عمليات الفصائل السورية المسلحة تخلط الأوراق

03 ديسمبر 2024
عناصر من الفصائل في حلب، 1 ديسمبر 2024 (عبد الفتاح حسين/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- عملية "ردع العدوان" وتوسع الفصائل: أطلقت الفصائل السورية المسلحة عملية "ردع العدوان" في ريف حلب الغربي، وامتدت إلى حلب وأرياف إدلب وحماة، محققة إنجازات نوعية بالسيطرة على مناطق استراتيجية مثل سراقب وخان شيخون ومعرة النعمان.

- المفاجآت والتداعيات الإقليمية والدولية: شكلت العملية مفاجأة بسبب توقيتها وعوامل السرية، وأثارت ردود فعل دولية متباينة، مع بداية شرخ في العلاقات التركية-الإيرانية.

- انهيار النظام السوري وتحديات المستقبل: أظهرت العملية ضعف النظام السوري واعتماده على المليشيات الإيرانية، مع توقعات بعدم استعادة زمام المبادرة دون تدخل روسي كبير، وتحديات للفصائل في إدارة المناطق المحررة.

تطورات متسارعة عرفتها سورية في الأيام الأخيرة، تمثلت في إعلان الفصائل السورية المسلحة عملية عسكرية باسم "ردع العدوان"، بدأت من بعض قرى ريف حلب الغربي، وتوسعت بسرعة نحو مدينة حلب وريفي محافظتي إدلب وحماة، وحققت إنجازاً نوعياً مساء الجمعة 29 نوفمبر/تشرين الثاني بدخول مدينة حلب والسيطرة على القسم الأكبر منها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى عدة مدن ذات أهمية خاصة في ريف إدلب، ومنها سراقب وخان شيخون ومعرة النعمان.

لم تقف العملية عند المناطق التي استولى عليها النظام وحلفاؤه من الإيرانيين والروس عام 2020 في أرياف إدلب وحماة وحلب، بل امتدت إلى تلك التي سيطروا عليها عام 2016، خصوصاً مدينة حلب ذات الأهمية الاستراتيجية، سياسياً واقتصادياً وجغرافياً، وهو الأمر الذي شكّل مفاجأة من العيار الثقيل فاقت في وقعها كل الحسابات، محلياً وإقليمياً ودولياً، وأعاد خلط الأوراق في الشأن السوري، الذي يشهد جموداً منذ عدة سنوات، وحالة من الانهيار المتسارع باتت تهدد وحدة سورية.

مفاجأة عملية الفصائل السورية المسلحة

تعد عملية الفصائل السورية المسلحة مفاجأة كبيرة بجميع المقاييس، وذلك انطلاقاً من التوقيت الذي لم يتوقعه أحد، على الرغم من أن شائعات جرى تداولها قبل عدة أشهر، تفيد بأن "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) التي تسيطر على محافظة إدلب، تحضّر لإطلاق معركة من أجل السيطرة على محافظة حلب. ولكن لم يتم أخذ المسألة على محمل الجد، كون المحافظة محصنة من النظام والفصائل الإيرانية من جهة، ومن جهة ثانية تحتاج معركة دخولها إلى قرار سياسي، على الأقل، من طرف تركيا، المتحالفة مع فصائل المعارضة السورية المسلحة. وهذه مسألة من شأنها أن تخلق أزمة في العلاقات الروسية التركية، والتركية الإيرانية، وتضر بالتفاهمات القائمة بين الدول الثلاث حول سورية، والخاصة ببقاء الوضع الميداني على الصيغة التي استقر عليها بعد معارك عام 2020، التي سيطر فيها النظام والمليشيات الإيرانية على مساحات كبيرة من ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي، خصوصاً مدن معرة النعمان وخان شيخون وسراقب.

توقيت العملية لم يتوقعه أحد، على الرغم من شائعات بأن "تحرير الشام" تحضّر لمعركة من أجل السيطرة على محافظة حلب

العنصر الثاني في المفاجأة، يكمن في عاملي السرية التامة والمباغتة. ذلك أن عملية كبيرة شملت تحريك عدة آلاف من المقاتلين مع أسلحتهم الثقيلة من عدة جهات، في وقت دقيق تخضع فيه منطقة الشرق الأوسط لرصد أمني واسع، خصوصاً من طرف الولايات المتحدة التي تعاين سورية عن كثب بسبب حربي إسرائيل على غزة ولبنان، وتركز عن طريق الأقمار الاصطناعية على تتابع عمليات تهريب الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله من العراق إلى سورية ومن ثم لبنان، ومن المستبعد ألا تكون قد لاحظت التحركات العسكرية للفصائل.

أما المباغتة فهي تبدو صعبة، في ظل البنية الهيكلية لقوات الفصائل السورية المسلحة التي يغلب عليها طابع المليشيات، والتركيبة الفضفاضة لأجهزتها الأمنية والسياسية. ومن الواضح أن هذه العملية العسكرية صدمت وباغتت النظام وقواته، وكذلك حلفاءه، من الإيرانيين والروس. ويطرح مصرع الضابط الإيراني القيادي في الحرس الثوري كيومرث بورهاشمي في المعارك التي دارت في محافظة حلب سؤالاً كبيراً حول مدى جاهزية الطرف الآخر، المفترض أنه كان في حالة مواجهة مع إسرائيل تحتم عليه قدراً عالياً من الاستنفار الأمني. لكن يبدو أن هناك اختلالات كبيرة، قد يكون مردها إلى حالة الاستنزاف بسبب العمليات العسكرية الاسرائيلية، التي لم تترك لإيران فرصة لالتقاط أنفاسها في سورية على مدار أكثر من عام.

هناك مظهر آخر من المفاجأة يتمثل في أن الفصائل السورية المسلحة بدت على درجة جيدة من التنظيم والاستعداد للمعركة، وصدر عنها الكثير من الإشارات المهمة على أنها عارفة للطريق الذي تسير عليه، وإلى أين تتجه، وكأنها تدربت على ذلك. يشار هنا إلى مسألة الانضباط التي تحلى بها المقاتلون الذين دخلوا مدينة حلب، التي لم تشهد أحداث عنف أو تعديات ضد الأهالي أو الأماكن العامة على الرغم من حالة الاحتقان الشديدة، ولم تحصل تجاوزات وأعمال ثأرية مع أن عدداً كبيراً من المقاتلين، هم من الذين تم ترحيلهم من حلب عام 2016.

المفاجأة التي لا تقل أهمية عن كل ما سبق تلك التي تتعلق بردود الفعل والمواقف الدولية. وتأجلت التصريحات الأميركية والفرنسية والبريطانية حتى نهاية انقضاء اليوم الرابع للعملية، وحاولت واشنطن وباريس ولندن إمساك العصا من منتصفها، لكنها ألقت بالمسؤولية على رئيس النظام بشار الأسد، في حين اتسمت التصريحات والبيانات الروسية بالغموض وعدم التشدد، قبل أن تتحرك موسكو وتغير قائد قواتها، وتباشر عمليات قصف جوي لإسناد النظام. وجاءت ردود الفعل الإيرانية عنيفة وقام وزير خارجيتها عباس عراقجي باتصالات مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، قبل أن يتوجه إلى دمشق وأنقرة، بينما بدت تركيا متفهمة للعملية في اليوم الأول، وحاولت النأي بنفسها لاحقاً، ولكن خصوصية العملية تعطي لتركيا دوراً مهماً.

كبرى المفاجآت هي التي تلخص موقف النظام، الذي لم يواجه الهجوم العسكري على الأرض

أقوى المفاجآت هي التي تلخص موقف النظام، الذي لم يواجه الهجوم العسكري على الأرض، وقرر أن يسحب قواته أمام تقدم فصائل المعارضة المسلحة، واكتفى بعمليات قصف جوي في أكثر من منطقة، كانت ذات آثار دامية على المدنيين، كما حصل في قصف دوار الباسل وباحة المستشفى الجامعي بحلب، الذي أصاب المدنيين وأوقع قتلى وجرحى. وفي ما يخص الجانب السياسي، لم تبتعد لغة النظام عن لهجة إيران، وعكست ردود فعله أنه يتصرف من موقع المهزوم الذي خسر الشوط الأول من المواجهة، وليست لديه وسائل ليدافع عن المناطق التي تقع تحت سيطرته. ولم يقتصر ذلك على منطقة واحدة بعينها، بل حصل ذلك في جميع المناطق، وبلغ به العجز حالة أنه سلم بعض مواقعه المهمة إلى "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، مثلما حصل في مطار حلب المدني، وهو الأمر الذي لا يمكن تفسيره بالضعف فقط، وإنما هو تعبير عن نظرة سياسية مشتركة إلى المعركة وأهدافها القريبة والبعيدة.

انهيار سريع للنظام السوري

يبدو أن الانهيار السريع فتح شهية الفصائل لتوسع الهجوم، وبعد أن كان الهدف الأساسي ريف حلف الغربي، تمددت العمليات بسرعة شديدة نحو مدينة حلب ومن ثم ريفي إدلب وحماة، وسواء كانت المسألة محسوبة مسبقاً أم أن التطورات الميدانية هي التي أملتها، فإن التقدم لم يكن ممكناً تلافيه من الناحية العسكرية، لأن الفصائل وجدت الطريق مفتوحاً أمامها، ولا تواجهها مقاومة كبيرة من النظام وحلفائه الإيرانيين والروس.

تعكس التداعيات المتسارعة للعملية بداية شرخ كبير في العلاقات التركية ــ الإيرانية يفسره التعليق الذي أوردته وكالة تسنيم الإيرانية في اليوم الرابع للعملية، وقبل يوم من زيارة عراقجي أنقرة قادماً من دمشق، وقالت الوكالة "(الرئيس التركي رجب طيب) أردوغان يمارس لعبة رابح... في حال نجاح العملية، فإن تركيا تريد قطع الطريق على إيران". وهذا يعني أن أنقرة دخلت على خط الضغوط الإسرائيلية والأميركية لإنهاء نفوذ إيران في سورية.

من المبكر الحديث عن نتائج نهائية للعملية العسكرية طالما أنها مستمرة، ولم تتبلور المواقف الإقليمية والدولية حيالها بصورة نهائية، لكن ذلك لا يمنع ملاحظة أن قوات النظام لم تكن تمسك بالأرض، بل المليشيات الإيرانية، وهذا ما يفسر الانهيار السريع، والعدد الكبير من القتلى في صفوف الإيرانيين في اليوم الأول للعملية حسب صحيفة كيهان الإيرانية. وأفادت معلومات من مصادر إعلامية في حلب لـ"العربي الجديد"، بأن المليشيات الايرانية تشكّل البنية العسكرية الأساسية للنظام في شمال غرب سورية، وقاتلت بشراسة في بعض المواقع في حلب مثل الحاضر وخان تومان والعيس، وهذا ما يفسر أنها مُنيت بخسائر كبيرة. والأمر الأكثر أهمية هو أنها أظهرت أن النظام لا يستطيع الدفاع عن نفسه أو الاستمرار بدون مساندة من إيران، وهو ما يفسر تحرك إيران من أجل رسم خطوط حمراء تحول دون وصول الفصائل إلى دمشق.

سورية تقترب من وضع جديد يعكس وضع النظام غير المستقر، والتحولات الإقليمية والدولية

وعلى العموم هناك ظرف دولي جديد، رافقته جاهزية لدى الفصائل عمرها عدة سنوات من التحضير. والتالي فإن سورية تقترب من وضع جديد يعكس وضع النظام غير المستقر، والتحولات الإقليمية والدولية، وهناك شبه إجماع على أن النظام لن يستعيد زمام المبادرة ما لم يحصل تدخّل روسي كبير، وهذا غير وارد في المدى المنظور. فالروس ليست لديهم الإمكانات اللوجستية الكافية من أجل صد هجوم كبير على مساحة كبيرة من الجغرافيا السورية، حيث قامت موسكو بسحب قوات "فاغنر" وجزء من جيشها وطائراتها الحربية.

هناك العديد من التحديات تواجهه العملية، أهمها الاستمرار بالوتيرة نفسها من الانضباط وضبط النفس، لأن النماذج السابقة في منطقة "درع الفرات" وعفرين كانت قائمة على التجاوزات ضد الأهالي والفساد والقمع. وقد مر الأسبوع الأول من دون حصول مشاكل، وستشكل مسألة إدارة مدينة حلب اختباراً حقيقياً. ويبدو أن الفصائل المسلحة تعي ذلك، ولذلك وجهت نداءات إلى الكفاءات السورية من أجل المساهمة في ذلك، ولكن الدعوة وحدها لا تكفي، حيث أبدت أوساط مدنية تأييدها للعملية، ولكن جرى التحفظ على عدد من النقاط الجوهرية، وكي تحقق النتائج المرجوة منها على المدى المنظور، جرى الطلب من الفصائل أن تقدم ضمانات فعلية على أن دورها ينتهي مع طرد النظام والمليشيات الإيرانية من سورية.

المساهمون