يتحدث مسؤولون محليون في محافظة كركوك، شمالي العراق، عمّا يصفونه بالعودة الناعمة والتدريجية منذ أشهر عدة لوحدات البشمركة الكردية إلى المحافظة الغنية بالنفط، مؤكدين أن حكومة مصطفى الكاظمي المنتهية ولايتها، أقدمت على سلسلة من التفاهمات الأمنية في هذا الخصوص تحت عنوان ملء الفراغات الجغرافية أو التنسيق الأمني للحرب على تنظيم "داعش"، لدخول قوات البشمركة إلى مناطق مختلفة، من بينها ضواحي مدينة كركوك مركز المحافظة، في إطار ألوية مشتركة من الجيش والبشمركة.
تأتي عودة قوات البشمركة بعد قرابة أربع سنوات من طردها من المحافظة
وفي هذا السياق، كشف مسؤول عسكري عراقي في غرفة عمليات كركوك لـ"العربي الجديد"، عن أن قوات البشمركة باتت تبعد عن مركز مدينة كركوك بضعة كيلومترات فقط، وتعمل في إطار التفاهمات الأخيرة بين بغداد وأربيل ضمن ما عرف بالألوية المشتركة بين الجانبين، والتي تشرف عليها وزارة الدفاع العراقية في بغداد. وأكد المسؤول أن مناطق ألتون كوبري وضواحي بلدة الدبس في محافظة كركوك هي مناطق التماس حالياً بين البشمركة والقوات العراقية، متحدثاً عن أن هجمات "داعش" الأخيرة سرّعت من هذا الدخول ضمن إجراءات بغداد لتعزيز الكتلة الأمنية في المحافظة بأي صورة، خصوصاً بعد هجمات أكتوبر/تشرين الأول الماضي التي أوقعت نحو 30 قتيلاً وجريحاً من قوات الشرطة الاتحادية في المحافظة. وكشف المصدر عن أن بعض الوحدات التابعة للبشمركة تعمل ضمن آلية التنسيق الجديدة التي تم الاتفاق عليها مع بغداد، ضمن ما يعرف بالألوية المشتركة وأخرى تعمل بصورة منفردة، لكن بكل الأحوال فإن البشمركة "عادت إلى مناطق أخرجت منها سابقا"، على حدّ تعبيره.
وتأتي عودة قوات البشمركة، وهي الوحدات العسكرية الرسمية في إقليم كردستان العراق، بعد قرابة أربع سنوات من طردها من المحافظة، إثر تنظيم أربيل استفتاءً للانفصال عن العراق، شمل فيها مدن كركوك وزمار ومخمور، ومناطق أخرى مصنفة على أنها متنازع على إدارتها بين بغداد وأربيل منذ الغزو الأميركي للبلاد (2003)، وتعرف حالياً بمناطق المادة 140 من الدستور. ونصّت المادة على تنظيم استفتاء شعبي يُخيّر السكان بين البقاء مع بغداد أو الانضمام إلى الإقليم، لكن هذا البند الدستوري لم يتم تنفيذه لأسباب سياسية، وأخرى متعلقة بعمليات تغيير واسعة في ديمغرافية هذه المناطق لم يتم التوصل إلى حلول بشأنها.
وتنتشر حالياً في المحافظة قوات اتحادية من بغداد تشمل الجيش والشرطة الاتحادية ووحدات من "الحشد الشعبي"، لكن المحافظة الواقعة على بعد 250 كيلومتراً شمالي بغداد، لا تزال تصنف على أنها الأعلى من ناحية الاعتداءات الإرهابية التي ينفذها مسلحو "داعش"، ويعود ذلك بحسب مراقبين إلى مناطق جبال حمرين وسلسلة جبال قره جوخ التي تحولت أخيراً إلى جيوب مسلحة يختفي داخلها التنظيم.
وكان مطار أربيل الدولي قد شهد في 27 أكتوبر الماضي اجتماعاً بين الجيش العراقي وقوات البشمركة لبحث تشكيل قوة قوامها لواءان مشتركان لسد الفراغات الأمنية في مناطق متنازع على إدارتها بين الجانبين. ووفقاً لبيان وزارة البشمركة، فإن "الاجتماع عقد بين وزارة البشمركة برئاسة رئيس الأركان الفريق جمال أيمينكي، ونائب قائد العمليات المشتركة في بغداد، الفريق أول ركن عبد الأمير الشمري، وممثلين عن التحالف الدولي". وأشار البيان إلى أن "المجتمعين بحثوا سدّ الثغرات الأمنية في المناطق المتنازع عليها"، مؤكداً أن "قوات التحالف من جانبهم تعهدوا بالاستمرار في مساندة البشمركة والقوات العراقية، وخصوصاً في ملف تشكيل لواءين مشتركين". وجاء الاجتماع بعد أسابيع قليلة من اتفاق يقضي بتشكيل ستة مراكز مشتركة من الجيش والبشمركة، تعمل على ضبط الفراغات في المناطق المتنازع عليها، وقد باشرت تلك المراكز عملها فعلياً قبل فترة.
قوات البشمركة التي ستعود إلى كركوك ستعمل ضمن إطار وزارة الدفاع
النائب في البرلمان المنحل عن القوى الكردية، أوميد محمد، أكد تلك التفاهمات، مضيفاً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "القرارات التي اتخذت من قبل حكومتي أربيل وبغداد نصّت على أن قوات البشمركة التي ستعود إلى كركوك ستعمل ضمن إطار وزارة الدفاع". وأوضح محمد أنه "سيتم تشكيل لواءين من القومية الكردية، وستكون تحت إمرة وزارة الدفاع العراقية"، مشيراً إلى "أهمية أن يكون التعامل في كركوك والمناطق المتنازع عليها ضمن الدستور، الذي نصّ على أن يكون التعاون المشترك في تلك المناطق، وهذا الأمر لم تطبقه بغداد". ولفت إلى أن "النظام العسكري في كركوك وبقية المناطق المتنازع عليها بحسب الدستور، يجب أن يكون مشتركاً من جميع القوميات (العرب والكرد والتركمان)، فهذه المناطق هي مناطق مشتركة مع حكومتي الإقليم وبغداد، ونحن مع مشاركة جميع القوميات في كركوك في القوة العسكرية لحمايتها"، مبيناً أن "هناك الكثير من الاجتماعات السرية والعلنية التي جرت بشأن هذا الملف، وقد أفضت إلى الاتفاق السياسي بين الحكومتين على إعادة البشمركة، ضمن مقتضيات المصلحة الأمنية والخط الموضوعة لتأمين المحافظة".
وبشأن منصب محافظ كركوك، ومحاولات الأكراد الحصول عليه، قلّل محمد من أهمية ذلك، قياساً بملف عودة البشمركة الذي يسعى إليه الأكراد. وقال في هذا الصدد إن "منصب المحافظ يعتمد على انتخابات مجالس المحافظات، وما تفرزه من نتائج هي التي تحدد المنصب ولأي جهة يكون"، مضيفاً أن "هناك طريقة أخرى لاستبدال المحافظ، عبر قرار يتخذه مجلس الوزراء، وهو قرار نافذ"، لكنه لم يشر إلى وجود تفاهمات بين الأكراد وبغداد بشأن الملف.
وتؤكد مكونات المحافظة الأخرى، رفضها القاطع لعودة البشمركة، محذرة من جرّ المحافظة إلى أزمات سياسية وأمنية واقتصادية. ورأى القيادي في تحالف "دولة القانون" عن المكون التركماني، جاسم محمد جعفر، أن "هناك لجنة تنسيقية شُكلت لإدارة العمليات في المناطق المتنازع عليها، والأكراد لهم حضور في تلك اللجان"، موضحاً أنه "إلى حد الآن، لم تنزل قوات البشمركة داخل مركز كركوك، لكن تم افتتاح مكاتب للحزب الديمقراطي في المحافظة".
وقال جعفر في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "مخاوفنا من عودة البشمركة كبيرة ومبرّرة، وهي نتيجة لتجربة سابقة لنا معها، فما مرّ على المحافظة منذ 2003 إلى 2017 من قبل تلك القوات من اعتقالات واختطاف وتهديد وما إلى ذلك من انتهاكات، لا تزال شاخصة أمامنا، وقد أجبر الكثير من أهالي كركوك على ترك المحافظة خلال تلك الفترة". وشدد القيادي في تحالف "دولة القانون" عن المكون التركماني على أن "العودة إلى تلك الفترة المظلمة يقلقنا ونرفضه قطعاً، ونحن لا نرى أي أهمية أمنية لوجود البشمركة في كركوك، وحتى لو كان لهم دور أمني فإن ضرر عودتهم للمحافظة سيكون أكبر "، مشيراً إلى أن "الوضع الآن مستقر في المحافظة، ولا نريد أن نخسر هذا الاستقرار".
تؤكد مكونات المحافظة الأخرى، رفضها القاطع لعودة البشمركة
وبحسب جعفر، فإن "رئيس الوزراء يريد أن يبقى لولاية جديدة، وقد تدفعه رغبته تلك إلى المساومة على كركوك مع الجانب الكردي"، متهماً الأكراد بأنهم "يريدون ضم كركوك إلى الإقليم"، وأن مساعيهم لإعادة البشمركة "تندرج ضمن هذا الهدف الخطير، أما الحديث عن حفظ أمن المحافظة وما إلى ذلك، فهو مجرد حديث إعلامي لتحقيق الهدف الرئيسي". وشدد على أن "أي عودة للبشمركة ستكون لها تأثيرات سلبية خطيرة على المحافظة، سياسياً وأمنياً واقتصادياً"، معرباً عن الخشية من جر المحافظة إلى هذا المربع الخطير إذا ما كانت هناك اتفاقات غير معلنة".
رئيس الجبهة التركمانية، أرشد الصالحي، دعا من جهته، الحكومة، إلى إبعاد كركوك عن حوارات تشكيل الحكومة، معرباً في حديث لـ"العربي الجديد"، عن الخشية من "أن تكون هناك تنازلات بشأن كركوك خلال تلك الحوارات". وشدّد على أن "أي حوار أو اتفاق سياسي يجب ألا يرتبط بكركوك، خصوصاً خلال الفترة الحرجة الحالية".
وكان ممثلو العرب والتركمان في محافظة كركوك العراقية، قد أثاروا خلال الشهر الماضي مخاوف من زجّ المحافظة ضمن صفقات تشكيل الحكومة الجديدة، محذرين مما سموه بـ"التفاهمات الغامضة" التي تجريها الأطراف السياسية بمعزل عن مكونات المحافظة. وخرجت القوى العربية والتركمانية في المحافظة، بعد اجتماع مشترك عقدته نهاية أكتوبر الماضي في كركوك، بتفاهمات في ما بينها، ترفض إجراء "الصفقات السياسية" على حساب المحافظة. وأكد ممثلو المكونين خلال مؤتمر صحافي مشترك، رفضهم "إقحام كركوك والمناطق المتنازع عليها في صفقات سياسية قد تتسبب بإرباك الوضع الأمني فيها، ومساعي تشكيل قوات مشتركة مع البشمركة، وتحويل لواء منها إلى إمرة وزارة الدفاع"، معتبرين أن "عدم إطلاع ممثلي المكونين التركماني والعربي على تفاصيل المباحثات التي تجري بين بغداد وأربيل بشأن كركوك، هو مبعث قلق وريبة بالنسبة لنا". ودعوا الكاظمي، إلى "العدول عن هذه الخطوات المريبة، والحفاظ على السلم المجتمعي في كركوك، وإبقاء الملف الأمني اتحادياً في المحافظة والمناطق المتنازع عليها"، مشددين على أنه "يتحتم على القوى السياسية الوطنية كافة، دعم مطالب العرب والتركمان، للحفاظ على أمن واستقرار محافظة كركوك، وعدم الموافقة على المساس بوضعها الدستوري والأمني على حساب صفقات تشكيل الحكومة".