علي سالم البيض عن حرب الرفاق في جنوب اليمن: فشل كمين علي ناصر ينقلب حرباً أهليةً (2–2)
استمع إلى الملخص
- الأحداث الدامية في 13 يناير 1986: يصف النص الانفجار في اجتماع الحزب واشتباكات عنيفة، حيث أدى سوء التقدير إلى وقوع البيض ورفاقه في فخ محكم من قوات علي ناصر.
- تداعيات الحرب الأهلية: يبرز النص دمار الحرب الأهلية وسقوط آلاف الضحايا، مما أدى إلى انهيار النظام السياسي والاجتماعي في الجنوب وصعوبة استعادة الاستقرار.
تغطّي سيرة الزعيم اليمني الجنوبي علي سالم البيض فترة مفصلية من الصراع داخل ما كانت تُعرف بجمهورية اليمن الديمقراطي، التي قامت بعد الاستقلال عن بريطانيا عام 1967، واستمرّت حتى قيام الوحدة مع شمال اليمن في مايو/ أيار 1990. ويقدم البيض من موقعه القيادي في تلك التجربة روايته للخلافات بين رفاق الصف الواحد داخل الحزب الاشتراكي اليمني، الذي حكم الجنوب حتى قيام الوحدة بين الشطرين، ويكشف عن معلومات، للمرّة الأولى، عن تلك التجربة المهمة في الجزيرة العربية، ويضيء على تفاصيل الصراع، الذي بدأ بإعدام رئيس الجمهورية سالم ربيّع علي (سالمين) 1978، وانتهى بالحرب الأهلية في 13 يناير/ كانون الثاني 1986، بين جناحي علي ناصر محّمد وعبد الفتّاح إسماعيل الذي لقي مصرعه في تلك المواجهة، وتسلّم البيض القيادة في الجنوب. حاور البيض وأعدّ المذكّرات الزميل بشير البكر، وتنشر "العربي الجديد" مقطعاً منها في حلقتين، وتصدر قريباً، في كتاب بعنوان "علي سالم البيض... الوحدة والانفصال"، عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان. وفي ما يلي الحلقة الثانية:
هل تتذكّر أجواء ما قبل اندلاع القتال بين الجناحين في 13 يناير/كانون الثاني 1986؟
رافقتُ علي ناصر في جولة خارجية، زُرنا خلالها أديس أبابا وصوفيا وصنعاء. وعقد في العواصم الثلاث خلواتٍ مع المسؤولين، كان لافتاً فيها اللقاءات مع منغستو هيلا مريام، وعلي عبد الله صالح، لقرب إثيوبيا واليمن الشمالي من تداخلات الأزمة الناشبة لدينا، وتبيّن لاحقاً في أثناء انفجار الخلاف أن الزيارتَين كانتا مبرمجتَين في سياق المشكلة، وخصوصاً زيارة صنعاء. وكان الاتفاق بيننا أن نمضي في صنعاء بضع ساعات، ومن ثمّ نكمل الطريق إلى عدن، لكنّ الأمر تحوّل استضافةً وغذاءً وقاتاً، ثمّ تلاه مبيت، فاجتماع مغلق بين علي ناصر وعلي عبد الله صالح. شكّ الجميع في تلك اللحظة بصلة الاجتماع بالأزمة، وممّا عزّز الشكوك أسلوب الخلوة الذي تكرّر في أديس أبابا وصنعاء، ولو صدقت الظنون، فإنها تعود إلى تأكيد عدم وجود ما هو عفوي، بل جرى درس كلّ تفصيل.
وزّع علي ناصر الأسلحة بمبرّر معلوماتٍ عن قرب حصول إنزال عسكري إسرائيلي في عدن
ولماذا لم يتحرّك الطرف الآخر لمنع علي ناصر من تنفيذ خطّته التي كان يعدّها، ويحول دون انفجار الموقف؟
راود الجميع الشكّ في أن علي ناصر يُحضِّر لأمرٍ ما، لكنّ أحداً لم يخطر في باله أنه قد يذهب نحو ذلك الموقف المجنون، وإلا كنّا بذلنا كلّ ما في وسعنا لمنعه من ارتكاب تلك الحماقة الكبيرة. كان الاتجاه في صفوفنا، كما أشرت، ممارسة أقصى الضغوط على علي ناصر من أجل حلّ المشكلة سلمياً، والدليل على سلامة النيّات، ذهب رئيس الدولة حيدر أبو بكر العطّاس قبل الإنفجار بوقت قصير في زيارة للهند.
إذاً، كان علي ناصر يستعدّ للمواجهة العسكرية سرّاً؟
تبيّن لاحقاً أن علي ناصر استعدّ لحسم الموقف بالوسائل العسكرية، لذلك وزّع الأسلحة بمبرّر معلوماتٍ عن قرب حصول إنزال عسكري إسرائيلي في عدن، وهناك تقديرات تشير إلى وجود من بسّط القضية لعلي ناصر، وصوّرها له بأنها لن تتجاوز حدود تمثيلية إعدام خلال الاجتماع، وبعد ذلك يستتب له الوضع. ورغم جو التوتّر الذي ساد، لم تذهب الظنون حدّ تصوّر أن علي ناصر يمكن أن يتصرّف بالطريقة التي تصرّف بها، وكي ندلّل على حسن نيّاتنا، فقد وصلنا في ذلك الصباح المشؤوم إلى الاجتماع في موعده المحدّد، وأقصد علي عنتر، صالح مصلح، عبد الفتّاح إسماعيل، علي شائع، يحيى الشامي، علي مثنى، أحمد السلامي، وسالم صالح محمّد الذي تأخّر قليلاً، فيما لم يحضُر كلّ من صالح منصر السيللي وجار الله عمر ومحسن، وحتى حين وصلنا ولم نجد أحداً من جماعة علي ناصر، لم يخامرنا الشكّ في أنه سيرتكب الحماقة في ذلك اليوم، وكان الاعتقاد أنهم يوجدون في المنطقة والمكاتب المجاورة نفسها.
هل تتذكّر اللحظات قبل الانفجار؟
جلسنا قي قاعة الاجتماعات على شكل حرف لام. وما هي إلا دقائق حتى حضر حارس علي ناصر المعروف باسم حسّان، وكان يحمل حقيبتة، ومن ثمّ دخل بعده مباشرة الملازم علي محمّد من حرسه الخاص، وهو يحمل ثلّاجة الشاي، ولم تكن هناك أيّ علامة توحي بأن الجو يختلف عنه في الأحوال العادية، وكان حسّان يتحدّث إلى علي عنتر، ويقصّ عليه حكاية تتعلّق بجماعة الجبهة الوطنية في الشمال، وكيف أنه أرسل إليهم سيّارة. كان يتحدّث بمرح ويضحك، بينما يبدو على علي عنتر التجاوب، كان يستمع ويضحك هو الآخر، إلا أن الحارس تراجع فجأة إلى الوراء، وأطلق طلقتَين من رشّاش نوع سكوربيون في ظهر علي عنتر. ولحسن الحظّ، أصاب ذلك الرشاش عطل، ولم يعُد يُطلق النار، ولولا ذلك لحصد الموجودين جميعاً في ثوانٍ معدودة، ما جعل كلّاً من الناجين يتصرّف بطريقته الخاصة.
في ما يخصّني، اتخذت وضعية الرامي منبطحاً لأشحن مسدسي. خرج صالح مصلح على الفور، يجري من خلف حسّان، وأطلق النار في اتجاهه، لكنّه سقط قرب الباب، ولا أدري من أين أتته الطلقات التي أصابته بمقتل، وتبيّن لاحقاً أن الذي أطلق النار كان الملازم علي محمّد، الذي جاء يحمل ثلاجة الشاي، وهو تأخّر قليلاً بسبب منع بوابي القاعة إدخال الشاي، لكنّه سحب رشّاشه وبدأ بإطلاق النار من الزاوية الأخرى. وفيما حاولتُ إسعاف علي عنتر، طارد علي شائع الملازم علي. مزّقت قماش الستارة وبدأت محاولة تضميد علي عنتر لوقف النزف، لكنّه كان يصرُخ: "خلاص... خلاص"، وبما أنه يعاني من داء السكر، وبسبب غزارة النزف، فارق الحياة خلال دقائق. اتّصلت بمنزل سعيد صالح لطلب الإسعاف والنجدة، لكني لم أجد أحداً. وفي هذه الأثناء، شاهدت علي شائع يعود من الخارج وهو بمشية الكاوبوي المعهودة، حاملاً مسدّسه الكبير، يتّجه نحو الكرسي حيث كان يجلس، وكان هناك خيط رفيع من الدم ينزل من جبهته، فيما كان الرصاص ينهمر في اتجاهه من الخارج بغزارة حتى سقط.
كان السوفييت إلى جانب علي ناصر في البداية، لكن ميزان القوى اختلّ حين هرب إلى أبيَن
ولماذا لم تتدخّل الحراسات المرافقة لكم؟
كانت النيّات حسنة، بدليل أننا لم نُحضِر معنا غير حراسات عادية ومحدودة، فيما كان الطرف الآخر قد حضّر خطّةً كاملةً، وحتى السيارة الخاصّة بعلي ناصر كانت في الساحة، في حين أنه لم يحضُر. وكان ذلك للتمويه وزرع الاطمئنان في الوقت نفسه. العدد المحدود من الحرس الذين كانوا برفقتي قاوموا إلى جانب حرس بقية الرفاق في الخارج، لكنّهم أبيدوا جميعاً، نظراً إلى أن عدد القوة المهاجمة من الطرف الآخر كان أكبر بكثير. وفي هذه الأثناء، تراجعتُ إلى الخلف فوجدتُ أحد المكاتب مفتوحاً، ألقيتُ نظرة نحو الخارج فلمحت حرّاس عبد الفتّاح مُجندلين أرضاً، لقد قتلوهم جميعاً، ولمحتُ حينذاك ضابطاً في الأسفل، ناديته فعرفني، أنزلت له الستارة فربط لي رشّاشَين مع كمية من الذخيرة.
أتحدّث عن تلك اللحظات بعد زمن طويل، رغم أنها حفرت عميقاً في الذاكرة، لأنها قاسية ومؤلمة، فإن تفاصيل أساسية ومهمّة كثيرة سقطت بفعل الزمن، وبقيت تفاصيل أخرى لا تُنسى. هل لك أن تتخيّل أني حرّكت مسنداً من الحديد كي أغلق باب هذا المكتب، يحتاج تحريكُه في اللحظات العادية إلى خمسة أضعاف طاقتي، بدليل أني حين حاولتُ أن أزيحه في المساء لم أتمكّن. وبعد وقت غير طويل، وصل سالم صالح محمّد، فأعطيتُه أحد الرشاشَين وبعض الذخيرة، وانسحبنا من المكان ومعنا عبد الفتّاح إسماعيل ويحيى الشامي، وهما لم يُصابا بأيّ أذى. وأذكُر أني استخدمتُ الهاتف الذي كان لا يزال قيد العمل، واتصلتُ بصالح بن حسينون (رئيس الأركان) في منزله من أجل الحصول على أرقام بعض هواتف القادة العسكريين، الذين نصحونا بالبقاء في المكان نفسه، حتى يتمكّنوا من الوصول لنجدتنا.
هل أجريتُم اتصالات سياسية في تلك اللحظة؟
اتصلتُ بالسفير السوفييتي، بعد أن وصلت إلينا معلومات عن أن هناك بعض قِطع الأسطول السوفييتي قريبة من شواطئ عدن تستعد للإنزال في جزيرة صيرة لإسناد علي ناصر، وطلبتُ منه ألا تتدخّل موسكو في شؤوننا الداخلية. وعلمتُ لاحقاً من طريق المترجم، أن تلك اللحظة كانت صعبة للسفير الذي كان حديثي معه بمثابة إلقاء القفّاز في الوجه. لقد تفاجأ، لأن بيان علي ناصر قد أعلن مقتلنا، وأعطيت سماعة الهاتف لعبد الفتّاح إسماعيل الذي حدّثه أيضاً، ولكن ليس كثيراً، ولم يبدُ عليه الإرتياح. بقيت حيثيات الموقف السوفييتي تحتاج إلى توضيح في ظلّ اتهام علي ناصر السوفييت بأنهم الذين انقلبوا عليه، مثلما ذكر في أكثر من حديث صحافي لاحق. طلبت من السفير سحب الأسطول وعدم التدخّل، في وقت كان فيه حيدر أبو بكر العطاس قد غادر الهند ووصل إلى موسكو، حيث أجرى سلسلة من اللقاءات، كانت ثمرتها الأولى كبح التدخّل السوفييتي، وفي الوقت ذاته الحيلولة دون أيّ تدخل خارجي، وخصوصاً من الشمال. وقد اكتفى الأسطول السوفييتي في حينه بمساعدة الأجانب على الخروج من عدن، وحاولت السفارة السوفييتية في عدن أن تلعب دوراً مساعداً في ضوء لقاءات العطّاس في موسكو لإصلاح ذات البين وحقن الدماء، وكان رأيهم أنه لا مبرّر للنزاع. وللأمانة، لم يكونوا منحازين إلى طرف ضدّ الطرف الآخر.
أمّا عن اتهامات علي ناصر جهاز "كي جي بي" (المخابرات السوفييتية) بأنه عمل لإسقاطه، فإنه تتوجّب الإشارة إلى أن السوفييت كانوا إلى جانبه في البداية، لكنّه حين هرب إلى محافظة أبيَن، وتبعه محمّد علي أحمد وأحمد مساعد حسين سيراً على الأقدام داخل مياه البحر في الليلة نفسها، اختلّ ميزان القوى وتغيّر الموقف.
تركوني بمفردي داخل اللجنة المركزية ولم يسألوا عني
كيف تصرّف علي ناصر بعد محاولة قتل خصومه كلهم الموجودين في قاعة الاجتماعات؟
صدر عنه بيان في الساعة الثالثة والنصف بعد ظهر ذلك اليوم، جاء فيه أنه أحبطت محاولة انقلابية قام بها معارضون له، وأُعدم زعماؤها، وهم علي عنتر وعبد الفتّاح إسماعيل وعلي سالم البيض وصالح مصلح وعلي شائع هادي. وغادر في هذه الأثناء في اتجاه مدينته أبين، بعد أن صرّح عن استتاب الموقف، وظهر ويده ملفوفة برباط أبيض، لكي يوحي بتعرّضه للاعتداء، وأعلن أيضاً أن محاولةً لقتل نجله جمال فشلت. وبالطبع، كانت هذه البيانات والروايات كلّها من بنات خياله ولا صحّة لها. وأعطى إعلانه عن إعدامنا مفعولاً عكسياً في الشارع. وأذكر هنا أن مواقف معبّرة، يصعب تصنيفها اليوم في أيّ خانة، لكنّها تظلّ في سجل الأعمال ذات الأثر الذي لا ينمحي. ومن ذلك أن مجموعة قدِمت من ردفان لنجدة العمّ سعيد صالح سالم (وزير أمن الدولة)، بعد أن بلّغها أنه مُحاصر في عدن. وتعرّضت تلك المجموعة لأكثر من كمين مسلّح في الطريق، وبذلك تناقص عددها ليصل إلى بضعة أفراد حين وصلت إلى حيّ التواهي في عدن، وما يسجّل هنا أن النجدة وصلت في نهاية المطاف.
كيف كان الوضع العسكري للمحسوبين على علي ناصر؟
كان الموقف سيئاً جدّاً، إذ إن انعكاسات هروب علي ناصر وانهيار قيادته كانت كبيرة، وبقيت في الميدان قيادات الصفّ الثاني، وهي قياداتٌ مقاتلةٌ، لكنّها تأثّرت بأمرَين: قصف الدبّابات التي كانت في طرفنا، وهروب قيادتها، وأدت الاتصالات التي أجريناها إلى عكس اتجاه الأحداث، حتى الإذاعة أُسكِتت بواسطة القصف، وسُيطر عليها، وبذلك تغيّرت اللهجة. مكثنا في ذلك المكان حتى المساء، إلى أن وصلت إلينا ناقلة جند مدرّعة. بدأت بإخراج عبد الفتّاح إسماعيل، وأذكر أنه صعد إلى داخلها، فيما سار الآخرون من حولها، وفوجئتُ بأمر رحيلهم ولم يُعلموني بذلك، بمن فيهم عبد الفتّاح. تركوني بمفردي داخل اللجنة المركزية، ولم يسألوا عني، وكانت دهشتي كبيرة حين عرفت أني بقيتُ وحيداً، منشغلاً بالاتصالات الهاتفية، في وقتٍ كان فيه أصحابي يبحثون عن سبيل للنجاة. وبعد نهاية الأحداث، ومن خلال اعترافات مُدوَّنة، عرف الطرف الآخر أني لم أخرج من المقرّ. وبالتالي، كلّفت مجموعة من المسلّحين انتظاري لحظة الخروج عند باب القاعدة البحرية، التي كان يقودها أحمد صالح الحسني، ويبدو أنهم (في هذا الوقت) كانوا قد أجهزوا على عبد الفتاح إسماعيل. وعلمتُ لاحقاً أن المجموعة التي رافقته لم تواصل طريقها معه حتى لحظة وقوعه في الكمين، فبعضها قرّر التوقّف واللجوء إلى زوايا آمنة، بدلاً من تعريض نفسه للمجهول.
أعطى إعلان علي ناصر عن إعدامي أنا وعبد الفتّاح إسماعيل وصالح مصلح وعلي شائع هادي مفعولاً عكسياً في الشارع
هل بقيتَ داخل المقرّ وحيداً؟
في هذه الأثناء قرّرت الخروج بمفردي، رغم الإضاءة القوية في الشارع، التي تُساعد على تحديد ملامح الشخص من كثب، وبذلك كان يمكن للنار أن تأتيني من أيّ جهة، خصوصاً أن الطرف الذي رتّب عملية الصباح، كان قد تنبّه لإمكانية خروج بعض الأحياء من هذا الطريق، وحسب حسابها أيضاً، وبالتالي أعدّ العدة لإيقاعهم في الشرك. ولحسن الحظ، شعر سعيد صالح الذي كان يوجد في المنطقة بالانزعاج حين علم بخروج جماعتي من دون أن تصحبني معها، فأرسل دبّابةً كي تُخرجني من المكان، لكنّها لم تتمكّن من الوصول إلى الباب، انتظرتُ في مكانٍ قريب، وما عادت الدبابة قادرةً على الإقلاع حين جلستُ إلى جانب المدفعيّ الذي أشرت عليه برمي طلقة كي يساعد الآلية على الارتفاع قليلاً من حفرة وقع فيها. رمى طلقة نحو الجبل، فتحرّرنا من الحفرة، وسار مسافة قصيرة ثمّ توقف. قلت له أن لا يقف فهنا منزل محمّد علي أحمد. وفي القريب، كان سعيد صالح بانتظارنا. وحين لم أستطع تحمّل الحرارة داخل الدبابة، فتحت البرج وخرجت مبتعداً قليلاً، وأنا أطلب من السائق الابتعاد بسرعة، وما كدتُ أكمل كلامي حتى سقطت قذيفة آر بي جي على الدبابة لتحرقها بمن فيها، وأصيب سعيد صالح بشظية.
مع ذلك، سِرنا في الشارع، كان إلى جانبه بضعة مرافقين، وبقينا في الاتجاه الذي يؤدّي إلى التواهي، حتى وصلنا إلى معسكر الشرطة العسكرية. جلسنا هناك، وشرعنا بتجميع الصفوف، وصعدنا بالعم سعيد صالح إلى المستشفى، ثم انتقلنا إلى مقرٍّ كان يتبع للجبهة الوطنية. وفي اليوم التالي، حاولنا صعود الجبل قصد إقامة مقرّ القيادة هناك، وإذا بهم يرموننا بشتّى أنواع الأسلحة، لكن الذي حمانا وجود سواتر إسمنتية، أتاحت إمكانية اتقاء النيران. كان قصفاً مركّزاً بكل معنى الكلمة. كانت معركة فعلية، وبلغت التعبئة ذروتها، خصوصاً أن المقاتلين من أبناء المناطق الأخرى معروفٌ عنهم الشجاعة حتى التهور والجنون.
هل تعرّضت لأيّ إصابة؟
أُصِبت في المعدة، جاءت الرصاصة في الأمعاء، ومرّت بجانب الكبد والقفص الصدري، ولم تُصبهما، فيما أصابتني رصاصة أخرى في الفخذ، وشقّت طريقها في اللحم، ولحسن الحظ لم تُصب العظم، إلا أنها استقرّت بعد أن قطعت العصب. صعدنا، فوجدنا سعيد صالح كان قد سبقنا، فنقلوني مباشرة إلى العمليات من أجل إخراج الرصاصة. أدخلوني إلى العناية المكثّفة، لكنّي لم أسلم من الرصاص الذي كان يأتي من الجبل المقابل من قنّاص لا يملّ الرمي، بناءً على معلومات نقلها أحد الاطباء الذين قاموا بالعملية، إذ تبيّن أنه موالٍ للجماعة الأخرى.
لحظة جنونٍ استمرّت قرابة عشرة أيام بلياليها، لم تهدأ فيها وسائل القتل والدمار دقيقة
ما المدّة التي استغرقها القتال؟
اشتدّت المعارك في صورة غير عادية، حتى ليظنّ المرء أن أبواب الجحيم انفتحت على مصراعيها، وبدأت تصبّ حممها. كان القصف من كلّ مكان، من البرّ والبحر والجو، وفي جميع الاتجاهات. هي لحظة جنونٍ استمرّت قرابة عشرة أيام بلياليها، لم تهدأ فيها وسائل القتل والدمار دقيقةً. وحين أنظر اليوم إلى تلك اللحظات المجنونة في تاريخ التجربة، أتساءل: هل يكفي جنون السلطة وحده لتدمير البلد وسفك دماء الناس على ذلك النحو؟ لقد عزّت حتى شربة الماء، وفي المستشفيات ترك الأطباء للجرحى أن يستعيضوا عن الماء بأكياس المغذّيات البلاستيكية.
إذن، تطوّر الأمر إلى حربٍ أهلية؟
انقلب فشل الكمين الذي نصبه علي ناصر إلى حربٍ أهلية سريعة الإيقاع. وحتى لو نجح الكمين، فإن عدد الضحايا كان سيصير مرتفعاً، لأن هناك من يثأر دائماً وينتقم، وهناك من يرفض الموت بهامة محنية، إلخ. احتفاظ الطرفَين بأسلحة متنوعة وثقيلة هو الذي أدّى إلى الدمار الشديد، وأوقع العدد الكبير من الضحايا. هذا بالإضافة إلى أن علي ناصر كان قد استعدّ لهذه اللحظة. وبالتالي، كان قد حدّد أهدافه بدقّة، وقد أصاب بعضها في اللحظات الأولى، مثل التصفيات الجسدية التي شملت بعض العسكريين.
كم مكثتَ في المستشفى؟
نُقلت إلى دار الرئاسة في اليوم العاشر للمعارك، حيث أُحضِرت زوجتي التي كانت، لحظة انفجار الموقف، في المدرسة الحزبية، في حين أن الولد والبنت بقيا في المنزل. ظلّت زوجتي بعض الوقت ضائعة بين جملة من الأخبار، هناك من يؤكّد لها أني في قائمة المفقودين، وآخرون يؤكّدون العكس. وبالإضافة إلى ذلك، الطفل والطفلة تشرّدا لأن السيدة التي كانت تُعنى بهما، والشخص الذي كان يساعدها في ذلك، أصابهما حالٌ من الاضطراب بعد تعرّض المنزل للقصف.
حين انتقلتُ من المستشفى إلى الرئاسة، قمت بجولةٍ في عدن بغرض الاطلاع على ما خلّفته دورة العنف، فوقفتُ على ما لم أكن أتوقّع أنني سأراه في حياتي. كانت عدن مدينة محترقة ومتفحّمة، الحديد في الشوارع، حطام الآليات، المحروقات والزيوت، المباني مدمّرة، السيارات مهشّمة. كان مشهداً مؤلماً إلى أقصى الحدود. لم أتعرّض في حياتي لصدمة لها الوقع نفسُه، احترق كل ما بنيناه.
ترك علي ناصر ومؤيدوه منطقة أبين إلى الشمال في 26 يناير (1086)، بعد أن تأكّد لهم عدم جدوى الاستمرار في القتال، فهم خسروا ميدانياً، ولم تصل إليهم نجداتٌ من الخارج. كانوا يعوّلون على الشمال والاتحاد السوفييتي وإثيوبيا. خرج علي ناصر بعد أن قسم البلد إلى قسمين، وشقّ الجيش. قاتلت إلى جانبه القوى البحرية، في حين أن الدروع والمدفعية والغالبية العظمى من الناس إنحازت للطرف الآخر. الملاحظة التي سُجّلت عدم حصول معركة عسكرية تقليدية، بل هو تلاطم أهلي، وضرب بشتى الوسائل، في رقعة محدودة. هذا هو السبب الذي يقف وراء العدد الكبير من الضحايا والدمار الواسع. فلو جرت مواجهة عسكرية تقليدية، لما أدّت إلى هذا العدد الهائل من الضحايا، الذي يقدّر بحوالى أربعة آلاف قتيل، وأعداد كبيرة من الجرحى، في حين أن العدد الذي جرى تداوله تحدّث عن ثلاثة أضعاف الضحايا البشرية، وخسائر مادّية تقدّر بأربعة مليارات دولار.
ربما غرّر بعضهم بعلي ناصر وأقنعه بأن الأمر لا يتجاوز تصفية عبد الفتّاح إسماعيل وعلي عنتر وعلي سالم البيض ثمّ يستقيم الوضع له
هناك من يعتبر أن تلك المعركة أنهت تجربة اليمن الديمقراطي، ما هو رأيك؟
نعم، تلك الحرب هي التي وجّهت الضربة القاضية إلى تجربة اليمن الديمقراطي، وحطّمت كل ما شُيّد قبل ذلك، وأعادتنا إلى النقطة الصفر، وكانت الخسارة بشريةً قبل كل شيء. وفي اعتقادي، كل شيء يمكن تعويضه على نحو سريع، إلا فقدان الثروة البشرية المؤهلة، فهذا يحتاج زمناً طويلاً. لذلك تولي الدول المتقدمة الاستثمار البشري عناية خاصة. ما خسرناه نحن في تلك الحرب هو الكادر السياسي والعسكري الذي بنيناه طوال ثلاثة عقود أو أكثر، ومن نجا من الموت فإنه وقع ضحية الإحباط، سواء خرج مع علي ناصر أو بقي في البلد، إن البلد خسر نحو 1500 كادر عسكري خرجوا مع علي ناصر، غير الذين فقدهم في ساحة المعركة، ومثلهم من الكوادر السياسية الذين صرفنا على تكوينهم، وتعبنا من أجل تكوينهم. ولستُ أبالغ حين أقول إن كارثة 13 يناير (كانون الثاني 1986) وجهت ضربة قاصمة للتجربة، وكادت أن تقضي عليها في صورة نهائية.
خرج علي ناصر بعد أن قسّم البلد بين قسمين، وشقّ الجيش
لو نظرنا إلى الموقف عشية المذبحة، لوجدنا أن الطرفيْن كانا يستعدّان للمواجهة، وليس علي ناصر وجماعته فقط، ما يعني أن المسؤولية يجب أن توزّع في صورة عادلة، ولا تُرمى كلها على ظهر علي ناصر، الذي يتحمل، من دون شك، القسط الاكبر منها، ما رأيك؟
هذا التشخيص دقيق، لكن كل طرف كان يستعد في اتجاه. من جانبنا، كنّا نسعى لمنع حصول الكارثة، لأننا كنا ندرك ماذا يعني انفجار الوضع. في حين أن علي ناصر لم يكن يمتلك التقدير الكافي لأبعاد اللجوء إلى التفجير. وربما غرّر به بعضهم، وأقنعه بأن الأمر لا يتجاوز تصفية عدة أشخاص، عبد الفتّاح إسماعيل، علي عنتر، وعلي سالم البيض، وبعد ذلك يستقيم الوضع له. وكما سبق أن أشرت، كان هدفنا مواصلة معركة النضال الديمقراطي داخل هيئات الحزب المختلفة، وعلى أساس الأغلبية، بل كنّا قد ذهبنا في اتجاه تبريد الموقف، وتأجيل بحث القضايا مثار الخلاف، حتى يحين وقت حلها في صورة هادئة. وهنا أتذكّر أننا كنا نجلس في الليلة السابقة لانفجار الموقف في منزل عبد الفتّاح إسماعيل، وكانت قناعة علي عنتر أن المخرج الوحيد سلوك سبيل النضال الديمقراطي، وأن أي حل آخر معناه تدمير البلد والتجربة، وتحدّث عن ضرورة إيجاد قدر من التوازن الذي يجبر علي ناصر على قبول الحل.