تجد تونس نفسها في وضع حرج أمام الهجوم الروسي على أوكرانيا، فهي من جهة لا ترغب في إثارة خلاف جوهري مع الغرب الذي تعتبر نفسها قريبة منه تاريخياً، ومن جهة أخرى لا تريد إفساد علاقاتها مع روسيا.
لكن الموقف الذي اتخذته الخارجية التونسية، يوم الجمعة الماضي، لم يكن مقنعاً لحلفائها الاستراتيجيين، واعتبروه مفاجئاً لهم. وهو ما دفع بسفير الاتحاد الأوروبي ماركوس كورنارو إلى اتهام تونس بالتسوية "بين الضحية والجلاد"، واعتبر ذلك "انحيازاً وليس حياداً".
لم يكن المسؤول الأوروبي وحده المنتقد للموقف التونسي، إذ سبق أن كتب السفير الأميركي السابق في تونس غوردون غراي تغريدة على موقع "تويتر" تساءل فيها "لماذا لا تظهر الحكومة التونسية اليوم الشجاعة الأخلاقية وتدين غزو روسيا لأوكرانيا؟".
وقارن بين الموقف الراهن وبين ما حصل "قبل عشر سنوات، حين وقفت حكومة تونس على الجانب الصحيح من التاريخ من خلال استضافة مؤتمر "أصدقاء سورية" الأول في عام 2012.
وهو ما يفتح المجال للسؤال التالي: هل الموقف الذي عبّرت عنه الخارجية ستكون له تداعيات سلبية على تونس وعلى الرئيس قيس سعيّد خلال المرحلة المقبلة؟ أم أن تصويت تونس لصالح قرار العامة للأمم المتحدة، مساء أول من أمس الأربعاء، خطوة كافية لتجاوز المأزق.
تداعيات بيان الخارجية التونسية
بعد استقبال وزير الخارجية عثمان الجرندي السفير الأوكراني فولوديمير خومانيتس، يوم الجمعة الماضي، نشر الأخير بياناً على موقع السفارة ورد فيه أن "الوزير أعلن تنديده بالهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا وتمسك تونس بوحدة الدولة الأوكرانية".
وأثار هذا البيان تساؤلات في الأوساط السياسية مما دفع الجرندي إلى إصدار الموقف الرسمي العلني لتونس، كذّب فيه ضمنياً رواية السفير.
وأكدت تونس في هذا البيان أنه "من منطلق مواقفها الثابتة بضرورة تغليب منطق الحوار كأفضل السبل لفض النزاعات بين الدول، تدعو جميع الأطراف المعنية إلى العمل على تسوية أي نزاع بالطرق السلمية"، و"تهيب بالمجموعة الدولية لبذل قصارى الجهد لتشجيع جميع الأطراف على المفاوضات".
هذا يعني أن تونس اختارت الحياد، وهو من ثوابت الدبلوماسية التونسية، ولم يصدر عنها ما يفيد بإدانة روسيا بشكل مباشر أو غير مباشر.
لكن الثغرة الأساسية في الموقف التونسي تمثلت في عدم الإشارة إلى المواثيق الدولية، وهو ما اعتبره الغربيون أمراً مقصوداً حتى تتجنب مبدأ الأمم المتحدة القائل بأن من واجب جميع الدول "ألا تهدد باستعمال القوة أو تستعملها ضد سيادة الدول الأخرى أو استقلالها السياسي أو سلامتها الإقليمية"، فأوقعها ذلك في الحرج مع حلفاء تونس الاستراتيجيين أوروبا وأميركا.
كذّب الجرندي تصريحات السفير الأوكراني حول تنديد تونس بالغزو الروسي
ليست تونس البلد الوحيد الذي تمسك بالحياد، ولم يصطف وراء الولايات المتحدة في هذه الأزمة التي تكاد تعصف بالسلم العالمي. لكن الوضع السياسي الداخلي لتونس من شأنه أن يثير مزيداً من الغموض على علاقاتها الخارجية بالدول القريبة منها.
فالغرب من خلال الدول السبع الكبار سبق له أن انتقد بشكل جماعي سياسة سعيّد في مجال الحريات والتراجع عن الخيار الديمقراطي. وهو ينظر بعين الريبة لكل خطوة سياسية يقدم عليها الرئيس التونسي.
وقد سبق لرئيس اللجنة الفرعية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومكافحة الإرهاب بمجلس النواب في الكونغرس الأميركي، تيد دويتش، أن أعلن بوضوح أن "الديمقراطية التونسية في خطر".
كما جاء على لسان النائب الجمهوري غريك ستوبي أن "الرئيس التونسي ليس صديقاً، وأنه يدافع عن أجندة ضد الولايات المتحدة وإسرائيل منذ حملته الانتخابية.
الوقت قد حان لإعادة النظر في المساعدات الأميركية المقدمة إلى تونس". وبما أن البيت الأبيض يقود حالياً حملة مباشرة ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو حالياً يحصي أصدقاء أميركا، ويضع في خانة موازية الحكومات المترددة أو المنحازة إلى روسيا، لهذا توجد خشية من احتمال أن يزيد الموقف التونسي من المسألة الأوكرانية في عزلة سعيّد، ويعمّق المسافة بينه وبين أميركا وحلفائها.
سعيّد يفكر بتغيير استراتيجي خارجياً
وسبق أن راجت بعض الفرضيات، من بينها أن سعيّد الذي عبر عن ضيقه من محاولات التدخل في أسلوب إدارته للحكم من قبل الغربيين، بدأ يفكر في إحداث تغيير جوهري ذي طابع استراتيجي في علاقات تونس الخارجية.
وفي ذلك حرص على تطوير العلاقة مع كل من روسيا والصين، وهو احتمال أصبح يثير قلق الحلفاء التقليديين لتونس، وفي مقدمتهم واشنطن.
ويخشى أن تكون لمثل هذه السياسة تداعيات خطيرة لا تستطيع تونس تحملها في هذا الظرف بالذات، على الرغم من أنها ليست البلد الوحيد الذي اضطر لتوسيع انفتاحه الدبلوماسي من أجل التخفيف من حدة الهيمنة الغربية.
سعيّد عبر عن ضيقه من محاولات التدخل في أسلوب إدارته للحكم من قبل الغربيين
أصبحت تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على تونس واضحة وملموسة اقتصادياً والآن سياسياً، وهذه التداعيات مرشحة لتزيد من تعقيد حدود المناورة لدى سعيّد الذي بدا واضحاً أن طموحاته تتجاوز الرقعة الصغيرة لتونس، وأن أنصاره يرون فيه "زعيماً أممياً"، وأن طريقة تفكيره تتصادم في العديد من ملامحها مع ما يطلق عليه "ثوابت السياسة الغربية".
وهو من المؤمنين بضرورة تغيير موازين القوى في العالم، ويرفض أن تنفرد أميركا بالقيادة، ويرى من الضروري العودة إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، لأن ذلك من شأنه أن يوسع من دائرة المناورة، ويخفف من الضغوط على أي رئيس يريد تغيير أوضاع بلاده من خارج قواعد الديمقراطية التمثيلية.