانب رئيس الوزراء كامل إدريس، وعضوي مجلس السيادة إبراهيم جابر وسلمى عبد الجبار، ووزير الداخلية بابكر سمرة ورئيس أركان الجيش عثمان محمد. وأصدر البرهان، الخميس الماضي، قراراً بتشكيل لجنة لتهيئة البيئة لعودة المواطنين إلى الخرطوم. وتمثلت أبرز مهمات واختصاصات اللجنة، حسب القرار، في اتخاذ كافة الإجراءات لتأمين العاصمة وضبط الوجود الأجنبي واستعادة الخدمات الأساسية بأسرع ما يمكن، وإعادة تأهيل البنية التحتية واقتراح وتحديد مواقع لنقل الوزارات إليها، إلى جانب تفريغ الخرطوم من كل القوات المقاتلة والكيانات المسلحة بواسطة رئاسة هيئة أركان الجيش خلال أسبوعين من تاريخ القرار.
وعقدت اللجنة أول اجتماعاتها في الخرطوم السبت الماضي، برئاسة عضو مجلس السيادة إبراهيم جابر، الذي كان قال، في خطاب أمام حشد من سكان الخرطوم في مدينة بحري الجمعة الماضي، إن مهمتهم هي توفير الأمن والخدمات، مضيفاً أن هناك قوات مدربة في الخرطوم بقيادة وزير الداخلية لتأمين الولاية وانتشار الارتكازات لحماية ممتلكات المواطنين. وحث سكان الخرطوم على الترشيد والاستخدام الأمثل للخدمات بعد بدء عدد من محطات المياه والكهرباء في العمل، معتبراً أن ذلك يتطلب عودة المواطنين إلى ديارهم ومتابعة جهود استعادة الخدمات مع السلطات الحكومية.
كما تجول إدريس في عدد من مناطق الخرطوم. وأعلن في تصريحات صحافية، خلال زيارته مقر مجلس الوزراء أول من أمس الأحد، وضع خطة لتهيئة البيئة بولاية الخرطوم وعودة المؤسسات والمواطنين خلال نحو ستة أشهر، مضيفاً أن الماء والكهرباء والأمن ومعاشات الناس ومطار الخرطوم في قمة الأولويات، مطالباً المواطنين بالعودة الى منازلهم. وأضاف إدريس أن مقر مجلس الوزراء شهد تدميراً شاملاً وممنهجاً من قبل مليشيا قوات الدعم السريع، مؤكداً وجود العزيمة والإصرار لإعادة بناء العاصمة القومية وإعمارها بشكل أفضل مما كانت عليه.
محاولة لتبديد مخاوف المواطنين
ومن أجل تبديد مخاوف المواطنين، تقود حكومة ولاية الخرطوم هذه الأيام حملات متواصلة للتصدي للصوص والعصابات، إذ شهدت بعض المناطق، مثل كرري بمدينة أم درمان ودار السلام أقصى جنوب الخرطوم، وشرق النيل في مدينة بحري، نشاطاً لعصابات مسلحة تروّع السكان وتمارس النهب ليل نهار. وأعلنت الشرطة، في بيانات متتالية خلال الأيام الماضية، القبض على عدد من المتهمين، بعضهم ينتحل صفة عسكريين وبحوزتهم أسلحة نارية.
وكانت القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح (حركات مسلحة موقعة على سلام مع الحكومة) المساندة للجيش، قالت، في بيان في 12 يوليو/تموز الحالي، إن هناك مسلحين ينتحلون صفتها في ارتكاب أعمال النهب والسرقة وترويع المواطنين داخل ولاية الخرطوم، مؤكدة أن أي أعمال نهب أو سرقة أو إرهاب ضد المواطنين لا تمثلها. ولفتت إلى أنها ألقت القبض على عدد من أفراد العصابات وسلمتهم للجيش السوداني.
محمد عبد الله لا يثق بالأوضاع الأمنية
المواطن محمد عبد الله، الذي تمكن بصعوبة من مغادرة منزله الواقع بالقرب من مصنع للذخيرة في حي العزوزاب جنوبي الخرطوم، قال لـ"العربي الجديد"، إنه لجأ الى مصر عبر التهريب، بعد توسع دائرة المعارك إلى ولايات أخرى كان ينوي الاستقرار بها، وقد عانى في الطريق ويرغب في العودة، لكنه لا يثق في الأوضاع الأمنية في الخرطوم رغم مغادرة "الدعم السريع"، مضيفاً أن الحكومة الاتحادية نفسها لم تقرر العودة إلى العاصمة بعد، لذلك سينتظر حتى تعود الحكومة للتأكد من أن الأوضاع باتت فعلاً تحت السيطرة. وذكر عبد الله أنهم يسمعون باستمرار عن عصابات مسلحة تروع المواطنين في العاصمة، رغم الحملات التي تقوم بها حكومة الولاية لتوفير الأمن، الأمر الذي يجعل الأسر على وجه الخصوص تتخوف من العودة بعد ما ذاقته من انتهاكات ومعاناة خلال رحلة الفرار من العاصمة على يد قوات الدعم السريع، ويخشون تكرار ذلك إذا عادت "الدعم" إلى الخرطوم مجدداً.
عبد الباقي صالح: فتح الطرق بين الخرطوم والولايات الأخرى ساهم في دخول المواد الغذائية وانخفاض الأسعار
عبد الباقي صالح، الذي يبيع المواد الغذائية في سوق منطقة طيبة جنوبي الخرطوم، وعاد إليها بداية العام الحالي برفقة أسرته بعد معاناة من النزوح المتكرر في ولايات الجزيرة والنيل الأبيض، أكد لـ"العربي الجديد" أن الوضع مستقر وأعداد سكان الخرطوم تتزايد رغم المخاوف من أزمات المياه والكهرباء، والتي أشار إلى أنها ضعيفة في بعض المناطق، حيث لا يستطيع الناس تشغيل الثلاجات بسبب السرقات التي تعرضت لها محولات الكهرباء من قبل "الدعم السريع". ولفت إلى أن الوضع الأمني مستقر وهناك حملات متواصلة تنفذها الشرطة للقبض على اللصوص وأفراد العصابات المسلحة. وأشار إلى أن فتح الطرق بين الخرطوم والولايات الأخرى ساهم في دخول البضائع والمواد الغذائية وانخفاض الأسعار. وأشار إلى توفر الأسماك في منطقة جبل أولياء جنوب الخرطوم بعد عودة الصيادين للعمل، والذين كانت "الدعم السريع" تمنعهم من الوصول إلى نهر النيل وتعتدي عليهم بالضرب والنهب.
سكان الخرطوم أكثر من عانى بالحرب
من جهته، رأى المحلل السياسي صلاح مصطفى في حديث لـ"العربي الجديد"، أن سكان الخرطوم على وجه الخصوص هم أكثر من عانى نتيجة الصدمة الأولى التي تلقوها بفعل اندلاع الحرب وسط منازلهم، والحصار الذي تعرضوا له طوال الأشهر الأولى، مضيفاً أن بعض السكان ماتوا جوعاً ومرضاً داخل بيوتهم، وآخرين أصابهم الرصاص في الشوارع والأسواق دون أن يعلموا ماذا يحدث، وهو ما يجعل العودة إلى الخرطوم، حسب مصطفى، أكثر صعوبة مما تعتقد الحكومة. ولفت إلى أن النازحين داخلياً سيعودون بمجرد التأكد من توفر الخدمات والأمن، لكن سكان العاصمة الذين لجأوا إلى دول أخرى سيطول الوقت لعودتهم، خصوصاً المقتدرين منهم، بينما سيجد الذين تدهورت ظروفهم المعيشية أنفسهم مجبرين على العودة.
واعتبر مصطفى أن عودة الحكومة وإرجاع العاصمة من بورتسودان الى الخرطوم سيشجع الناس كثيراً على العودة، لأن البعض ما زال ينتظر أن تعود الحكومة أولاً، وهم محقون في ذلك لاعتبارات كثيرة، بينها الأوضاع الأمنية التي ستصبح أفضل بوجود الحكومة الاتحادية والمسؤولين رفيعي المستوى، إلى جانب توفر الخدمات مثل الماء والكهرباء. وأضاف أن استمرار الحرب سبب رئيسي لخوف الناس من العودة إلى المدن المحررة، بينما ستكون نهاية الصراع البداية الحقيقية لاستعادة الحياة بصورة سريعة في جميع المدن، وعلى رأسها الخرطوم العاصمة.