استمع إلى الملخص
- الموقف العربي الرسمي يتسم بالتخاذل، حيث لم تتخذ جامعة الدول العربية أو مجلس التعاون الخليجي إجراءات فعالة لوقف العدوان، مما شجع إسرائيل على الاستمرار.
- تراجعت الفاعلية الشعبية ضد العدوان بسبب هزيمة ثورات الربيع العربي، مما أدى إلى انقسامات وتطبيع مع الإبادة، مهددًا الدول والشعوب العربية.
يواصل الاحتلال الصهيوني حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة للشهر الثامن عشر على التوالي، مستخدمًا أحدث تقنيات القتل والتدمير، التي تضخها له بوافر الكرم مؤسسات صناعة الأسلحة الأميركية والأوروبية، بدعمٍ مطلق من الإدارة الأميركية (السابقة والحالية) ماليًا وعسكريًا ومعلوماتيًا وإعلاميًا واستخباراتيًا.. وما توفره له من دعمٍ وغطاءٍ سياسيين في مواجهة المنظّمات الدولية والحقوقية والإنسانية العالمية.
نصف عدوان قوات الاحتلال الصهيوني على قطاع غزّة بحرب إبادةٍ جماعيةٍ لأن كلّ ما تقوم به ينطبق عليه التوصيفات الواردة في المادة الثانية لاتّفاقية "منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتّحدة بالقرار 96/ 11، في ديسمبر/كانون الأول 1946، بما في ذلك الحصار وقطع إمدادات الغذاء والماء والكهرباء، قصف وتدمير التجمعات السكنية والمدارس والمستشفيات والبنى التحتية المدنية، واستهداف المسعفين والفرق الطبية ومراكز اللجوء ومؤسسات الإغاثة، بما في ذلك التابعة للأمم المتّحدة "أونروا"، وتحويل قطاع غزّة إلى مساحةٍ مقطعة الأوصال محاصرةٍ غير قابلةٍ للحياة، ما دفع العديد من المؤسسات الحقوقية والإنسانية الدولية والإعلامية، والشخصيات العامة إلى إطلاق توصيف الإبادة الجماعية على الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الصهيوني في قطاع غزّة على مدى الشهور الثمانية عشر منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
بناءً عليه؛ بادرت جنوب أفريقيا إلى رفع دعوى قضائية بهذا الخصوص أمام محكمة العدل الدولية ذات الاختصاص، في التاسع والعشرين من ديسمبر 2023، انضم إليها لاحقًا عددٌ من الدول، بما فيها بعض الدول العربية (ليبيا، مصر..).
الموقف الرسمي العربي
(يكرر رئيس الحكومة الاسرائيلية في تصريحاته تباهيه بأنه وراء إسقاط نظام بشار الأسد) يمكن القول، من دون تحفظٍ، إن النظام الرسمي العربي قد تحللّ وانفرط عقده، منذ أن تحللّ من القضية الفلسطينية وانفك عنها، فهو تأسس في الأصل على إيقاع هذه القضية، وربما في رد فعلٍ عليها. هذا ما تطرق الكاتب له بالتفصيل في موضوعٍ سابقٍ نشر في ملحق فلسطين بتاريخ 25/6/2023 تحت عنوان "فلسطين والنظام الرسمي العربي". وعليه فإنّ جامعة الدول العربية المتهالكة لم تتمكن من اتخاذ أيّ إجراءٍ عمليٍ جامعٍ وموحدٍ لوقف حرب الإبادة والتصدي لها، رغم امتلاكها أكثر من سلاحٍ يتيح لها ذلك. الأمر نفسه ينسحب على مجلس التعاون الخليجي، الأكثر تماسكًا وقوّةً، الذي يمتلك من المقدرة ما يمكّنه بالفعل من وقف هذه الحرب منذ أيّامها الأولى، وتحديدًا في ظلّ ظروفٍ دوليةٍ ملائمةٍ، تحديدًا الحرب الروسية الأوكرانية، ومقاطعة أوروبا الوقود الروسي، وبالتالي حاجتها الملحة للنفط والغاز العربيين في شتاء 2023/2024. فلو لوحت دول النفط والغاز، مجرد تلويحٍ أو تلميحٍ، بوقف صادراتهم إلى أوروبا في حال استمرار دعمها حرب الإبادة الموصوفة على قطاع غزّة، هل كانت وزيرة خارجية ألمانيا لتجرؤ على التصريح الوقح بـ"أنّ بلادها لن تخجل من قتل المدنيين في غزّة وضرب المرافق المدنية والصحية فيها"؟
من سوف يحمي النظام الأردني في حال تقاطعت الطموحات الصهيونية مع المصالح الأميركية في إسقاطه واستبداله بالفوضى أو بنظامٍ دمية
لم يعد خافيًا على أحد أنّ الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزّة، التي توسعت لتشمل سبع جبهاتٍ كما يردد رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو، لم تكن لتستمر بهذه العدوانية والدموية والجرأة على القوانين والمعاهدات الدولية، بما فيها تلك التي صادقت عليها إسرائيل نفسها، لولا الدعم المطلق والمفتوح الذي تقدمه الولايات المتّحدة، كما لم يعد خافيًا أنّ غياب أيّة مواقفٍ حازمةٍ مقترنةٍ بإجراءاتٍ عمليةٍ فاعلةٍ وفعليةٍ من الدول العربية كان عاملًا مشجعًا على المضي قدمًا في الحرب من دون سقفٍ.
عندما تتراوح ردود الفعل الرسمية العربية (المقصود هنا الدول التي تتمتع بالاستقرار وسعة الإمكانيات والقدرات) بين بيانات الاستنكار والتطوع للتوسط بين إسرائيل وحماس، في مفاوضاتٍ ماراثونيةٍ بمشاركةٍ مؤثرةٍ من الولايات المتّحدة، وعندما تقتصر القمم، المنعقدة تارة في السعودية وتارةً أخرى في القاهرة، على إصدار البيانات والمبادرات، يلاحظ مدى الحذر في إطلاق المواقف، الحذر الذي يمنح القيادة الصهيونية مزيدًا من الجرأة للمضي قدمًا في حرب الإبادة والتوسع، بكل ما تتطلبه من مجازر وتدمير.
خلال 18 شهرًا من التدمير الممنهج، الذي طاول كلّ مرافق الحياة في قطاع غزّة، والمجازر التي راح ضحيتها عشرات آلاف البشر، غالبيتهم من الأطفال والنساء، لم نلحظ موقفًا واحدًا فرديًا أو جماعيًا من الدول العربية يقول بوقف الحرب فورًا والعودة إلى التفاوض وإلّا...، هذه الـ"وإلا" غائبة تمامًا عن الموقف الرسمي العربي، ما يؤشر إلى الحضيض الذي وصل إليه. يكفي أنّه ما من دولةٍ عربيةٍ واحدةٍ تقيم علاقاتٍ مع الاحتلال أقدمت على قطع هذه العلاقات! هنا يتجرأ كاتب هذه السطور على القول، ليست القضية قضية تطبيعٍ مع دولةٍ محتلةٍ، بل قضية تطبيعٍ مع الإبادة والاقتلاع.. ألا يثير هذا شكوكًا مستقبليةً لدى شعوبنا المكتومة الأنفاس بأن احتمالات الإبادة ضدّها حاضرةٌ سواء على أيدي دولة الاحتلال، أو أيدي قوى النظام الحاكم، تمامًا كما حدث في سورية؟
لن يستطيع الاحتلال، في وقتٍ قياسيٍ، إبادة كلّ الغزيين، لذا تطوع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإطلاق مبادرته الداعية لإفراغ قطاع غزّة من أهله، وتحويله إلى عقارٍ للمرابع السياحية فوق دماء أهله. ما كان موقف الدول العربية حيال هذا الطرح الذي تجرّمه كلّ القوانين والشرائع الدولية؟ لم نسمع أيّة إدانةٍ صريحةٍ، بل بادرت تلك الدول إلى الرد بتبني مبادرةٍ مصريةٍ تقترح إعادة إعمار قطاع غزّة بوجود أبنائه ورفض ترحيلهم. بينما عقدت القمة في القاهرة كان استمرار الحصار والتجويع، إذ تجمعت شاحنات المساعدات خلف جدار رفح في الجانب المصري منذ أشهرٍ بانتظار سماح القوات الاسرائيلية بدخولها، ولن تسمح!
أسهم الموقف المتخاذل هذا في تجرؤ دولة الاحتلال على تشكيل مؤسساتٍ تعنى بالتهجير "الطوعي"، للناجين من القتل من فلسطينيي القطاع، وتأمين الممرات "الآمنة" لوصولهم، أو سوقهم إلى سفن الترحيل. أما إلى أين؟ فهذا لا يعني أحدًا...
إذ يتميز موقف مصر والأردن بمستوى لهجتهما في مواجهة ترحيل الشعب الفلسطيني، مرد ذلك الخوف من انتقال ملايين الفلسطينيين إلى البلدين، باعتباره تهديدًا لأمنهما القومي، الصحيح هو الخوف من تهديد نظامي الحكم في البلدين، هنا نتوقف عند الرد الحاسم والحازم الذي صدر عن المملكة السعودية ردًا على تصريحات رئيس حكومة الاحتلال في موقفه من طرح المملكة أنّه لن يكون تطبيعٌ مع إسرائيل الّا بعد التسليم بقيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، إذ قال "فليُقم السعوديون دولةً للفلسطينيين في السعودية". هنا انتفض قادة المملكة ردًا على ذلك معتبرينه عدوانًا سافرًا على سيادة المملكة.
كان لهزيمة ثورات الربيع العربي على أيدي الأنظمة وداعميها أثرٍ عظيمٍ على تراجع الفعل الشعبي على المستويات كافّة، داخليًا وعلى المستوى العربي العام
هنا نستذكر الموقف السعودي الحازم بوجه طلبات الإدارة الأميركية، بعد فرض العقوبات على روسيا ومقاطعة صادراتها من النفط والغاز، إذ رفضت المملكة زيادة إنتاج النفط لتعويض النفط والغاز الروسيين ومنع ارتفاع الأسعار، بل أكثر من ذلك؛ بخلاف إرادة الإدارة الأميركية عززت المملكة علاقاتها مع الصين الشعبية، وأسهمت في حضورها في المنطقة، ثمّ قبلت وساطتها مع إيران، وأعادت بالفعل علاقاتها بالأخيرة بناء على وساطة الصين. أظهرت هذه المواقف جرأة دبلوماسية عالية، لكن هذه الجرأة لم تتجلّ بأيّ نمطٍ في موقفٍ حازمٍ من حرب الإبادة على غزّة، إذ اقتصر الموقف السعودي على إعادة طرح مبادرة بيروت العربية لحلّ الدولتين، وربط التطبيع مع دولة الاحتلال (والإبادة) بتسليم دولة الاحتلال بقيام دولة فلسطينية. لم تطرح المملكة أيّ موقفٍ يدعو إلى محاسبة مرتكبي الإبادة مثلًا، ولم تبادر (هي أو سواها من الحكومات العربية) إلى إدانة أو رفض العقوبات التي فرضتها إدارة الولايات المتّحدة على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، أو إعلان الدعم له بعد إصداره مذكرة توقيف بحقّ رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو، ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت على خلفية جرائم الإبادة الجماعية في قطاع غزّة.
قد تنحكم المواقف العربية الحذرة حيال حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني إلى عدم الرغبة بإزعاج الولايات المتّحدة خشيةً ورهبةً، وطلبًا لاستمرار الإدارة الأميركية في اعتبارهم "شركاء" في المنطقة، لكن من يتابع تصريحات المسؤولين الصهاينة الوقحة سيرى أن أكثر الأنظمة العربية طواعية لن يكون بمنأى عن عدوانية الكيان المحتل.
لا بدّ من الإشارة هنا إلى تقاريرٍ تنشرها وسائل إعلام الاحتلال؛ حول تطور قدرات مصر العسكرية، والتحذير من تحولها إلى تهديدٍ مباشرٍ لإسرائيل، هذا بعد أن دمرت قوات الاحتلال كلّ ما تبقى من قدرات الجيش السوري، حتّى البسيطة والمتواضعة والمعدومة أو محدودة التأثير، على امتداد المساحة السورية، ودفعت بقواتها كي تحتل المنطقة العازلة، المنشأة باتّفاق فض الاشتباك (1974)، إضافةً إلى قمم جبل الشيخ السورية، ومناطق واسعة من الجنوب السوري في محافظتي القنيطرة ودرعا. قد يكون ذلك نوعًا من الضغط على النظام المصري، لتليين موقفه من تهجير الفلسطينيين، لكنه مؤشرٌ أيضًا على تمادي الاحتلال في عدوانه على سيادة الدول العربية أنظمةً وشعوبًا.
من سوف يحمي النظام الأردني في حال تقاطعت الطموحات الصهيونية مع المصالح الأميركية في إسقاطه واستبداله بالفوضى أو بنظامٍ دمية، بحيث يتاح لدولة الاحتلال تهجير الشعب الفلسطيني من الضفّة الغربية إلى شرقي الأردن؟ الأمر نفسه ينطبق على النظام المصري، وربّما غيره.
على المستوى الشعبي
تعرض حرب الإبادة المستمرة على غزة على الشاشات أمام العالم كلّه، حتّى إنّ جنودًا إسرائيليين قد صوروا ارتكابهم للفظائع بحقّ البشر والحجر والحيوانات في غزّة، ثمّ نشروها على وسائل التواصل الاجتماعي متباهين وفرحين وشامتين وساخرين. صوّر عناصر جيش نظام الأسد وأجهزة مخابراته، وكذلك عناصر المليشيات الطائفية الداعمة له كيف ينكلون بأفراد الشعب السوري على الحواجز وأثناء المداهمات، تعذيبًا وإذلالًا وقتلًا.. ثمّ نشروها على وسائل التواصل الاجتماعي. هنالك هدفان لهذا النشر المشين، سواء كان من سورية أو من غزّة، الأول تخويف -الناس من المصير نفسه، والثاني تعويد الناس على أن هذه الأفعال تحصل كي تصبح معتادة مع الوقت والتكرار.
كان لهزيمة ثورات الربيع العربي على أيدي الأنظمة وداعميها أثرٍ عظيمٍ على تراجع الفعل الشعبي على المستويات كافّة، داخليًا وعلى المستوى العربي العام. فما أصابها من مجازر وإبادة وحروب وتشرد ولجوء وإفقار طاول العديد من البدان، وشلّ مقدرتها على التحرك الفاعل، سواء في التصدي لمواقف الأنظمة، أو التوحد في مواجهة الخطر الصهيوني. كما تشرذمت النخب بين ممانعٍ ومهادنٍ ولامبالٍ، والباحث عن مكان على هوامش القوى المتنفذة، وبين مبرري جرائم الاحتلال. هذا عاملٌ أساسيٌ ثانٍ أسهم في الانقسامات والتذرر على المستويات الشعبية، وعطل فاعلية أيّ حراك شعبي عربي مأمول.
أسهم الموقف المتخاذل هذا في تجرؤ دولة الاحتلال على تشكيل مؤسساتٍ تعنى بالتهجير "الطوعي"، للناجين من القتل من فلسطينيي القطاع
حرب الإبادة الاسرائيلية لن تقتصر على قطاع غزّة
يفتح التطبيع مع الإبادة المجال أمام تكرارها في أكثر من مكانٍ، وأكثر من بلدٍ، وفي مواجهة أيّ مجتمعٍ، وعلى يد أيّة قوّةٍ معاديةٍ داخليةً كانت أم خارجية، هنا مكمن الخطورة.
ما لم تعِ الدول والحكومات والأنظمة والشعوب خطورة ما ترتكبه دولة الاحتلال الصهيوني في قطاع غزّة، وتاليًا في الضفّة الغربية، أي ليس ضدّ الشعب الفلسطيني فقط، وليس في وجه حماس فقط، بل أيضًا مع سلطة محمود عباس نفسها، فلا غرابة أن تمتد يد الغدر الصهيونية حين تحين الفرص إلى الأردن ومصر، كما هي ممتدة اليوم إلى سورية ولبنان. لست هنا في موقع الخوف على الأنظمة، لكن صمتها أو تخاذلها أو تواطؤها لن يحميها، كما لن يحمي شعوبها من جرائم الإبادة المتنقلة، التي ترتكبها وستواصل ارتكابها دولة الاحتلال، لسببٍ بسيطٍ أنّها ترى في كلّ عربيٍ وليَّ دمٍ لا بدّ يومًا أن ينتقم من قاتليه.